التدُّين والثقافة

بقلم : د. مجدي إبراهيم

أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف – جامعة أسوان
لم يكن التدّين يخلو من التعبير الحقيقي عن قيمة العقل العربي وقدرته على قبول أشكاله وتنوعها .. بل لا يزال التدين كاشفأً عن هذا العقل من أول وهلة، يحدّد قيمته إنْ كان عقلاً راقياً منفتحاً على الآخر، متسامحاً يعطي ولا يمنع، أو كان عقلاً منغلقاً متحجّراً ضيقاً يُقصر الدين نفسه على فهم محدد وعلى اتجاه بعينه، ويقرأ مقولاته في نطاق هذا الفهم المُغلق والاتجاه المذهبي القاصر.

العلاقة بين التدّين والعقل علاقة وطيدة لا سبيل إلى غض النظر عنها بغير انفتاح على جوانب التفكير فيها.
هنالك بغير شك تدين لا عقلاني بالمرة يكشف عن غياب الفاعلية العقليّة ويقبع نبض الشعور الوجداني والعاطفي فيه، فلا ينجم إلا عن غفلة وخمود ثم عن عنف وكراهية وتطرف وإرهاب.

هذا النوع من التدّين نمط بعيدٌ عن العقل، وبعيدٌ كذلك عن العاطفة والوجدان، بمقدار ما هو نمط بعيدٌ عن الإنسان، هو مُجرّد ثقافة يعيشها صاحبها ويستبطئ فاعليتها في جوفه بما لديه من قناعة زائفة لا تقوم على تحقيق.

وللتديّن أشكالٌ وألوانٌ، وكل شكل منه وكل لون، يتخذ لنفسه طابعاً يميزه، أو إن شئت قلت : طريقة للتعبير عن نمط ثقافي ينظمه في إطار مجموعة قيم ومقولات تحدّد نوعية هذا النمط وانتماءاته المعرفية، فهنالك التدين الحَرْفي، وهناك التدين الفقهي، وهذا تدين سلفي، وذاك تديُّن مذهبي أو طائفي، وذاك تدين نظري، وهكذا قل الشيء نفسه في كل شكل من الأشكال، وفي كل لون من الألوان، الأمر الذي يجزم معه المرء أن التديّن إن هو إلا نمط ثقافي ينتمي إلى الثقافة ولا ينتمي إلى العقيدة، وتحكمه خلفية أيديولوجية، يتعدّد ويتنوّع بتعدد أنواع تلك الأنماط وخلفياتها الاعتقادية من حيث كونها ثقافة لا من حيث خليفتها الاعتقادية :
خذ مثلاً ذلك: “التدّين الوصولي” الاحترافي، أعني احتراف التسوُّل باسم الله : نوعٌ مُجرم من أنواع خلل العلاقة بين العبد والرّب، واهتزاز روابطها الشعورية وأواصرها النفسية، هو ذلك النوع الذي يتخذ من الدين ستاراً لبلوغ أغراضه القريبة ومطامعه الدنيويّة.

وصاحب هذا النوع من أنواع التدّين المَرَضي ربما يكون خطيباً في مسجد يتيه على الناس صلفاً وغروراً من فوق منبره بورعه وتقواه، ويقول ويكثر القول، ولا يمسُّ قوله شغاف القلوب، ذلك لأنه دَعيّ لا يعوّل عليه في قول ولا عمل. أو يكون صاحبه داعية في زاوية أو زعيماً لعصابة تفجر وتقتل تحت اسم الدين والتدين؛ لمجرد رفض الآخر المختلف فقط؛ ليكشف شكل التدّين الذي يواليه عن بصيرة مطموسة وسخيمة سوداء.

وكما يقع هذا لدى أئمة المساجد ممّن لا خلاق لهم، يقع كذلك في أدعياء المعرفة وأدعياء التفكير في كل حقل وفي كل قبيل ممّن يملؤون الدينا ضجيجاً بما يقولون، وليس لهم حظ لا من معرفة ولا من تفكير، ومبلغ علمهم من ذلك العويل الصارخ هو الفيصل بين الخصومة والعداء من جهة والصداقة والموالاة من جهة أخرى، فلا فيصل أقوى لديهم من المصلحة ولا أمضى؛ فالصداقة هى المصلحة إذا حصّلوها وافقت ما لديهم، وإذا لم يتاح لهم تحصيلها بلغت من المعاداة ما يبلغه أخصم الخصماء.

