خطبة الجمعة بعنوان ( البيئة هى الرحم الثانى والأم الكبرى ) للشيخ ياسر عبدالبديع
19 أكتوبر، 2025
خطب منبرية

خطبة الجمعة بعنوان ( البيئة هى الرحم الثانى والأم الكبرى )
للشيخ :ياسر عبدالبديع
بتاريخ 2 من جمادى الأولى 1447 ه – 24 من أكتوبر 2025 م
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ
البيئة هى الرحم الثانى والأم الكبرى
العُنْصُرُ الْأَوَّلُ: الإِسْلَامُ دِينُ النَّظَافَةِ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، مِنَ الْمَعَانِي الْجَمِيلَةِ، وَالْقِيَمِ النَّبِيلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الرَّفِيعَةِ السَّامِيَةِ الَّتِي اهْتَمَّ بِهَا دِينُنَا الإِسْلَامِيُّ، وَبَزَّ بِهَا غَيْرَهُ مِنَ الأَدْيَانِ؛ النَّظَافَةُ الْعَامَّةُ، وَالَّتِي تَشْمَلُ نَظَافَةَ الإِنْسَانِ الْخَاصَّةَ، وَنَظَافَةَ الْبِيئَةِ وَالْمُجْتَمَعِ الْعَامَّةَ؛ بَلْ يَعُدُّ الإِسْلَامُ دِينَ الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ بِأَشْمَلِ مَعَانِيهَا، حَيْثُ حَرَصَ عَلَى نَظَافَةِ الْعَقِيدَةِ مِنَ الشِّرْكِيَّاتِ وَالْخُرَافَاتِ وَالشُّبُهَاتِ وَالأَبَاطِيلِ، وَنَظَافَةِ الْقَلْبِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْكُرْهِ وَالْبُغْضِ وَالاِحْتِقَارِ وَالْكِبْرِ، وَنَظَافَةِ الأَخْلَاقِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالرَّذَائِلِ بِأَشْكَالِهَا، وَكَذَلِكَ طَهَارَةِ الأَمْوَالِ مِنَ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وَنَظَافَةِ اللِّسَانِ مِنَ الْفُحْشِ وَالشَّتْمِ وَالْكَلَامِ الْبَذِيءِ، وَنَظَافَةِ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ مِنَ الأَوْسَاخِ وَالأَقْذَارِ، إِضَافَةً إِلَى الْحِرْصِ عَلَى نَظَافَةِ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ وَالطَّرِيقِ وَالأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ.
وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَكُونَ الْجَمَالُ فِي كُلِّ مَا حَوْلَنَا، وَفِي الْحَدِيثِ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»؛ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، مِنِ اهْتِمَامِ الإِسْلَامِ وَعِنَايَتِهِ بِالنَّظَافَةِ وَالْجَمَالِ، حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُتَطَهِّرِينَ، وَيَكْفِي هَذَا شَرَفًا وَمَكَانَةً وَرِفْعَةً، قَالَ تَعَالَى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: ٢٢٢].
وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الطَّهَارَةِ أَمْرًا وَحَثًّا عَلَيْهَا فِي نَحْوِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، النَّظَافَةُ لَيْسَتْ ذَوْقًا شَخْصِيًّا فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ؛ بَلْ هِيَ عِبَادَةٌ يَتَقَرَّبُ بِهَا الْمُسْلِمُ إِلَى رَبِّهِ، وَقُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ، فَهِيَ عِنْدَ الْمُسْلِمِ شَطْرُ الإِيمَانِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الإِسْلَامُ يَا سَادَةُ هُوَ الدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَجْعَلُ النَّظَافَةَ جُزْءًا مِنَ الْعِبَادَاتِ؛ بَلْ فِي أُصُولِ الدِّينِ نَفْسِهِ، فَأَوَّلُ خُطْوَةٍ لِلدُّخُولِ فِي دِينِ الإِسْلَامِ هِيَ الْغُسْلُ، وَإِذَا وَدَّعَ الْمُسْلِمُ الدُّنْيَا فَإِنَّ آخِرَ عَهْدِهِ بِهَا أَنْ يُغَسَّلَ وَيُطَيَّبَ وَيُكَفَّنَ قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ فِي الأَرْضِ.
وَهِيَ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَهَذِهِ النَّظَافَةُ فِي دِينِنَا شَامِلَةٌ عَامَّةٌ، تَبْدَأُ مِنَ الْقَلْبِ وَالثَّوْبِ، وَالْبَدَنِ، وَالْمَكَانِ، إِلَى الطُّرُقَاتِ وَالْبِيئَةِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالْإِنْسَانِ؛ لِذَلِكَ شَرَعَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ.
وَحَثَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالِاسْتِنْثَارِ لِغَيْرِ صَائِمٍ، وَأَوْجَبَ الْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَمِنَ الْحَيْضِ، وَشَرَعَهُ كَذَلِكَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالدُّخُولِ فِي الإِسْلَامِ.
وَأَمَّا الْفَمُ وَالأَسْنَانُ، فَقَدْ عُنِيَ الإِسْلَامُ بِهِمَا عِنَايَةً كَبِيرَةً، فَقَدْ حَثَّ عَلَى اسْتِعْمَالِ السِّوَاكِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَجَعَلَهُ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ، حَيْثُ إِنَّهُ سَبَبٌ لِتَطْهِيرِ الْفَمِ وَمُوجِبٌ لِرِضَا الرَّبِّ، قَالَ ﷺ:
«السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»؛ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَمِنْ كَمَالِ النَّظَافَةِ: الِاغْتِسَالُ فِي الأَعْيَادِ وَالْمُنَاسَبَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، لِتَكُونَ النَّظَافَةُ وَالْجَمَالُ عُنْوَانًا عَلَى سُمُوِّ قَدْرِهِمْ وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِمْ بَيْنَ الأُمَمِ.
وَجَاءَ الْحِرْصُ عَلَى الطِّيبِ وَالْحَثُّ عَلَى التَّطَيُّبِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الطِّيبِ، وَنَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ: «أَنَّهُ يُحِبُّ الطِّيبَ وَيُكْثِرُ مِنَ التَّطَيُّبِ»؛ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَبَلَغَ مِنْ حُبِّ النَّبِيِّ ﷺ لِلطِّيبِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ طِيبٌ قَبِلَهُ وَلَمْ يَرُدَّهُ؛ بَلْ نَهَى عَنْ رَدِّهِ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
«أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
أَمَّا حُسْنُ الْمَلْبَسِ، وَجَمَالُ الْهِنْدَامِ، وَالْمَظْهَرُ الْخَارِجِيُّ، فَمَطْلُوبٌ قَدْرَ الاسْتِطَاعَةِ، دُونَ خُيَلَاءَ أَوْ تَبَاهٍ أَوْ تَفَاخُرٍ، قَالَ ﷺ:
«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»،
قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً،
قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَبِيبِ ﷺ:
«إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ، وَأَصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ، حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، وَلَا التَّفَحُّشَ»،
وَقَالَ ﷺ: «مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ أَبِي الأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي ثَوْبٍ دُونٍ، فَقَالَ: «أَلَكَ مَالٌ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟» قَالَ: قَدْ آتَانِيَ اللَّهُ مِنَ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ،
قَالَ ﷺ: «فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيَرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ»؛ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَرَأَى ﷺ رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فَقَالَ:
«أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ؟»،
وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ، فَقَالَ:
«أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ؟»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ – مِنْ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ –:
«مَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْظَفَ ثَوْبًا، وَلَا أَشَدَّ تَعَاهُدًا لِنَفْسِهِ فِي شَارِبِهِ وَشَعْرِ رَأْسِهِ وَشَعْرِ بَدَنِهِ، وَلَا أَنْقَى ثَوْبًا وَشِدَّةَ بَيَاضٍ، مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ».
وَيَقُولُ أَبُو الْعَالِيَةِ:
«كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا تَزَاوَرُوا تَجَمَّلُوا».
عِبَادَ اللَّهِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ النَّظَافَةِ الَّتِي أَمَرَ الإِسْلَامُ بِهَا: تَنْظِيفُ الْجَسَدِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ يُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِ الأَوْسَاخِ فِيهِ،
فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ شَعْرِ الإِبِطِ، وَالشَّعْرِ الَّذِي يَكُونُ حَوْلَ الْعَوْرَةِ، وَأَمَرَ بِتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ، وَأَمَرَ بِالْخِتَانِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ؛
لِأَنَّ هَذِهِ الأَمَاكِنَ تَجْتَمِعُ فِيهَا النَّجَاسَاتُ إِذَا تُرِكَتْ؛
لِهَذَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ – كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ –:
«الْفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
عِبَادَ اللَّهِ، حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ الْفَخْرُ وَالشَّرَفُ، بِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَشَرُوا قِيمَةَ النَّظَافَةِ وَالتَّنْظِيفِ فِي أَصْقَاعِ الدُّنْيَا حَيْثُمَا حَلُّوا وَأَيْنَمَا وُجِدُوا؛ بِشَيْءٍ لَمْ تَعْرِفْهُ الأُمَمُ السَّابِقَةُ قَبْلَهُمْ.
