الحياة والروح والنفس: بين العلم والشريعة والفلسفة
9 يناير، 2025
العلم والعلماء

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
الحياة والروح والنفس: بين العلم والشريعة والفلسفة
لطالما شكلت مفاهيم الحياة والروح والنفس موضوعات مركزية في الفكر الإنساني، حيث تسعى البشرية إلى فهم جوهر وجودها وما يميزها عن سائر المخلوقات.
يدور النقاش هنا حول فكرة محورية: الإنسان يمتلك حياة وروحًا ونفسًا، في حين أن باقي المخلوقات تقتصر على الحياة فقط دون الروح والنفس بمعناها الإنساني. هذا المقال يتناول هذه الأطروحة مدعومًا بأدلة من العلوم الحديثة، الشريعة الإسلامية، والفلسفة، لتقديم رؤية شاملة تجمع بين هذه المجالات.
الحياة من منظور علمي
الحياة هي الظاهرة الأساسية التي تميز الكائنات الحية عن الجمادات، وتتجلى في عمليات بيولوجية كالتمثيل الغذائي، الحركة، والتكاثر. ومع ذلك، فإن العلم الحديث يظهر بوضوح أن الإنسان يمتلك ما يتجاوز هذه العمليات الفيزيولوجية.
الدراسات العلمية حول الدماغ البشري، مثل تلك التي أجراها علماء الأعصاب، تظهر تفرد الإنسان بامتلاكه وعيًا ذاتيًا معقدًا. هذا الوعي، الذي يُعرّف أحيانًا بـ”النفس” أو “الأنا”، يُمكّنه من التفكير المجرد، الإبداع، والتأمل في ذاته ووجوده. بينما تشترك الحيوانات في بعض مظاهر الإدراك، إلا أن وعيها محدود بوظائف البقاء. كما تشير الأبحاث في علم النفس التطوري إلى أن الإنسان وحده قادر على تشكيل هوية ذاتية متطورة، وهي سمة مرتبطة بالنفس كما نعرفها.
علاوة على ذلك، تؤكد نظريات مثل “الدماغ الثلاثي” التي قدمها بول ماكلين أن الدماغ البشري يتكون من ثلاثة مستويات:
الدماغ الزاحف: المسؤول عن الوظائف البدائية مثل البقاء والتكاثر.
الدماغ الحوفي: الذي يتحكم في العواطف والغرائز.
القشرة الدماغية الحديثة: وهي الجزء المتقدم المسؤول عن التفكير المجرد والوعي الذاتي.
هذا المستوى الثالث هو ما يميز الإنسان، حيث يُعتقد أنه مقر النفس والإدراك العميق.
الروح والنفس في ضوء الشريعة الإسلامية
تتجلى الروح والنفس كعنصرين أساسيين في الشريعة الإسلامية، حيث يشير القرآن الكريم والسنة النبوية إلى دورهما في خلق الإنسان وتمييزه. يقول الله تعالى: “وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي” (الحجر: 29)، مما يدل على أن الروح عنصر إلهي يضفي على الإنسان بعدًا معنويًا لا تمتلكه الكائنات الأخرى.
أما النفس، فهي جوهر الإرادة والاختيار في الإنسان، حيث يُكلف بالعمل بموجبها ويحاسب على أفعاله. قال الله تعالى: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا” (الشمس: 7-8). هذا النص يعكس التكوين النفسي الذي يجعل الإنسان مسؤولًا عن أفعاله، وهو ما لا يظهر في سلوك المخلوقات الأخرى.
كما أن الشريعة الإسلامية تميز بين مستويات النفس، حيث قسّم العلماء النفس إلى ثلاثة أنواع:
النفس المطمئنة: المرتبطة بالإيمان والسلام الداخلي.
النفس اللوامة: التي تراجع أفعالها وتندم على الخطأ.
النفس الأمارة بالسوء: التي تنجرف نحو الشهوات والغرائز.
هذا التصنيف يظهر تعقيد النفس البشرية مقارنة بالكائنات الأخرى التي تفتقر إلى هذا البعد الأخلاقي.
وبالنظر إلى بقية المخلوقات، نجد أن النصوص الشرعية تشير إلى أن الحيوانات والنباتات تمتلك حياة، لكنها لا تحمل روحًا بالمعنى الإنساني. فعلى سبيل المثال، تُحرم الروح من الكائنات التي تُذبح، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكلوا” (رواه البخاري). هذا التفريق يشير إلى أن الروح في الإنسان تختلف عن الحياة في المخلوقات الأخرى.
