قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ
29 ديسمبر، 2024
منبر الدعاة

بقلم الدكتور : أحمد مازن أستاذ الحديث الشريف وعلومه بجامعة الأزهر الشريف
إنَّ كثيرًا من المشاكل النفسية التي يُعاني منها الناس في زماننا هذا بل وفي كل زمان سببها الرئيس هو “عدم الرضا بما قدره الله تعالى عليهم”.
فالرضا بالله تعالى والرضا بقدره فينا هما باب الله الأعظم، وجَنَّةُ الدنيا، وراحة الصالحين ، وحياة المحبين ، فإذا رضي العبد بالله ، ورضي بقضاء الله رضي الله عنه ورضاه بكل ما يُعطيه ويُجريه عليه ” هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ”
ومن أعظم المقامات الإيمانية التي يصل إليها العبد مقام الرضا، فهو ركن عظيم من أركان الإيمان، بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بقوله صلى الله عليه وسلم “وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ”، وقال سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في جوابه عن المنكرين للقدر: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ «لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ»
ويحدث في أحيان كثيرة أن تتعلق النفس بأشياء وقد لا يكون الخير فيها، فيصرفها الله برحمته وحسن تدبيره للعبد، وبعض الناس لقصر نظرهم لا يشعرون أن النعمة في المنع أحياناً تكون أعظم مما تكون في العطاء، وقد قال سبحانه: “وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ”.
لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ماذا نقول حينما يحدث لنا مكروه أو تجرى الأمور على غير وفق ما أردنا فقال صلى الله عليه وسلم “وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ”
لقد خاطبنا الله عز وجل بقوله تعالى”وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ” أي أنه سبحانه أعلم بمصلحة العبد من نفسه، وهو أرحم بالعبد من الوالدة بولدها، فعلى العبد أن يُسلم لخالقه في مُجريات الأقدار، فاللائق بنا أن نرضى بأقداره، سواء سرتنا أو ساءتنا. ثم المؤمن كذلك يعلم أنه مهما أخذ بالأسباب وبالغ في الجهد فهناك قدر مكتوب، كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
ونحن نأخذ بالأسباب مع التوكل على الله؛ لأن ذلك هو واجبنا، فأما ما جرت به المقادير مما هو مكتوب لنا فهذا غيب لا نعلمه إلا بعد وقوعه، وعندها يجب الصبر على القضاء.
لقد كان من عظيم أخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرضا بقدر الله،عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ، قَطُّ، وَمَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا كُنْتَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ .
إن الرضا بالأرزاق التي قسمها الله عز وجل بين عباده يريح قلب المسلم من هموم الدنيا، فلا يجزن على ما فات، ولا يحسد أحدا، ولا ينظر إلى أحوال الناس، فلا تقارن معيشتك بمعيشة الأغنياء، ولكن قارن عبادتك بعبادة الأتقياء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي هريرة رضي الله عنه” وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ”
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ
وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ
وَلا تَجْزَعْ لِحَادِثة الليالي
فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ
وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً
وشيمتكَ السماحة ُ والوفاءُ
وَرِزْقُكَ لَيْسَ يُنْقِصُهُ التَأَنِّي
وليسَ يزيدُ في الرزقِ العناءُ
وَلا حُزْنٌ يَدُومُ وَلا سُرورٌ
ولا بؤسٌ عليكَ ولا رخاءُ
وَمَنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِه الْمَنَايَا
فلا أرضٌ تقيهِ ولا سماءُ
وصل الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم