بقلم الشيخ / احمد عزت حسن
باحث فى الشريعة الإسلامية
لقد ضرب الجيل الفريد أروع الأمثلة، وأجمل الصور في حب رسول الله ﷺ، وصدقوا الله ما عاهدوه، من نصرة نبيه ﷺ، وإعانته، فرضي الله عنهم وأرضاهم. وسنسوق لكم مجموعة من المواقف والأحداث التي تكشف لنا حب أصحاب رسول الله ﷺ لنبيهم عليه الصلاة والسلام، ومدى ما قدموه من بذلٍ للأنفس والأموال والأوقات، لكي نعيّ المحبة الصادقة ولنقتفي أثرهم ونسلك سلوكهم وهو بعض من كل.
محبة الصحابة:
هنا وقفة لا بد منها مع بعض مواقف الصحابة المحبين لرسول رب العالمين وليس هناك أصدق من محبتهم له، خذوا هذه المواقف وكل واحدٍ منها حري بنا أن نعيده ونكرره ونحفظه لنرى كيف كانت محبة القوم رضوان الله عليهم لمحبوبهم العظيم ﷺ:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما اجتمع أصحاب النبي وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله ﷺ في الظهور فقال: يا أبا بكر إنا قليل.
فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله ﷺ وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله ﷺ، جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربًا شديدًا ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، وأثر ذلك حتى ما يعرف أنفه من وجهه، وجاءت بنو تيم تتعادى فأجلوا المشركين عن أبي بكر وحملوا أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه بيته ولا يشكون في موته، ورجع بني تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة ورجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجابهم فتكلم آخر النهار: ما فعل رسول الله ﷺ؟ فنالوه بألسنتهم وعذلوه ثم قاموا وقالوا لأم الخير بنت صخر: انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به وألحت جعل يقول: ما فعل رسول الله ﷺ؟ قالت: والله ما أعلم بصاحبك.
قال: فاذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه فخرجت حتى جاءت إلى أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله.
قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن تحبي أن أمضي معك إلى ابنك فعلت: قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا فدنت منه أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: إن قومًا نالوا منك هذا لأهل فسق وإني لأرجو أن ينتقم الله لك.
قال: ما فعل رسول الله ﷺ؟ قالت: هذه أمك تسمع قال: فلا عين عليك منها.
قالت: سالم صالح. قال فأنى هو؟
قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله علي آليت أن لا أذوق طعامًا ولا شرابًا أو آتي رسول الله ﷺ فأمهلتاه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى دخلتا على النبي ﷺ قال: فانكب عليه فقبله وانكب عليه المسلمون ورق له رسول الله ﷺ رقه شديدة. فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي، هذه أمي برة بوالديها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله عز وجل لها عسى أن يستنقذها بك من النار.
فدعاها رسول الله ﷺ فأسلمت) [السيرة النبوية لابن كثير (١ / ٤٤١)].
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وقد سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كيف كان حبكم لرسول الله ﷺ؟ قال: (كانوالله أحب إلينا من أموالنا، وأولادنا، وآبائنا، وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ) [الشفا].
معاذ بن الجموح ومعاذ بن عفراء:
عن عبد الرحمن بن عوف قال إني لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت لو كنت بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم فما حاجتك إليه قال أنبئت أنه يسب رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سواده سوادي حتى يموت الأعجل منا فغمزني الآخر فقال لي قوله قال فعجبت لذاك قال فلم ألبث أن رأيت أبا جهل في الناس قال فقلت لهما ألا تريان ها ذاك صاحبكما الذي تسألان عنه قال فابتدراه بسيفيهما يغربانه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله ﷺ فأخبراه فقال أيكما قتله فقال كل واحد منهما أنا قتلته فقال هل مسحتما بسيفيكما قالا لا قال فنظر رسول الله ﷺ السيفين فقال كلاكما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح قال والرجلان معاذ بن الجموح ومعاذ بن عفراء” [تهذيب الكمال (١٣: ٧)].
ثوبان: جاء ثوبان إلى رسول الله ﷺ فقال: لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي، ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت، وبكى ثوبان، فقال له رسول الله ﷺ: (ما أبكاك؟) قال: ذكرتُ أنك ستموت ونموت، فتُرفع مع النبيين ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك، فلم يخبره النبي ﷺ بشيء، فأنزل الله عز وجل على رسوله ﷺ: ﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾[النساء: ٦٩]، فقال له النبي ﷺ: (أبشر) [السيوطي، الدر المنثور ٢ / ص ٥٨٨ ٥٨٩. شعب الايمان، (١٣٨٠)].
– محبة التابعين للنبي ﷺ
وهناك مواقف كثيرة لا بد من ذكرها لبعض السلف من التابعين لنعرف أن هذه المحبة هي جوهر في إيماننا وأساس من أسس إسلامنا: فهذا مالك بن أنسٍ يقول عن أيوب السختياني -رحمه الله-:ما حدثتكم عن أحدٍ إلا وأيوب أوثق منه – أي في مكانه عالية – قال مالك: وحج حجتين، وحججت معهم، فكنت أرمقه ولا أسمع منه – أي لا يسمع منه الحديث – قال: غير أنه كان إذا ذكر النبي ﷺ بكى حتى أرحمه! فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي ﷺ كتبت عنه -أي أخذ عنه الحديث- لما رأى من إجلاله، وفعل محبته وتأثره بذكر رسول الله ﷺ.
وهذا مصعب بن عبد الله يروي عن مالك يقول: كان مالك إذا ذكر النبي ﷺ يتغير لونه وينتحني حتى يصعب ذلك على جلسائه -أي يشفقون عليه- فقيل له يوماً في ذلك! فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون.
وذكر الإمام مالك عن محمد بن المنكدر -من أئمة التابعين وكان سيد القراء- قال: لا نكاد نسأله عن حديثٍ أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه رحمه الله.
وقد جاءنا الحسن البصري بمثلٍ جميل عن حب الجمادات لرسول الله ﷺ؛ ولا عجب فقد قال رسول الله ﷺ عن جبل أحد: (أحد جبل نحبنا ونحبه).. وهذا الجذع الذي كان يخطب النبي ﷺ عليه، فلما بني المنبر طلع يخطب على المنبر، فإذا الجدع يحنّ إلى رسول الله ﷺ، وسمع له الناس حنيناً، فنزل النبي ﷺ من على المنبر فوضع يده على الجدع فسكنه فسكن. فكان الحسن البصري -رحمه الله- إذا ذكر حنين الجذع وبكائه يقول: “يا معشر المسلمين الخشبة تحنّ إلى رسول الله ﷺ شوقًا إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه!”.