إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ٣ من رجب لعام ١٤٤٦هـ. الموافق ٣ من يناير لعام ٢٠٢٥
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
الحمد لله منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب سبحانه هو الله العزيز الوهاب.
سل أبا البشر آدم لما أكل من الشجرة من الذى ألقى عليه الكلمات وعليه تاب.
سل ابني ادم عندما قتل الأخ أخاه فعجز عن دفنه فبعث الله له الغراب.
وسل يوسف بن يعقوب من الذى أخرجه من السجن ونجاه من مكر امرأة العزيز عندما غلقت الأبواب.
وسل داوود عندما جاءه الخصمان “وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسورو المحراب” “فظن إنما فتناه فاستغفر ربه فخر راكعا واناب”
وسل سليمان بن داوود عندما دعا ربه مبتهلًا “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ”
وسل أيوب عندما “نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ” فجاءه من الله الجواب “ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ”.
وسل زكريا عليه السلام عندما أتته الملائكة فبشرته بيحيى وهو “قائم يصلي في الْمِحْرَاب”.
وسل مريم العذراء عندما دخل عليها زكريا “وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ”.
وسل المسيح عيسي بن مريم عندما انتفض رضيعًا “قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ”.
أحمده جل جلاله على رفع الشك والارتياب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة ومرفأ الأمان. وبعد
فإن الناظر في أحوال الدنيا، وتقلب الأيام والليالي يرى فيها شدة، ظلمة، وهناك مواقف عصيبة تمر على الأمة يتزلزل فيها أهل الإيمان ويُزلزلوا زلزالًا شديدًا “حتى يقولَ الرسولُ والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب” [البقرة: ٢١٤]
وأحيانًا يواجه الإنسان في حياته كثير من المحن والشدائد فتصيبه بشيء من اليأس والإحباط، فينظر لكل شيء نظرة يأس، وربما تدخله في دائرة الشك في الله عز وجل فتقعده عن الحركة والعمل، فمن أجل الله تعالي بحجة أنه لا فائدة فيجلس ينتظر الموت. ولكن!!
ولكن ثمة إحساس داخلي يخبرنا أن هذه الظلمة ستنقشع، وأن هذا الليل سينجلى، وأن هناك شواهد تدل على صدق هذا الإحساس، هذا الإحساس قد نسميه “الأمل في تغير الواقع”
هذا الإحساس هو “الإيمان”، وهذه الشواهد هي وقائع التاريخ، وشهادة الواقع.
أهمية الأمل في الحياة:ـ
لَقدْ جعلَ اللهُ تعالَى الحياةَ الدنيا كثيرةَ التقلُّبِ لا تستقيمُ لأَحدٍ علَى حالٍ ولا تَصْفُو لمخلوقٍ مِنَ الكَدَرِ، فَفِيها خيرٌ وشرٌّ، وصلاحٌ وفسادٌ، وسُرورٌ وحُزْنٌ، وأملٌ ويأْسٌ، ويأتِي الأملُ والتفاؤلُ كشُعاعَيْنِ يُضِيئانِ دياجِيرَ الظلامِ، ويشقَّانِ دُروبَ الحياةِ للأنامِ، ويَبْعَثان في النَّفْسِ البشريَّةِ الجِدَّ والمثُابَرةَ، ويلقِّنانِها الجَلَدَ والمصُابَرَةَ.
فالأمل للأمة كالروح للجسد، فلولا الأمل ما بني بانٍ ولا غرس غارس ولولا الأمل لما تحققت أي إنجازات ولا أهداف. وإلا فما الذي يُغْرِي التاجرَ بالأسفارِ والمخاطر، ومفارقة الأهل والأوطان؟ إنه أَمَلُهُ في الربحِ.
وما الذي يَبْعثُ الطالبَ إلى الجدِّ والمثُابرةِ؟! إنه أملُهُ في النجاحِ.
وما الذي يحفِّزُ الجنديَّ إلى الاستبسالِ في أرضِ المعركةِ؟ إنه أمله في إحدى الحسنيين إما نصر وإما شهادة.
وما الذي يُحبِّبُ إلى المريضِ الدواءَ المُرَّ، وربما في ببعض الأحيان أن يقطع من جسده في عملية جراحية؟! إنه أملُهُ في الشِّفاءِ والعافية.
فالذي يدفع الزارع إلي الكد والعرق ويرمي بحبات البذور في الطين: أمله في الحصاد وجني الثمار.
والذي يدعو المؤمنَ أنْ يُخالِفَ هَواهُ ويُطيعَ مَوْلاهُ: أملُه في الفوزِ بجنَّتِهِ ورِضاهُ، فهوَ يُلاقِي شدائِدَها بقلبٍ مُطْمَئِنٍ، ووجْهٍ مُسْتبشرٍ، وثَغْرٍ باسمٍ، وأمَلٍ عَريضٍ، فإذا حارَبَ كانَ واثِقًا بالنصرِ، وإذا أعْسَرَ لم يَنقطِعْ أملُهُ في تبدُّلِ العُسْرِ إلى يُسْرٍ، وإذا اقترفَ ذنبًا لم ييأسْ مِنْ رحمةِ اللهِ ومغفرَتِهِ.
فالمسلم لا ييأس من رحمة الله؛ لأن الأمل في عفوه هو الذي يدفعه إلى التوبة مهما بلغت ذنوبه، لأن الله عز وجل نهاه عن اليأس والقنوط من رحمته ومغفرته، فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: ٥٣).
وفي وصية النبي ﷺ لابن عباس: “واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا”
فعلى المسلم أن لا يتخلى عن إيمانه بالله، وأن يتحلى بالأمل في رحمة الله ويثق في وعد الله تعالى، ولا يتسرب اليأس أو القنوط إلى قلبه، وكيف يتسرب اليأس إلى قلب مؤمن يتلو قول تعالى “ولا تيأسوا من روح الله” [يوسف: ٨٧]
فما معنى الأمل؟ وما أهميته؟ وكيف ؟ وما مصادر الأمل في حياة المسلم؟
فتعالوا معًا أيها الأخوة نفتح كتاب ربنا لنرى كيف تحدث عن هذا الموضوع؟
الأمل في القرآن الكريم
إذا نظرنا في كتاب الله القرآن، نجده هو المذكِّرُ وهو المربي للنفوس، لكي تعلو على همومها وآلامها وضعفها ويأسها وجراحاتها، نجد أن كلمة “الأمل” ذكرت مرتين:
الأولى: جاء ذكرها في إتجاه سلبي؛ حيث ذكرت في سياق الذم والإنكار والتقبيح عندما يكون الأمل مقرونًا بالركون إلى الدنيا وإتباع الشهوات، حينما يضع الإنسان كل اهتماماته في الدنيا، ويجعلها غاية الآمال، فيغتر بشهواتها بما ينسي الآخرة والسعي لها، قال الله تعالى-: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: ٣].
والثانية: جاء ذكرها في إتجاه إيجابي، حيث ذُكرت في سياق المدح، والترغيب فيما عند الله من خيرٍ، حينما يجعل الإنسان موضوع الأمل متعلقًا بعطاء الله ومغفرته وتوفيقه وحفظه وتأييده، يقول الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف: ٤٦].
ويبث القرآن الكريم في نفوسنا روح الأمل حينما يحدثنا عن
– الشفاء الذي يعقب المرض:
يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠]؛ يقول: وإذا سقم جسمي واعتل، فهو يبرئه ويعافيه، فالمؤمن لا ييأس إن مرض؛ فهو يرجو أجر المرض، ويسأل الله العافية؛ قال النبي -ﷺ-: (ما من مسلم يصيبه أذًى، مرض فما سواه، إلا حطَّ الله له سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها).
– الأمل في الذرية بعد العقم:
المؤمن كله أمل في كرم الله؛ فهو سبحانه الوهاب، فيقتدي المسلم بالأنبياء، ويسأل رب الأرض والسماء؛ ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: ٨٩ – ٩٠].
– الأمل في الأمن بعد الخوف والنصر بعد الهزيمة:
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٦]، تذكير من الله عز وجل لأصحاب رسول الله -ﷺ- وبشرى لكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وانظر أخي الكريم إلى سورة الشرح التي كانت تتضمن اليسر والأمل والتفاؤل للنبي -ﷺ- وتذكير النبي -ﷺ- بنعم الله عليه، ثم اليسر بعد العسر، والطريق لهذا اليسر هو النّصَب والطاعة لله عز وجل، والرغبة والأمل في موعود الله عز وجل، فلقَدْ كانَ رسولُنا -ﷺ- يُعْجِبُهُ الفأْلُ لأنَّه حُسْنُ ظَنٍّ باللهِ سبحانه وتعالى، فقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أنسٍ رضي الله عنه- أنَّ نبيَّ اللهِ -ﷺ- قالَ: “لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ ويُعُجِبُنِي الفأْلُ: الكَلِمَةُ الحسَنَةُ، الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ” فبالأملِ يذوقُ الإنسانُ طَعْمَ السعادَةِ، وبالتفاؤُلِ يُحِسُّ بِبَهْجَةِ الحياةِ.