الفلسفة وتفسير الحياة والروح والنفس
تعمق الفلاسفة على مر العصور في البحث عن مفهوم الروح والنفس وتمييزهما عن الحياة. أرسطو، على سبيل المثال، قسّم الكائنات الحية إلى ثلاث فئات بناءً على نوع الروح: الروح النباتية التي تتعلق بالنمو والتغذية، والروح الحيوانية التي تشمل الحواس والحركة، والروح الإنسانية التي تختص بالعقل والوعي.
ابن سينا، في كتابه “الشفاء”، أكد أن الروح الإنسانية تُعد جوهرًا مختلفًا عن الجسد، وتتفوق على الروح الحيوانية بقدرتها على التفكير المجرد والتأمل في الماورائيات. هذا المفهوم يجعل النفس مركزًا لتجربة الإنسان الذاتية، حيث تُشكل وعيه “بالأنا” وقدرته على اتخاذ القرارات الأخلاقية.
كذلك قدم أفلاطون مفهومًا عن النفس يقسمها إلى ثلاثة أجزاء:
النفس العاقلة: المسؤولة عن الفكر والقرارات الحكيمة.
النفس الغضبية: المرتبطة بالمشاعر والعواطف.
النفس الشهوانية: التي تسعى وراء الرغبات المادية.
هذا التقسيم يُظهر أن النفس البشرية تمتاز بتعقيدها وتوازنها بين العقلانية والشهوات، وهو ما لا يوجد في المخلوقات الأخرى.
ديكارت، من جهته، أكد أن الإنسان كائن مزدوج يمتلك “جوهرًا مفكرًا” و”جوهرًا ماديًا”. ووفقًا له، النفس أو العقل هي التي تميز الإنسان عن باقي المخلوقات، لأنها قادرة على الوعي بالذات والتفاعل مع العالم بطرق تتجاوز الغرائز البيولوجية.
التمييز بين الإنسان والمخلوقات الأخرى
بالنظر إلى الأدلة العلمية والشرعية والفلسفية، يتبين أن الإنسان يتميز عن باقي الكائنات بامتلاكه تركيبة فريدة تجمع بين الحياة والروح والنفس. المخلوقات الأخرى تمتلك حياة تجعلها قادرة على النمو والتكاثر، لكنها تفتقر إلى الروح بمعناها الإلهي والنفس بوصفها مصدر الهوية الذاتية.
الحياة في المخلوقات الأخرى ترتبط بوظائف بيولوجية فحسب، بينما الروح تضفي على الإنسان بُعدًا روحيًا يعكس علاقته بخالقه. النفس، من جانبها، تجعل الإنسان قادرًا على إدراك ذاته ومحاسبتها، مما يمنحه دورًا أخلاقيًا مميزًا في هذا الكون.
نظريات علم النفس الحديثة
في علم النفس الحديث، نجد نظريات مثل هرم ماسلو للاحتياجات تؤكد أن الإنسان وحده يسعى لتحقيق الذات. بينما تسعى الحيوانات فقط لإشباع حاجاتها الفسيولوجية والأمن، يرتقي الإنسان ليبحث عن معنى أعمق للحياة.
كما أن نظريات التحليل النفسي التي قدمها فرويد تُظهر تعقيد النفس البشرية من خلال تقسيمها إلى ثلاثة عناصر:
الهو: مركز الغرائز البدائية.
الأنا: الوسيط الذي يسعى لتحقيق التوازن.
الأنا العليا: التي تمثل القيم الأخلاقية والاجتماعية.
هذا التكوين يُظهر أن النفس البشرية تنطوي على صراع دائم بين العقل والعاطفة، وهو ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات.
إن الجمع بين العلم والشريعة والفلسفة يثبت أن الإنسان كائن فريد يمتلك حياة وروحًا ونفسًا.
هذه التركيبة المتميزة تجعل الإنسان ليس فقط حيًا، بل واعيًا بذاته، مسؤولًا عن أفعاله، ومتصلًا بربه على نحو يتجاوز الطبيعة المادية للحياة. في المقابل، تبقى باقي المخلوقات محصورة في إطار الحياة البيولوجية، دون وعي ذاتي أو روح إلهية. هذا التفرد يمنح الإنسان مكانة خاصة ودورًا محوريًا في الكون، يدعونا إلى التأمل في مسؤولياتنا تجاه أنفسنا وتجاه العالم من حولنا.