بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
الدروز الموحدون: تاريخ، معتقدات، وأسرار الطائفة التي أثارت الجدل عبر العصور
الدروز الموحدون هم جماعة دينية نمت في ظروف معقدة، وتاريخهم مليء بالغموض والتفاصيل التي أسهمت في تشكيل هوية مميزة جعلتها محط أنظار الجغرافيين والمؤرخين والفلاسفة. الدرزية، التي تنتشر في مناطق متعددة من العالم العربي، تمتاز بعقائدها الفريدة ونظامها الاجتماعي والسياسي الذي يتمحور حول مفهوم التوحيد، مع عقائد في التقمص والروحانيات جعلتها موضع تساؤلات وغموض منذ نشأتها وحتى اليوم. في هذا المقال، سنغوص في عمق تاريخ الدروز، من نشأتهم الأولى إلى معتقداتهم الفلسفية، مرورًا بمؤسساتهم الدينية وأبرز أئمتهم، وتوزعهم الجغرافي في العالم العربي، ونستعرض التحديات التي واجهوها على مر العصور.
النشأة والتاريخ المبكر للدروز
تعود جذور الدرزية إلى العصر الفاطمي في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث نشأت في قلب الدولة الفاطمية، وهي دولة شيعية أسسها الفاطميون الذين كانوا يدعون أنهم نسل من الإمام علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء. كان الحاكم الفاطمي بأمر الله (996-1021م) أبرز شخصية محورية في تاريخ الدروزية، إذ نشر أفكارًا دينية وفلسفية جديدة تتعلق بالتوحيد والإلهية والروحانية، وادعى أنه الإله المرسل على الأرض، وهو ما أوجد تيارًا دينيًا جديدًا استقطب الكثير من الأتباع.
إلا أن الدرزية لا تنسب تأسيسها لحاكم بأمر الله فقط، بل يُعتبر حمزة بن علي الزوزني (المتوفى في 1021م) أحد المؤسسين البارزين لهذا المذهب. حمزة بن علي، وهو من أبرز رجال الفكر الفاطميين، كان له دور أساسي في صياغة المعتقدات الدرزية وتحديد ملامحها الفلسفية والدينية. يُعتبر حمزة بن علي شخصية محورية، إذ تبنى مفهوم التوحيد الشامل، الذي يعني أن الله لا يُمكن تمثيله أو تعريفه بشكل مادي، بل هو موجود في كل شيء في الكون. كان حمزة بن علي يعتقد أن الله لا يظهر إلا من خلال الأئمة المعصومين، وأن المعرفة الحقيقية لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق هؤلاء الأئمة.
في هذه الحقبة، بدأ أتباع حمزة بن علي بتشكيل جماعة دينية تتمحور حول أفكاره، ويشمل ذلك مفهوم “الإيمان الغيبي” و”التوحيد” الذي يعبر عن فهمهم الروحاني للوجود، وهو ما جعلهم يتبنون طقوسًا دينية سرية لا يفهمها الجميع.
المعتقدات والتقمص
تعتبر المعتقدات الدينية للدروز من أكثر العقائد المثيرة للجدل في العالم العربي. وعلى الرغم من تشابه بعض هذه المعتقدات مع المذاهب الإسلامية الشيعية، إلا أن الدروز يتمسكون بمفاهيم خاصة ترتبط بالتوحيد. يتمحور المعتقد الرئيسي حول الاعتقاد بأن الله واحد، ولكن بشكل غير تقليدي، حيث لا يمكن الإشارة إليه أو تحديده في أي صورة بشرية أو مادية. يؤمن الدروز بأن الله قد تجلى في كل شيء في الكون، وأنه لا يعبر عن ذاته إلا من خلال الأئمة المختارين الذين يمثلون السلطة الروحية والدينية.
أما عن الاعتقاد بالتقمص أو التناسخ، فهو يعتبر من الركائز الأساسية في المعتقدات الدرزية. وفقًا لهذه العقيدة، يُعتقد أن الأرواح لا تموت، بل تنتقل من جسد إلى جسد آخر بعد موت الشخص، وتستمر الدورة حتى تحقق الروح كمالها الروحي. هذه الفكرة تشترك مع بعض الفلسفات الهندية القديمة، مثل الهندوسية والبوذية، التي تؤمن أيضًا بتناسخ الأرواح. يرى الدروز أن الأرواح تتنقل وفقًا للعدل الإلهي، وتخضع لقاعدة “الاختبار” الروحي، حيث يمر الإنسان بعدة تجسدات قبل أن يصل إلى الحالة المثلى من النقاء الروحي.
ومن أبرز ما يميز المعتقدات الدرزية هو احترامهم للعلم والفلسفة. يعتقد الدروز أن الفلاسفة العظام مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو كانوا أنبياء أو مبعوثين من الله لإيصال الحكمة والمعرفة للبشرية. يرون أن هؤلاء الفلاسفة كانوا يمثلون تجليات لله على الأرض، وأن تعاليمهم تحمل الحكمة التي يمكن أن تساعد في تطهير الروح. لذا، يعتبر الفلسفة جزءًا من الدين، ويجب دراستها والتأمل في معانيها، مما يضفي على الديانة الدرزية صبغة فكرية وفلسفية عميقة.
السرية والمبدأ الباطني
يُعتبر المبدأ الباطني أحد أبرز سمات المعتقدات الدرزية، إذ أن ديانتهم تُعتبر سرية للغاية ولا يُسمح لأحد جديد بالانضمام إلى صفوفهم. الدروز ليسوا طائفة تبشيرية؛ بمعنى أنهم لا يسعون لنشر دينهم بين الناس، بل يشترطون أن يكون الدرزي درزي بالولادة أي من أم و أب درزيان. كما يعتقد الدروز أن المعرفة الحقيقية لا يمكن أن يحصل عليها إلا الأفراد الذين يمتلكون “الاستعداد الروحي” و”الإرادة الإلهية”، أي أولئك الذين تم اختيارهم من قبل الله من أجل حمل هذه الأسرار. هذه السرية تجعل من الديانة الدرزية عقيدة مغلقة، ويُعتبر انضمام أي فرد إليها أمرًا مستحيلًا ويجب أن يتطلب “الاختيار الإلهي”. يُضاف إلى ذلك أن طائفة الدروز تعتبر باطنية منفرة، حيث أنهم يرفضون قبول أي شخص جديد في دينهم، مما يعزز من طابعها المغلق على نفسها. ولا تُقبل أي دعوة من أتباع الطائفة لأفراد خارجها للانضمام.
أئمة الدروز والمنظومة الدينية
الدروز لا يعترفون بسلطة رجال الدين بالمعنى التقليدي كما في الطوائف الأخرى؛ بدلاً من ذلك، يعتمدون على مجموعة من الأئمة الذين يعتبرون مرشدين روحانيين يحملون معرفة سرية وعميقة لا يمكن لأي شخص عادي الوصول إليها. هؤلاء الأئمة لا يتبعون نهجًا ماديًا في التعليم، بل يتبنون مناهج فلسفية روحانية متقدمة. كان الإمام “الحاكم بأمر الله” واحدًا من أبرز الشخصيات التي تعتبر مرجعًا رئيسيًا لدى الدروز، إذ يؤمنون بظهوره في حياة البشر بشكل إلهي وتوجيهه للأمة عبر الأئمة.
من أبرز الأئمة أيضًا الإمام “مؤيد الدين الدنوشي” الذي كان له دور كبير في تحديد وتوضيح المبادئ الدينية في أوساط الطائفة. وتستمر العائلة “الأئمة” في دورها على مدى الأجيال، حيث يتم اختيار الأئمة بناءً على مبدأ المعرفة والقدرة على تفسير الكتب الدينية بشكل صوفي فلسفي.
الكتب المقدسة والتقاليد الدينية
لا يمتلك الدروز نصًا مقدسًا واضحًا كما هو الحال في الديانات الأخرى مثل القرآن الكريم في الإسلام أو التوراة في اليهودية. لكن لديهم مجموعة من الكتب والمراسلات التي تعتبر المصدر الأساسي لتعاليمهم. من أبرز هذه الكتب “الرسائل الحكيمية”، التي يتضمنها الأدب الدرزي وتعتبر مرجعية من حيث تعاليم التوحيد، و”كتاب الجواهر” الذي يُعتبر مصدرًا أساسيًا لفهم فلسفة التقمص عندهم. تُنسب هذه الكتب إلى أئمتهم الأوائل، وتعتبر بمثابة مرجع فلسفي وديني في تفسير معاني الحياة والوجود.
إضافة إلى الكتب، يعتمد الدروز على “المراسلات” – وهي مجموعة من رسائل سرية يتم توجيهها من الأئمة إلى أفراد الطائفة تتضمن الإرشادات الروحية والتعليمات الخاصة. يُعتبر الالتزام بهذه الرسائل جزءًا من تقاليد الطائفة، وتُشدد على السرية والحفاظ على القيم الدينية والروحية.
التوزع الجغرافي وتحديات الوجود
يعيش الدروز بشكل رئيسي في أربع دول عربية هي: لبنان وسوريا وفلسطين والأردن. في لبنان، يتمركز الدروز بشكل أساسي في جبل لبنان والمنطقة الجبلية الجنوبية، حيث كان لهم دور كبير في التاريخ اللبناني منذ العصور الوسطى. كان لهم تأثير سياسي واجتماعي هائل، حيث شكلوا جزءًا من النخبة الحاكمة في بعض الفترات التاريخية، مثل خلال فترة الإمارة الشهابية في القرن التاسع عشر. أما في سوريا، فإن الدروز يتواجدون بشكل رئيسي في “جبل الدروز” في محافظة السويداء، حيث يشكلون غالبية السكان في المنطقة.
في فلسطين، توجد تجمعات درزية في مناطق الجليل ومرج ابن عامر، بينما في الأردن يعيشون في مناطق مثل عجلون والبلقاء. بالرغم من كونهم أقلية في هذه الدول، إلا أنهم يتمتعون بنفوذ قوي في المجالات السياسية والاجتماعية.
ورغم تعرضهم للعديد من التحديات السياسية في البلدان التي يعيشون فيها، خصوصًا في ظل الصراعات الطائفية، فإنهم حاولوا دائمًا الحفاظ على حيادهم السياسي والاجتماعي. وقد كان لهم دور في حروب الاستقلال والثورات ضد الاستعمار، حيث اشتهروا بمواقفهم الوطنية، لا سيما في سوريا ولبنان.
التحديات الاجتماعية والسياسية
لم يكن تاريخ الدروز خاليًا من التحديات والمحن. في فترات عديدة، تعرضوا للاضطهاد والتمييز بسبب معتقداتهم، لا سيما من قبل القوى الدينية والسياسية السائدة في المنطقة. في العصور الوسطى، كانت الدروز تُعتبر طائفة “هرطقية” في نظر العديد من الفقهاء المسلمين، ما أدى إلى تصاعد التوترات بين الدروز والمجتمعات السائدة. في بعض الفترات، تعرضوا للتهجير والمذابح بسبب خلافاتهم العقائدية.
ومع تطور الوضع السياسي في العالم العربي خلال القرن العشرين، وخاصة في ظل الانقلابات الثورية والصراعات الإقليمية، وجد الدروز أنفسهم أمام تحديات جديدة تتعلق بوجودهم في المجتمعات الحديثة. ومع ذلك، استطاعوا الحفاظ على هويتهم الروحية والاجتماعية بشكل استثنائي، حيث لم يسمحوا للضغوط السياسية بأن تؤثر على تقاليدهم وأعرافهم الدينية.
الدروز الموحدون يمثلون أحد الألغاز الدينية والفكرية في العالم العربي. جماعة تمازجت فيها الفلسفة مع الدين، والعقائد مع الروحانيات، مما جعلها محط دراسة واهتمام. معتقداتهم حول التقمص والتوحيد تثير الكثير من الجدل، لكن في ذات الوقت تعكس روحًا من التفرد والخصوصية التي لا تجدها في أي جماعة أخرى. إن تاريخهم الطويل والمعقد، وكذلك تمسكهم بهويتهم الروحية، يجعلهم علامة فارقة في تاريخ الفكر الديني في العالم العربي.