يكاد أحدهم يقبّل حذائك في سبيل تحقيق هدفه وغايته، ولربما يجعل منك إلهاً يُعبد إذا كانت له مصلحته، وعرف أنك ممّن تُقدره على تحقيقها وتستطيعه لبلوغها، ولا يكتفي بذلك بل يقرأ ويكتب عن الخلق الرفيع والتدين الراقي والحقيقة الباقية بما لست أدري له توظيفاً خارج نطاق النفاق والدروشة والتطبيل وغياب القيم الدينية والإنسانيّة بكل حذافيرها.

واذا غابت تلك المصلحة، فقد القيم التي يدعو إليها وهي بلا شك قيم ساقطة؛ لأنها إذ تصدر منه، تصدر في البدء ساقطة! كان جوته يقول : (إنّ نقائص الإنسان مستمدة من عصره، وفضائله وعظمته من نفسه)، لذا فهو زمن القيم الساقطة بغير مُنَازع (اسم مفعول)!

تكاد مسألة نقد القيم أن تكون هي مهمة المفكرين والأدباء وأهل الرأي في كل العصور، وما دمنا في زمن لم تعتدل فيه القيم المقلوبة، فيجئ أعلاها في أسفلها وأسفلها في أعلاها، فإعادة ترتيبها رهين النقد كيما تعتدل كفتا الميزان، ولا نخالها تعتدل ! أذكرك بمبدأ العصمة من شطط مثل هذا الجوع الغريب، كلمات كنت قرأتها للعقاد، طيّب الله ثراه، منذ ثلاثين عاماً، الأمر الذي يجعل الأدب – وما يُقام عليه ويدور في فلكه – يخلّق في نفوس الأقوياء قناعة الغنى والاقتدار، لا فاقة العوز والافتقار : (غناك في نفسك، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك .. ولا تنتظر من الناس كثيراً يحمدُ عقباه)، وهو الذي كان يقول أيضاً : (فكّرْ في واجبك، كما تُفكّر في حقّكْ، واعملْ طلباً للإتقان، لا طلباً للشهرةِ والجزاء، ولا تنتظرْ من النّاس أكثرَ ممّا يحقُّ للنّاس أنْ ينتظروه منك)، رحم الله أديبنا العظيم الاستاذ عباس محمود العقاد.

أقول مثل هذا التدين الاحترافي المُغرض شكل بشع من أشكال الوصولية والانتهازية، يعبر عن ثقافة ولا يعبر عن عقيدة، ويتخذ من الدين رداء تخلف ورجعية ولا يزيد، وإن زعم كاذباً أنه يصلحه ويهذّبه ويرقيه. يوجد في المسجد كما يوجد في المدرسة، وفي الجامعة، وفي حقول العلم ومعاهد التعليم ناهيك عن المصانع والمتاجر ومرافق المجتمع على تنوع مرافقه واختلاف ميادينه الحيويّة.

فالتدين إذن نمط ثقافي خاضع لقناعات باطنة سرعان ما يتحوّل فجأة مع تحوّل تلك القناعات.

وحين يكون التدين (ثقافة) يكشف عما في قلب صاحبه عن توجهاته ومعتقداته ونظراته، وعن كل في القلب من دوافع الحركة إلى العمل.

هنا تجب التفرقة بين الثقافة والعقيدة؛ فالعقيدة إيمان يصدر عن القلب، والثقافة شكل من أشكال التسويق لهذا الإيمان لتكون معه أشكال التدين ثقافة مجتمع أو فئة أو طائفة؛ يجوز له تغييرها وتحويلها واستبدالها فيما لو تغيرت الأحوال وتحولت الظروف، لكأنما هي الزي الذي يغيره ويستبدله من حين إلى حين وقتما يشاء، وليس هو بالدُّعامة الروحيّة يقابل بها آفاق المجهول.

والفرق أوضح ما يكون بين العقيدة : الدُّعامة الرُّوحيّة التي تستند عليها مسائل الإنسان مسيره ومصيره، والثقافة التي هى مجرد تسويق لهذا التدين الشكلي، لكنها لا ترتقي إلى العقيدة، بل تصبح إحدى خطابات هذه العقيدة، فيقال عنها ثقافة لخطاب يُراد له أن يشمل العقيدة، ولكنه في الحقيقة لا يحيط بها بوجه من الوجوه، ولا يسبر أغوارها، ولا يشملها لا من قريب ولا من بعيد.

على أن هناك خلطاً ظاهراً عند كثيرين بين الدين والتدين، يجعلهم لا يفرّقون بينهما لا على مستوى العقيدة ولا على مستوى الخطاب، فحيث يوجّه النقد لإحدى خطابات التدين أو لأحد أشكاله، يفهمه البعض منا على أنه نقد للدّين، الأمر الذي يترتب عليه أن كثيراً من الآراء في هذا الصدد تصدر عن فهم مغلوط.

أذكر أنني يوم أن طرحت هذه الفكرة جاءني التعليق التالي من فاضلة لتقول : ” تحياتي للكاتب العزيز؛ أعتقد – وهذا رأيي الشخصي – أن الأديان التي تملك آلهة متعددة، والتي يسميها الإسلام “شركية”، هى أكثر تسامحاً وتقبلاً للآخر، وكمثال: نجد كيف قضت المسيحية على ثقافة متنوعة في الامبراطورية الرومانية، وكذلك الإسلام الذي قضى على تعدّد الأديان والثقافات في الجزيرة العربية”.

وقد فهمت الفاضلة أن النقد هنا مُوجّه للدين في ذاته، وبالتالي تصوّرت لنفسها رأياً يخرج عن المقصود ممّا أشرت، فكان ردي إذ ذاك على التعليق :
أين هو التسامح في هذا كله؟ .. التاريخ الأوروبي الأمريكي الشمالي – على الرغم من اعتناق المسيحية – ليـس إلاّ تـاريـخ الـغـزو والأبـَّهـة والتكبر والجشع. وأعظم قيمنا – كما قال عظمائهم – هى أن نكون أقوى من الآخرين، وأن نغزوهم ونقهرهم ونستغلهم. وهذه القيم تتطابق مع المثل الأعلى “للرجولة”. فليس رجلاً إلا من كان قادراً على القتال والغزو والقهر.

وإذا كانت اليهودية والمسيحية والإسلام أدياناً كتابية فليس فيها في الأصل ما يدعو إلى التباغض والعنف من حيث هى دين، ولكن من حيث هى خطاب وسلوك، أي من حيث هى ثقافة؛ فالعنف فيها مادة يخلقها التحريف ثم يشكلها خطأ الممارسات الناتج عن تحريف الاعتقاد.

وأي شخص غـيـر قـادر على استخدام العنف إنْ هو إلاّ شخص ضعيف، أي “ليس رجلاً”.

هذا خطاب لا اعتقاد، ولا شأن له بالاعتقاد! خطاب ثقافي عن الدين وليس هو بالعقيدة الصحيحة يلزم عنها ممارسة سويّة :
فكرة تقوم في رأس صاحبها على غير اعتقاد صحيح؛ فيخيل لمن يشهدها أنها عقيدة من عقائد التنزيل فينسب الغلط والفهم المنكوس إلى الدين في ذاته، لا إلى أشكال التديّن المغلوط.

لسنا بحاجة إلى إثبات أن تاريخ أوروبا هـو تـاريـخ لـلـغـزو والاسـتـغـلال والقوة والإخضاع والقهر.

لا تكاد توجد فترة أو مرحلة من التاريخ الأوروبي
إلا كانت هذه سماتها، ومعظمها قائم على التحريف أو قائم على العقائد الملوثة. لا يستثنى من ذلك طبقة ولا جنس.

لا توجد جريمة إلا ارتكبت بما في ذلك عمليات الإبادة الجماعية لشعوب بأسرها مثل ما حدث قديماً للهنود الحمر، وما يحدث حديثاً في عزة وفلسطين.

حتى الحروب الصليبية التي جعلت من الدين سـتـاراً لها لم تكن استثناء. فهل كان الدافع لهذا السلوك اقـتـصـاديـاً أو سـيـاسـيـاً فحسب؟ هل كان تجار العبيد وحكام الهند وقتلة الهنود الحمر والبريطانيون الذين أجبروا الصينين على فتح أبواب بلادهم لتـجـارة الأفـيـون ومـثـيـرو حربين عالميتين، وأولئك الذين يحضِّرون لحرب عالمية ثالـثـة … هـل هـؤلاء مسيحيون مؤمنون حقاً؟! هل يُقاس القتل في تاريخ الإسلام بمثل هذا التاريخ الدموي قديماً وحديثاً ؟!

المسألة بعيدة تماماً عن العقيدة الإلهية والتدين بمقتضاها والعمل في إطارها، ولكنها أوغل في تحقيق المصالح والمطامع تحت وطأة الظروف القهريّة، وأقدر على توظيف العقيدة لتكون ثقافة مرتهنة بزمانها ومكانها ولا تصبح دعامة روحية تتجاوز الأزمنة والأمكنة لتعالج المسائل المصيرية للإنسان بما هو إنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *