بين التقدم والتخلف: وهم المفاهيم المطلقة ونسبية القيم بين الفلسفة والسياسة

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )

 

تحتل مصطلحات مثل “التقدم”، “التخلف”، و”الرجعية” مكانة محورية في الخطابات السياسية والاجتماعية والثقافية، لكنها في جوهرها مصطلحات متحركة ومطاطة تتغير مع الزمن وتختلف باختلاف الثقافات. فهي ليست حقائق موضوعية بقدر ما هي انعكاسات لأيديولوجيات ومصالح قوى معينة. ما يُعتبر تقدمًا في سياق ما قد يُعتبر انحطاطًا في سياق آخر، والعكس صحيح.

تسعى هذه المقالة إلى معالجة هذه الإشكالية من زوايا متعددة: الفلسفية، النفسية، الاجتماعية، والسياسية، مع تقديم أمثلة ونظريات فلسفية تدعم نسبية هذه المفاهيم، وصولًا إلى فهم أعمق لمعانيها المتغيرة عبر الزمن.

النسبية الثقافية: مفهوم التقدم بين الشعوب

تُظهر النسبية الثقافية، التي أرسى أسسها الأنثروبولوجي فرانز بواس، أن القيم والتصورات المجتمعية تُبنى ضمن سياقات ثقافية محددة. في هذا السياق، فإن ما يُعتبر تخلفًا في مجتمع معين قد يُعتبر إرثًا حضاريًا غنيًا في مجتمع آخر.

على سبيل المثال، المجتمعات الريفية التي تعتمد على الزراعة التقليدية ترى في تقاليدها الزراعية مصدرًا للحكمة والاستدامة، بينما قد ينظر إليها مجتمع صناعي على أنها مثال على التخلف لعدم استغلالها التكنولوجيا الحديثة. كذلك، الشعوب الأصلية في أمريكا اللاتينية التي تحتفظ بنمط حياتها التقليدي ترى في ذلك احترامًا للبيئة وتوازنًا مع الطبيعة، بينما قد يُعتبر هذا “بدائية” من قبل الحضارة الغربية التي تمجد الإنتاج والاستهلاك.

الجذور الفلسفية لنسبية القيم

نيتشه: إرادة القوة وصياغة القيم

يرى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أن القيم ليست مطلقة بل هي أدوات يستخدمها الأقوياء لفرض إرادتهم على الضعفاء. عبر مفهوم “إرادة القوة”، يوضح نيتشه أن المجتمعات القوية تُعيد تعريف مفاهيم مثل التقدم والتخلف بما يخدم مصالحها.

على سبيل المثال، خلال الحقبة الاستعمارية، صنفت الدول الأوروبية شعوب آسيا وإفريقيا على أنها “متخلفة” و”غير متمدنة”، ما منحها مبررًا أخلاقيًا لاستعمارها ونهب مواردها، في حين أن هذه الشعوب كانت تمتلك أنظمة اجتماعية وثقافية مستقرة.

هيدغر: أزمة الحداثة وانحراف التقنية

يتناول مارتن هيدغر فكرة التقدم من زاوية التقنية. يرى هيدغر أن المجتمعات الحديثة، التي تُمجد الإنتاج والاستهلاك التقنيين، اختزلت الإنسان في كونه مجرد أداة، متجاهلة العمق الإنساني والروحي. هذا الانحراف، وفقًا لهيدغر، هو انعكاس لنظرة مشوهة للتقدم.

مثال ذلك الثورة الصناعية، التي اعتبرتها المجتمعات الأوروبية قفزة نوعية، بينما رأى المفكرون البيئيون في العصر الحديث أنها بداية لتدمير البيئة واستغلال الإنسان.

التحليل النفسي: القيم كمرآة للاحتياجات

وفقًا لنظرية “هرم ماسلو للاحتياجات”، فإن الأولويات النفسية للمجتمعات تحدد تصوراتها عن التقدم والتخلف. المجتمعات التي تكافح لتلبية احتياجاتها الأساسية قد ترى في القيم التقليدية مثل العائلة والأمان الاجتماعي تقدمًا لأنها توفر الاستقرار.

على سبيل المثال، خلال الأزمات الاقتصادية العالمية، مثل الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، لجأت العديد من المجتمعات الغربية إلى سياسات محافظة للحفاظ على استقرارها. بينما في أوقات الازدهار، مثل ستينيات القرن الماضي، شهد العالم الغربي موجات من الحركات التحررية التي اعتبرتها مجتمعات أخرى شكلًا من أشكال الانحطاط.

البعد الاجتماعي: بين التقاليد والتحديث

يرى بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي، أن القيم المجتمعية ليست سوى انعكاس لصراع القوى داخل المجتمع. فالنخب تستخدم مصطلحات مثل التقدم والتخلف لإعادة صياغة القيم بما يعزز هيمنتها.

على سبيل المثال، خلال عصر النهضة في أوروبا، اعتُبرت الفنون الكلاسيكية والإحياء الفكري تقدمًا هائلًا. لكن في ذلك الوقت، كانت هذه الحركة تُمثل انقلابًا على التقاليد الدينية والاجتماعية التي كان ينظر إليها العامة على أنها مصدر الاستقرار.

أمثلة حضارية متعددة ومفصلة

العصر الذهبي الإسلامي: التقدم في مقابل التخلف الأوروبي

في القرن الثامن إلى الثالث عشر، كان العالم الإسلامي يعيش عصرًا ذهبيًا من التقدم العلمي والثقافي، بينما كانت أوروبا تعيش ما يُعرف بالعصور الوسطى المظلمة. العلوم والفلسفة والطب ازدهرت في بغداد وقرطبة، واعتبر المسلمون هذا العصر رمزًا للتقدم.

لكن هذا التقدم لم يكن محل إجماع عالمي. الأوروبيون الذين احتكوا بالحضارة الإسلامية أثناء الحروب الصليبية رأوا في هذا الانفتاح العلمي والثقافي تهديدًا للعقيدة المسيحية. بالنسبة لهم، كان التقدم الإسلامي “انحطاطًا” لأنه شكك في الأسس الدينية.

الثورة الصناعية: تقدم أم استغلال؟

كانت الثورة الصناعية في أوروبا مثالًا على التقدم التقني والاجتماعي، حيث أدت إلى تطوير الآلات وزيادة الإنتاج وتحسين مستوى المعيشة في المدن. لكن بالنسبة للطبقة العاملة، كان هذا التقدم كارثة. فظروف العمل القاسية، والاستغلال الاقتصادي، والهجرة من الريف إلى المدن، جعلت كثيرين يعتبرون الثورة الصناعية تهديدًا للقيم التقليدية.

الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر، مثل روايات تشارلز ديكنز، يُبرز هذا الصراع بين التصور الرأسمالي للتقدم ومعاناة الطبقات الدنيا.

الثورة الثقافية في الستينيات: انفتاح أم انحطاط؟

في الستينيات، شهد العالم الغربي موجة من الحركات التحررية التي طالبت بالمساواة بين الجنسين، وحقوق الأقليات، والتحرر الثقافي. بالنسبة للشباب في ذلك الوقت، كان هذا تقدمًا غير مسبوق. لكن بالنسبة للمجتمعات المحافظة، كان هذا انحطاطًا يهدد القيم التقليدية.

على سبيل المثال، الحركات النسوية التي طالبت بالمساواة بين الجنسين أثارت جدلًا في المجتمعات العربية والإسلامية التي رأت في ذلك تهديدًا لدور المرأة التقليدي في الأسرة.

السياسة وألعاب المصطلحات

لا يمكن فهم مفاهيم التقدم والتخلف دون النظر إلى الأبعاد السياسية. القوى الكبرى تستغل هذه المصطلحات لفرض نفوذها وتبرير تدخلاتها.

خلال الحرب الباردة، صنفت الولايات المتحدة الاتحاد السوفيتي على أنه “رجعي” لأنه يعارض الرأسمالية، بينما اعتبر الاتحاد السوفيتي أن الرأسمالية نفسها “رجعية” لأنها تعزز التفاوت الطبقي.

في العالم العربي، استخدمت الأنظمة الحاكمة مصطلحات مثل “التقدم الاشتراكي” أو “النهضة القومية” لتبرير سياساتها، بينما وصفت المعارضين بأنهم “رجعيون” أو “عملاء للاستعمار”.

دعوة إلى إعادة النظر

إن مفاهيم التقدم والتخلف ليست حقائق مطلقة، بل هي انعكاس لمصالح أيديولوجية وصراعات ثقافية.
ما يُعتبر تقدمًا في سياق ما قد يُنظر إليه كرجعية أو انحطاط في سياق آخر.

لذلك، من المهم أن نتبنى منظورًا أكثر شمولية يحترم التنوع الثقافي، ويعيد تعريف القيم بعيدًا عن المصالح السياسية. التقدم الحقيقي هو القدرة على تحقيق التوازن بين القيم المادية والروحية، واحترام حق الشعوب في صياغة مساراتها الخاصة بعيدًا عن الضغوط الخارجية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *