أشقى من ذي عقل!

بقلم الشيخ: سيد الشاعر الشافعي الأزهري

في ليلة مُظلمة بدا فيها القمر على استحياء شديد كأنه ينظر إليَّ خلف ستار يحجبني عنه ويَتَخَفَّى هو وراءه ، ولستُ أدري ما الدَّاعي لهذه النظرات التي أوقدت أفكاري وقد خرجْتُ في تلك الليلة مُتَعَرِّضَاً لهَبَّات النَّسِيم علَّها تُطْفِئ لهيبَ الفكر فتهدأ النَّفْس التي ما أزعجها غيره ، وإن لم يكن هو فمن؟!!

رغم إنه حيث هو نعمة كبيرة لبني جلدتنا ، إلا إنه اليوم صار كالدَّاء العُضَال الذي يَفِرُّ الناس من صاحبه الذي ابتُلِيَ به! ، ولسان حاله يقول : لقد ابتلي فلانٌ بداء العقل!!

هكذا يراه الناس ؛ وهكذا يرون صاحبه ، فهل ترى يا صديقي في هذه الدنيا أشقى من ذي عقل؟!

هذا الذي أورده المهالك ، فتراه يُصغِي السمع لكل من حَاوَرَهُ فيسمع كلاماً ليس من جنس الكلام ، ولا علاقة بين الكلام وبين ما يقول ؛ إلا حروفاً نعرفها جميعاً لكن عليك جمعها وترتيبها في جُمَلٍ إنشائية لتخرج بنتيجة لا مفهومة ولا معقولة!!

فلا ترتاب بعدها وأنت الذي ألقيت سمعك علَّك تجد ما يُلامِس روحك أو ما يخفف عنك وطأة الوحدة التي ألزمك إياها عقلك ، في أنك أنت الذي لم تفهم! ، لأنك لم تستطع أن تتلقف هذه الكلمات ـ أقصد الحروف ـ من حيث قذف بها صاحبها ثم تضعها في أماكنها! ثم تستخرج من النص!!

ثم لا تَرُدُّ عليه بعد هذا العناء إلا بما يوافق هواه ، فإن لم تفعل ؛ فلا تلمه على سوء ظنه بك ، ومعايرته لك ؛ وأنت صاحب العقل الذي لم يفهم!!
تَرَيَّثْ واصْطَبِر ولا تتعجل المغادرة لأنك لم تعرف المُرَاد أو لأني نَكَأْتُ فيك جُرحاً غائراً في أعماقك ، تَصبَّر!

خرجت وحدي ثم التقيتك فازددت يقيناً أن الذي أخرجني هو الذي أخرجك ، فلا تنسى ؛ لا سهواً ولا عمداً ولا جِبِلَّةً ، فما استقذر الناسُ العقلَ إلا لما نسينا.

في هذه الليلة يا صديقي لم تكن نظرات القمر على استحياء كما وصفت لك ؛ بل كان يُحَذِّرُني مَغَبَّة الطريق ، كان يُلَوِّحُ لي بطرف عينه إشارة أن عُدْ من حيث أتيت ، لكن لانشغالي بحالي وإعمال فكري في هذه الأمور التي انقلبت رأساً على عَقِب ؛ لم أنتبه لإشارته وما روَّعتني تحذيراته ؛ لكني مَشَيْتُ وأكملت الطريق رغم ظُلْمَتِه وهدوءه ، هدوءاً مُخيفاً مُقلقاً لا أسمع إلا حفيف الاشجار ، لا أرى في هذه السماء إلا القمر الذي توارى عني وحوله ثُلَّة قليلة من النجوم باهتة لا ضوء لها ، وطريقي وَعِرٌ والأمر كما وصفت لك ، ثم سكنت الريح ، فلم أجد شيئاً مما خرجت لأجله ، وكان يجب علي بعد كل هذه الاشارات والعلامات أن أعود من حيث أتيت ، لكني شعرت بشيءٍ داخلي يدفعني دفعاً نحو الأمام ولم أكن خائفاً ؛ كنت قلقاً! حتى اشتعلت نيران الفكر مرة أخرى ، فعدت إلى ما أخرجني!!

اترك تعليقاً