والإنسان بطبعه يحب البشرى وتطمئن إليها نفسه، وتمنحه دافعاً قوياً للعمل، بينما التنفير يعزز مشاعر الإحباط واليأس لديه ويصيبه بالعزوف عن القيام بدوره في الحياة؛ ولذلك قال -ﷺ- في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي -ﷺ- قال: (يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا)؛ متفق عليه.
ونود التنبيه هنا إلى أننا نريد بالأمل هنا الذي نتحدث عنه هنا ضد اليأس والقنوط، إنه يحمل معنى البشر وحسن الظن، ذلك الإتجاه الإيجابي، تلك الشعلة أو ذلك القبس من النور الذي يجب إيقاده في قلوب الناس.
لا نريد به ذلك الإتجاه السلبي المذموم الذي وردت فيه أقوال للسلف تحذر منه؛ كما جاء عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: “إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ”،
بينما اليأس معول الهدم الذي يحطم في النفس بواعث العمل، ويُوهي في الجسد دواعي القوة؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: “الهلاك في اثنتين: القنوط والعُجب”
والقنوط هو اليأس، والعجب هو الإعجاب بالنفس والغرور بما قدمته. قال الإمام الغزالي: “إنما جمع بينهما؛ لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمير، والقانط لا يسعى ولا يطلب، لأن ما يطلبه مستحيل في نظره”
والكثير منا يتذكر قصة ذلك القائد الذي هُزِم في إحدى المعارك فاختلى بنفسه ليفكر في أمره، فأثار انتباهه نملة تجر حبة قمح وتحاول الصعود بها، لكنها كانت تسقط منها، فحاولت مرات عديدة، حتى نجحت في مُهمتها، فتعلم منها درسًا عظيمًا، ألا هو: الأمل للبقاء، والعزيمة التي لا تكل ولا تنهزِم، فكان ذلك سببًا في انتصاراته ونجاحاته كُلها، فلولا الأمل لسيطر اليأس على القلوب، وأصبح الكل يحرص على الموت.
وقد مر كسرى ملك الفرس يومًا بشيخ عجوز يزرَع شجرة زيتون، فقال له متعجبا: “أيها الشيخ! ما بالك تغرِس هذه الشجيرة وهي لا تُثمر إلا بعدَ أعوام عديدةٍ وأنت شيخ هرم؟ فهل تأمُل أن تأكل من ثمرها؟” فقال له الشيخ العجوز: “أيها الملك لقد غرسوا من قبلنا فأكلنا، ونحن نغرِس لكي يأكل من يأتي بعدَنا” فاستحسن جوابه، وأمر له بجائزة. فقال له العجوز: “ما أسرع ما أثمر هذا الشجر”
فهكذا الحياة أمل وعمل. فالأمل مع العمل طاقة يودعها الله في قلوب البشر؛ لتحثهم على تعمير الكون، وقد قال النبي ﷺ: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا) (رواه البخاري في الأدب المفرد). فالنبي -ﷺ- يوجهنا، ويريد منا بأن لا تقتصر آمالنا في الحياة على مجرد حاجاتنا، ولكن أن نعمل لحاضرنا ولمستقبلنا.
وإذا استصحب الأمل فإن الصعب سيهون، والبعيد سيدنو، والأيام تقرب البعيد، والزمن جزء من العلاج.
فالإنسان يحتاج إلي الأمل في كل مجالات حياته، فالأمل إذن هو إكسير الحياة، ودافع نشاطها، ومخفف ويلاتها، وباعث البهجة والسرور فيها.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! والأمل قبل ذلك كله شيء حلو المذاق، جميل المحيا في ذاته، تحقق أو لم يتحقق.
الأمل لا بد منه لتقدُّم العلوم،
فلو وقف عباقرة العلم والاختراع عند مقررات زمنهم، ولم ينظروا إلا إلى مواضع أقدامهم، ولم يمدهم الأمل بروحه في كشف المجهول، واكتساب الجديد من الحقائق والمعارف، ما خطا العلم خطواته الرائعة إلى الأمام، ووصل بالإنسان إلى القمر.
الأمل يغذى الحياة مثل المطر الذى يروى الزرع، فبدون أمل لم نكن لنقوم من فراشنا فى الصباح ونذهب لدراستنا أملًا فى النجاح أو العمل؛ لنصل إلى مكانه مرموقه. الأمل مهم لأسبابٍ كثيرة وكبيرة.
ما الأمل؟
الأمل: هو تعلق القلب بالله وحده في تحصيل ما ينفع ودفع ما يضر، وقطع التعلقَ بالمخلوقين، فهم لا يملكون لأحد ولا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا.
هو اليقين الثابت بكمال بصفات الله تعالى، وبصدق وعده، وعظيم قدرته، وإحاطة علمه بكل شيء.
أو قل إذا شئت الدقة والتلخيص: إنه الإيمان بالقدر
الإيمان بأنه: لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن إلا بقدر؛ (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك) [رواه الإمام أحمد، وصححه الأرنؤوط].
فالمؤمن بالقدر لا يبكي على اللبن المسكوب؛ فلا تحطمه المصائب والابتلاءات؛ لأنه يرجو ثوابها حتى يُرفَع بها درجات، وتُكفَّر عنه الخطيئات.
وهو عبادة الوقت!.
الأمل من العبادات القلبية والأصول الإيمانية، فالأمل من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبها تفاضل العارفون،
وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٢٤].
وهو العبادة التي جمعت بين التفويض والتسليم لله رب العالمين، وقد خلق الله الخلق جميعًا لغايةٍ واحدةٍ؛ وهي عبادته وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ الْإِنسَ إلَّا ليَعْبُدُونِ.} [الذاريات: ٥٦]
فالأمل هو عمود التوكّل، وهو ساقُ التفويض التي يقوم عليها، فلا توكّلَ بدون أمل، وعلى قدر الأمل تكون قوة التوكل، وقد قيل: اليأس سلم القبر، والأمل نور الحياة.
فالأمل حياة
نعم الأمل حياة؛ هكذا يعلمنا رسول الله ﷺ أن الأمل والاستبشار بالخير من صفات المؤمن القوي: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن “لو” تفتح عمل الشيطان) [رواه مسلم].
يمتلئ القلب رجاء وأملًا حين يعرف حقيقة الدنيا؛ وصدق الله إذ يقول: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٥].
فكيف تبنى الأمل داخلك؟
١. ثق أن كل شيء سيكون على ما يرام ما دمت واثقًا في وعد الله فلا تدع عقلك يفكك الأمل داخلك حتى لا يصبح موجودًا.
٢. كن صبورًا! في الأوقات التي تشعر فيها بالاحباط، أو بالخوف، ففي الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا” كما أخبر النبي ﷺ.
٣. ابحث عن دلائل على أن الأمل لا يزال حيا : أنت لست بحاجة إلى أن تنظر بعيدا. الآن بالفعل ، انت تتنفس الغاز المناسب تماما لقوة حياتك: الأوكسجين! أليس هذا دليل كاف على أن العالم على جانبك و يعمل لصالحك؟
٤. لا تدع الخوف يفسد قراراتك: الأمل لا يعنى القضاء على تذبذب الحياة صعودًا وهبوطًا تمامًا. الأمل هو الاعتقاد أنه على الرغم من هذا الصعود والهبوط، كل شيء سيسير على ما يرام.
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.
أيها الإخوة المؤمنين
لقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنّنى فيه بملائكته وثلّث فيهِ بكم فقال عَزَّ قَائِلًا عَلِيمًا: (إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: ٥٦].
فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، وبعد أيها الإخوة المؤمنين
٣ـ التاريخ يحي فينا الأمل:ـ
اقرؤوا التاريخَ إذ فيه العِبَر
ضلَّ قومٌ ليس يَدْرُون الخَبَر
إن التاريخ كله يعطي رسالة واضحة {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ …} [آل عمران: ١٤٠].
فدوام الحال من المحال “دولة الإسلام مع الظلم تزول ودولة الكفر مع العدل تطول”. فكيف إذا اجتمع الكفر والظلم؟! إننا بحاجة أن نتدبر آيات واضحات قال تعالي: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ.}[القصص: ٥٨]. وقال تعالي: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا.} [الكهف: ٥٩]. وقال تعالي: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ . وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ . وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ . الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ . فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ . إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ.} [الفجر: ٦-١٤].
إذا كانت هذه نصوص القرآن، فهل يستطيعون من لا يؤمن به أن يكذب التاريخ العالمي الذي يؤكد حقائق القرآن؟ أين أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان؟ أين عمالقة الهند والصين؟ أين هولاكو ولويس التاسع؟ أين نابليون؟ أين كارل ماركس ولينين وستالين؟ وغيرهم كثير؟ {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ . أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ
جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ . سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ . بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ.} [القمر: ٤٣-٤٦].