في بيتي مراهق
8 فبراير، 2025
بناء الأسرة والمجتمع

بقلم : الدكتور مصطفى عبد الله باحث في العلوم الإنسانية
وكأنني أقف أمام لوحة فنية رسمتها الفوضى المتناسقة، ألوانها تمرد، وخطوطها حيرة، وظلالها خوف ورغبة في الانطلاق.
في بيتي مراهق – نصفه طفل، ونصفه رجل، وبينهما معركة لا تهدأ.
ليس طفلا يسير خلفي مطمئنا، ولا رجلا يستند إلي بحكمة وتجربة، بل مخلوق يقف على الحد الفاصل بين الطفولة والنضج، بين البراءة والتمرد، بين الاحتياج والاستقلال.
يريد أن يحلق بأجنحة لم تكتمل، ويسير في دروب لم يعرف وعورتها بعد، لكنه يرفض أن يقاد، وإن كان يجهل الطريق.
إنه كالشمس وقت المغيب، يحمل من النهار بقايا نوره، لكنه يودع ضياءه ليستقبل عتمة لا يعرف مداها، يتخبط بين الأمس والغد، يقف على حافة الإدراك، تتلاطم داخله المشاعر، فيصرخ دون صوت، ويتألم دون أن يشكو، يحاول أن يكون قويا لكنه لا يزال هشا، يبحث عن نفسه في وجوه الآخرين، وفي كل خطوة يقترب من النضج، يبتعد عني أكثر.
يريد أن يكون سيد نفسه، لكنه لا يدري أنه أسير خوفه.
يرفض التوجيه وكأن فيه انتقاصا لوجوده، يتمرد على النصيحة، لكنه في اغواره يبحث عن إرشادي، يتجنب عيني حين أخاطبه، لكنه يراقبني من بعيد ليرى إن كنت أراه.
بيننا لغة غير منطوقة، معركة غير معلنة، هو يسعى للحرية، وأنا أسعى لحمايته، وبيننا شعرة لا أريد أن تنقطع، فكيف لي أن أكون سندا لا قيدا، وحدودا لا سجنا؟
إنه يشبه البحر في هدوئه وغضبه، أحيانا يفيض بمشاعر لا أدرك كنهها، وأحيانا يجف وكأنه بلا إحساس.
يبتسم وفي داخله عاصفة، يبكي وهو يدعي القوة، يتحدى وهو في أشد لحظات ضعفه.
يرغب في أن يسمع صوته، لكنه يخشى أن يساء فهمه، فيلجأ إلى الصمت أو التمرد، وكأن العالم بأسره يقف ضده، وكأن أحدا لا يفهمه.
وأجدني أمامه متحيرا، كيف أقترب منه دون أن يهرب؟ كيف أمنحه الحرية دون أن أخسره؟ كيف أكون صديقا دون أن أفقد دوري كأب أو أم؟ كيف أوفر له الأمان دون أن يشعر أنني أقيده؟
المراهقة ليست مجرد مرحلة عمرية، بل زلزال يضرب كيان الأسرة، يختبر صبرها وحكمتها، يجعلها تسير على خيط رفيع بين الاحتواء والتوجيه، بين الحب والانضباط، بين التفهم والحزم.
لا قوانين ثابتة في التعامل مع المراهقين، فكل واحد منهم قصة مستقلة، لكن ما يجمعهم هو ذلك الشعور القوي بالحيرة، بالحاجة إلى من يفهمهم دون أن يفرض عليهم، بمن يترك لهم مساحة الاكتشاف دون أن يتخلى عنهم.
وفي النهاية، أدركت أنني لا أملك أن أوقف الزمن، ولا أن أختصر التجربة، لكنني أستطيع أن أكون ذلك الظل الذي لا يغيب، الذي إن تاه عاد إليه، وإن جرحته الحياة كان ملجأه، وإن نجح كان أول المهنئين له.
فالمراهقة ليست حربا نخوضها ضدهم، بل رحلة علينا أن نرافقهم فيها بحكمة، حتى يصلوا إلى بر الأمان دون أن يفقدوا أنفسهم أو يفقدونا في الطريق.