بالعلم والأخلاق نبني ونرتقي
4 يناير، 2025
العلم والعلماء

بقلم الأستاذ الدكتور : طلعت أبو حلوة أستاذ البلاغة ووكيل كلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر الشريف
بالعلم والأخلاق نبني ونرتقي:
إن من يتأمل الشريعة الإسلامية يجد أنها قد أعطت كلًّا من العلم النافع والأخلاق الحسنة أهمية كبرى، ومنحتهما أولوية عظمى، حيث أمرت بهما، وأشادت بمنزلتهما، وأعلت من شأن صاحبهما، وأكبر دليل على صدق ذلك، وأعظم برهان على حقيقته أن أول أمر إلهي وخطاب سماوي في الكتاب العزيز للنبي -ﷺ- هو الأمر بالقراءة في قوله -تعالى-: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ العلق: 1،
ونفى الله -عز وجل- عن طريق الاستفهام الإنكاري المساواة بين العلماء وغير العلماء، فقال -جل جلاله-: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الزمر: 9، وأثنى -تبارك وتعالى- ثناء بالغًا وعظيمًا على نبيّه الصادق المصدوق، والهادي البشير، والسراج المنير -ﷺ- فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم: 4، فقد جعل الله رسوله ومصطفاه على الخلق العظيم، كما لخصت لنا أُمّنا عائشة -رضي الله عنها- حينما سئلت عن خلقه بقولها الموجز البليغ: “كان خلقه القرآن”، وقد أشار إلى ذلك الشاعر الشيخ عبَّاس علي بقوله:
قَضَى اللهُ للأخلاقِ أَنْ تَتَجَسَّدا فَقَالَ لَها: كُونِي، فَكَانَتْ مُحَمَّدَا
وإن من ينظر بعين التأمل والاعتبار إلى كلٍّ من العلم والأخلاق يجد أنهما أمران متلازمان ومتكاملان ومتشاركان، حيث لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر، ولا يستطيع أن ينهض بدوره كما ينبغي على الوجه الصحيح دون أن يكون مصطحبًا للآخر، ومعتمدًا عليه، فهما كجناحي الطائر، ومعلوم أن الطائر لا يستطيع أن ينهض بجناح واحد، وكالوجهين للعملة الواحدة، فعلى أحد الوجهين تكون هُوِيّة هذه العملة، وعلى الوجه الأخر يكون مقدارها، وكالمصباح ونوره، فالعلم هو المصباح والأخلاق هي ذلك النور، ولا قيمة للمصباح إلا بنوره، ولا نور إلا بوجود المصباح، وكالشجرة المورقة المثمرة، فالعلم هو الشجرة والأخلاق هي تلك الأوراق والثمار، ولا قيمة للشجرة إلا بقدر جمال أوراقها وثمارها، ولا توجد الأوراق والثمار إلا بوجودها، وهكذا الحال والشأن في كل أمرين متلازمين مترابطين متعالقين.
ونظرًا لقيمتهما متلازمين مترابطين، وتقديرًا لمكانتهما متكاملين متشاركين، فقد وجدنا أكثر الدول تسمي الوزارة المنوطة بهما والقائمة عليهما “وزارة التربية والتعليم”، كذلك وجدنا بعض الشعراء يومئ إلى هذه الحقيقة المتيقنة والمستقرة في أذهان العقلاء والحكماء، حيث يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
والعِلمُ إِن لَـمْ تَكتَنِفْـهُ شَمائِـلٌ تُعْليهِ كـانَ مَطِيَّـــةَ الإِخفـاقِ
لا تَحسَبَنَّ العِــلمَ يَنفَـعُ وَحْـدَهُ مــا لَـمْ يُتَـــوَّج رَبُّــــهُ بِخَــــلاقِ
وبناء على هذا فقد علم القادة والعلماء والمربون أن كلًّا من العلم والأخلاق متلازمين هما طريق الخير والنماء، ومفتاح التقدم والارتقاء، وأساس التنمية والرخاء، وسبيل الثَّراء والغَناء، وعماد الحضارة والبناء، ودعامة الاستقرار والبقاء، وعنوان الانتصار والنَّجاء، وهذا ما فطن إليه حافظ إبراهيم في قصيدته الشهيرة عن حبيبتنا مصر أم الكنانة حيث قال:
