بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
الكبر والغرور من الصفات الإنسانية التي طالما أثارت الجدل عبر التاريخ، ليس فقط بسبب آثارها الاجتماعية، ولكن أيضًا لما تحمله من تعقيدات نفسية وفلسفية. هذه الظاهرة تتجاوز كونها سلوكًا شخصيًا لتصبح موضوعًا مرتبطًا بالهوية البشرية، طبيعة العلاقات الاجتماعية، وحتى مفهوم الإنسان عن ذاته والكون من حوله. فهل الكبر مرض نفسي؟ أم أنه نتاج بيئة وتربية؟ وكيف يمكن تفسيره علميًا وفلسفيًا؟
الجذور النفسية للكِبر والغرور:
علم النفس يرى أن الكبر غالبًا ما يكون وسيلة دفاعية للتعامل مع الشعور بالنقص أو الهشاشة الداخلية.
يشير عالم النفس ألفريد أدلر في نظرية “تعويض النقص” إلى أن الغرور ينشأ عندما يحاول الإنسان تعويض شعوره بالعجز أو الدونية. فالشخص الذي يشعر بعدم الكفاءة قد يلجأ إلى المبالغة في تقدير ذاته لإخفاء هذا الشعور.
من جهة أخرى، يرتبط الغرور بمفهوم “الذات المثالية” في نظرية كارل روجرز، حيث يحاول الفرد بناء صورة مثالية عن نفسه تتجاوز ما يراه حقيقيًا، وعندما يفشل في تحقيق هذا النموذج المثالي، يظهر الكبر كآلية لتعزيز هذه الصورة أمام الآخرين.
الأسباب الاجتماعية والتربوية:
التنشئة الأسرية تلعب دورًا محوريًا في تشكل الغرور. عندما يُربى الطفل على التميز المطلق، دون توجيه لفهم أهمية التعاون والاحترام المتبادل، قد ينمو لديه شعور بالتفوق. في المقابل، التربية التي تعتمد على الإذلال والقمع يمكن أن تدفع الفرد لتعويض هذا القهر باللجوء إلى الكبر كوسيلة لإثبات ذاته.
اجتماعيًا، تُعزز ثقافة المنافسة المفرطة التي تركز على الإنجازات الفردية الشعور بالغرور.
المجتمعات التي تربط النجاح بالقوة أو الثراء أو المكانة الاجتماعية تشجع الأفراد على السعي للتميز بأي ثمن، مما قد يؤدي إلى تضخيم الأنا.
هل الكبر مرض نفسي أم مكتسب؟
من منظور علم النفس الحديث، الكبر قد يكون عرضًا لاضطراب نفسي مثل اضطراب الشخصية النرجسية. يتميز هذا الاضطراب بشعور متضخم بالأهمية الذاتية، ونقص في التعاطف، وحاجة مفرطة للإعجاب.
ومع ذلك، ليس كل شخص متكبر يعاني من اضطراب نفسي.
الدراسات العلمية:
أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد أن الأشخاص الذين يعانون من الكبر يبدون نشاطًا زائدًا في منطقة القشرة الجبهية الأمامية المرتبطة بتقدير الذات والتحكم الاجتماعي.
دراسة أخرى نُشرت في مجلة Journal of Personality and Social Psychology أشارت إلى أن الغرور مرتبط بالشعور بالعزلة، حيث يعاني المتكبرون من صعوبة في بناء علاقات عميقة.
هل للكبر جذور جينية؟
رغم أن الكبر سلوك مكتسب بشكل أساسي، إلا أن بعض العلماء يشيرون إلى دور الجينات في تشكيل سمات الشخصية التي قد تزيد من احتمالية التكبر، مثل الانبساطية والانطوائية. الجينات المرتبطة بالدوبامين (هرمون المكافأة) تؤثر على شعور الشخص بالإنجاز والتقدير الذاتي، ما قد يجعل بعض الأفراد أكثر عرضة للشعور بالتفوق.
الفنانون والفشل والطموحات: فئات أكثر عرضة للكبر
يعتبر الفنانون من أكثر الفئات عرضة للإصابة بالكبر والغرور. ذلك أن الفن، من طبيعته، يتيح مجالًا كبيرًا للتعبير عن الذات، ويعزز من ظهور الفرد في الأضواء. في بعض الحالات، عندما يحقق الفنان الشهرة أو النجاح، قد يؤدي ذلك إلى تضخم الذات والشعور بالتفوق على الآخرين. ولكن إذا فشل الفنان في تحقيق طموحاته أو أُصيب بالإحباط بسبب العوائق التي تواجهه، فقد يكون الكبر وسيلة دفاعية للهروب من مشاعر الفشل والضعف الداخلي.
الفنانون غالبًا ما يكونون في مواجهة مباشرة مع تقييمات الآخرين، ونتيجة لذلك قد يكون لديهم حساسية مفرطة تجاه النقد أو الفشل. هذا ما يجعل بعضهم، خاصة الذين لم يحققوا النجاح المتوقع أو الذين تعرضوا لمشاكل في حياتهم المهنية، يظهرون سلوكيات متكبرة لتعويض الشعور بالخذلان.
تعتبر مهن أخرى أيضًا من بين أكثر المجالات التي يظهر فيها الكبر، مثل مهن السياسة والأعمال. في هذه المجالات، يكون النجاح غالبًا مرهونًا بالظهور والتفوق على الآخرين، مما يؤدي إلى تراكم الغرور وتضخم الأنا، خاصة في حال تحقيق مكاسب كبيرة أو تجاوز المنافسين.
القراءة الفلسفية للكبر والغرور:
من منظور فلسفي، ناقش الفلاسفة مفهوم الكبر باعتباره جزءًا من الطبيعة البشرية. سقراط رأى أن الجهل أساس الكبر، إذ إن الإنسان الذي يدرك جهله يتواضع بطبيعته. أما نيتشه فقد نظر إلى الكبرياء كوسيلة للتأكيد على قوة الفرد، لكنه انتقد الغرور لأنه يعكس ضعفًا داخليًا.
جان بول سارتر أشار إلى أن الغرور قد يكون محاولة من الإنسان لإثبات وجوده في عالم يفتقر إلى المعنى، ما يعكس حاجة عميقة للاعتراف.
الإسلام ورؤية الكبر والغرور:
الإسلام يُصنف الكبر والغرور ضمن الأخلاق المذمومة التي تؤدي إلى فساد النفس والمجتمع. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد” (رواه مسلم).
الآيات القرآنية تركز على التذكير بحقيقة الإنسان وضعفه. يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” (فاطر: 15).
الإسلام لا يرفض الاعتزاز بالنفس، لكنه يرفض الكبر الذي يؤدي إلى احتقار الآخرين أو رفض الحق.
الكبر في ميزان علم النفس الاجتماعي:
من منظور علم النفس الاجتماعي، الكبر يؤثر على الديناميكيات الجماعية. الأفراد المتكبرون غالبًا ما يواجهون رفضًا اجتماعيًا بسبب سلوكياتهم المهيمنة أو تقليلهم من شأن الآخرين. تشير الدراسات إلى أن الكبر يؤدي إلى عزلة اجتماعية، حيث يميل الناس إلى تجنب التعامل مع المتكبرين.
دراسة ذات صلة:
دراسة أجرتها جامعة ستانفورد أظهرت أن الأشخاص الذين يميلون إلى التكبر غالبًا ما يعانون من قلة الدعم الاجتماعي.
كيف يمكن علاج الكبر والغرور؟
علاج الكبر يبدأ من وعي الفرد بذاته. التمارين التأملية مثل “اليقظة الذهنية” يمكن أن تساعد في تقليل تضخم الأنا. كما يُنصح بممارسة الشكر والتعاطف مع الآخرين لتعزيز التواضع.
أدوات نفسية للتغلب على الكبر:
إعادة البناء المعرفي: يساعد الفرد على رؤية الأمور من منظور الآخرين.
التعرض المتدرج: يواجه الفرد مواقف تجعله يدرك أنه ليس محور الكون.
بين الكبر والتواضع:
الكبر ليس مجرد سلوك، بل هو انعكاس لنظام نفسي واجتماعي معقد. التواضع، على النقيض، لا يعني الضعف، بل يعكس وعي الإنسان بضعفه وقوته معًا. يبقى السؤال: هل يمكننا مواجهة الكبر داخلنا قبل أن نحكم على الآخرين؟ وهل يمكن للتواضع أن يصبح سمة عالمية في عالم يتغذى على المنافسة والتفوق؟