وارفَعوا دَولَتي عَلى العِلمِ وَالأَخـ ـلاقِ فَالعِلمُ وَحْدَهُ لَيسَ يُجْـدي
وأشار إليه أمير الشعراء أحمد شوقي بقوله:
وَلَيسَ بِعامِرٍ بُنيانُ قَومٍ إِذا أَخْلاقُهُمْ كانَتْ خَرابا
فمن عجز عن مجاراة شيء عابه، ومن جهل شيئًا عاداه، ومن ضاق عقله اتسع لسانه، وقبح بيانه، ومن ساء خلقه ضاق رزقه، وقد يظن بعض الناس الذين ليس حظ من النظر والاستدلال أن العلم وحده قد يكفي ويغني، ونقول لهؤلاء: إن هذا الفهم يخالف المنطق السليم والمعقول الصحيح؛ لأنه قد يصل الإنسان إلى درجات عالية من العلم، ولكنه يستخدم ذلك في الضرر والإضرار، وذلك كما هو الحال في الأسلحة النووية الحديثة، حيث وصل إليها الإنسان بعلمه وعقله، وعند غياب الأخلاق الراشدة الضابطة والقوانين الرادعة المانعة استخدمت في التخريب والإبادة، بدلًا من أن تكون قوة ردع وحماية، كذلك وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة، وصل إليها الإنسان بعلمه، وعند غياب الآداب الفاضلة والأخلاق الحميدة الموجهة والقوانين الزاجرة المعاقبة أساء البعض استخدامها، فاستخدمت في نشر الإشاعات والأضاليل، وترويج الأكاذيب والأراجيف، واختراق الخصوصيات، والتنصت على الآخرين، بدلًا من أن تستخدم في البحث العلمي، والتنمية المعرفية، والتواصل الاجتماعي، وتقريب المسافات.
وقد يظن بعض الناس أيضًا ممن ليس له حظ من العلم والمعرفة أن الأخلاق وحدها قد تكفي، ونقول لهؤلاء: إن هذا يتعارض أيضًا مع المنطق السليم، والفهم الصحيح، والوعي الرشيد؛ لأن غياب العلم يجعل الإنسان يعبد ربه بجهل، وينزع النصوص من سياقاتها، ويفهمها على غير وجهها، ويؤولها على غير المراد منها، ويحرف الكلام عن مواضعه، فلا يميز بين الأصل والفرع، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز، والثابت والمتغير، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، كما لا يميز بين الفتاوى والأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ولا يفرق بين أحوال العموم ووقائع الأعيان، وأحكام الحرب وأحكام السلام، وحرية المعتقد وقبول الآخر، وأحكام المعاش وأحكام المعاد، فينكر المخالف، ويضيق به ويقصيه، أو يؤذيه ويعاديه، ولو علم لفهم أن الأمر بخلاف ذلك، فمن ينبيه -هداه الله وبارك فيه- أن العلم والأخلاق أمران متلازمان، لا غنى لأحدهما عن الآخر؟ وقد قالوا في المعادلات:
1- “الجهل+الفقر= الإجرام”
2-“الجهل+الغنى= الإفساد”
3- “الجهل+الحرية= الفوضى”
4- “الجهل+السلطة= الظلم”
5- “الجهل+الدين= الإرهاب”
فنتائج هذه المعادلات مذمومة وغير مرضية، ولو وضعنا فيها العلم بدلًا من الجهل لوجدنا أن النتائج تكون محمودة وطيبة هكذا:
1- “العلم+الفقر= القناعة”
2-“العلم+الغنى= الإصلاح” 3″العلم+الحرية= الإبداع” 4“العلم+السلطة= العدل” 5 “العلم+الدين= الاستقامة”
ولو أضفنا العلم إلى أطراف هذه المعادلات الأربع المحمودة الأخيرة لكانت النتيجة أحسن وأكمل وأفضل هكذا: “العلم+الغنى+الحرية+السلطة+الدين= السعادة والنجاة”. نفعنا الله -عز وجل- جميعا بالعلم، وهدانا لأحسن الأخلاق، وأفضل الأعمال.