وَمَا دَخَلَ الإِسْلَامُ بِيئَةً وَلَا بَيْتًا إِلَّا وَعَلَّمَهُمْ حُسْنَ اللِّبَاسِ، وَجَمَالَ السَّتْرِ، وَنَظَافَةَ الْبَدَنِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخُصُّ عُصُورَ مَا قَبْلَ الإِسْلَامِ، بَلْ إِنَّكَ – وَبِكُلِّ ثِقَةٍ وَأَسًى – لَا تَرَى أَمْكِنَةً أَوْ أَزْمِنَةً انْطَمَسَتْ فِيهَا آثَارُ النُّبُوَّةِ، إِلَّا وَتَتَجَلَّى فِيهَا صُوَرُ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، وَالْكُفْرِ بِالْخَالِقِ، وَالشِّرْكِ بِالْمَخْلُوقِ، وَاسْتِحْسَانِ الْقَبَائِحِ، وَفَسَادِ الْعَقَائِدِ، وَانْحِرَافِ السُّلُوكِ، وَشُذُوذِ الْفِعْلِ.
لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، وَلَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْ قَبِيحٍ، وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى سَبِيلٍ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْعَصْرِ تَجِلُّ عَنِ الْحَصْرِ وَالْعَدِّ.
فَإِنَّ الْمُسْلِمَ مُطَالَبٌ بِالطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ فِي سِرِّهِ وَفِي عَلَانِيَتِهِ، فِي عِبَادَاتِهِ وَفِي عَادَاتِهِ، فِي نَفْسِهِ وَفِي أَهْلِهِ، فِي بَيْتِهِ وَفِي مَسْجِدِهِ، فِي حَضَرِهِ وَفِي سَفَرِهِ، فِي يَوْمِهِ وَفِي غَدِهِ؛ بَلْ فِي كُلِّ أَيَّامِ عُمْرِهِ.
وَكَذَلِكَ مُطَالَبٌ بِتَعْلِيمِ أَوْلَادِهِ الْمُحَافَظَةَ عَلَى النَّظَافَةِ عَلَى الْمُسْتَوَى الشَّخْصِيِّ وَالْمُجْتَمَعِيِّ،
وَعَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَّا – أَيُّهَا الْكِرَامُ أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ نَفْعٌ لِدِينِهِ وَمُجْتَمَعِهِ، انْطِلَاقًا مِنْ هَدْيِ الإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
فَلَا بُدَّ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالنَّظَافَةِ الشَّخْصِيَّةِ، لِيَكُونَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ أَقْوَى الأُمَمِ عَقِيدَةً وَإِيمَانًا، وَأَسْلَمَهُمْ فِكْرًا وَعِلْمًا، وَأَصْلَحَهُمْ قُلُوبًا وَأَعْمَالًا، وَأَصَحَّهُمْ أَجْسَادًا وَأَبْدَانًا،
لِيَجْمَعُوا بَيْنَ صَلَاحِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ وَالْمَخْبَرِ، وَعِنْدَ ذَاكَ تَحْصُلُ لَهُمُ الْقُوَّةُ الْمَادِّيَّةُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ، حَيْثُ يَقْوَى الإِيمَانُ وَالْعِلْمُ، وَيَحْسُنُ الْخُلُقُ وَالْمُعَامَلَةُ، وَتَصِحُّ الأَبْدَانُ وَالْعُقُولُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بَقِيَ الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ النَّظَافَةَ وَالتَّخَلُّصَ مِنَ الْفَوْضَى فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ أَمْرٌ مُهِمٌّ،
فَتُشِيرُ الأَبْحَاثُ الْمُحَكَّمَةُ إِلَى أَنَّ التَّأْثِيرَ السَّلْبِيَّ لِقِلَّةِ النَّظَافَةِ وَالْفَوْضَى وَالْعَيْشِ فِي بِيئَةٍ مُزْدَحِمَةٍ،
لَهُ أَثَرُهُ السَّلْبِيُّ فِي الصِّحَّةِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ،
وَالَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْلُقَ نَوْعًا مِنَ الإِجْهَادِ وَالتَّوَتُّرِ، وَانْخِفَاضِ التَّرْكِيزِ، وَزِيَادَةِ ضُغُوطَاتِ الْحَيَاةِ،
بِعَكْسِ النَّظَافَةِ وَالتَّرْتِيبِ، الَّذَيْنِ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يُسَاعِدَا فِي تَخْفِيفِ التَّوَتُّرِ، وَتَقْلِيلِ الْقَلَقِ، وَتَحْسِينِ الْحَالَةِ الْمِزَاجِيَّةِ وَالصِّحَّةِ الْعَامَّةِ.
العُنْصُرُ الثَّانِي : أَهَمِّيَّةُ الحِفَاظِ عَلَى البِيئَةِ مِن مَنْظُورِ الإِسْلَامِ
فَقَدْ حَافَظَ الإِسْلَامُ عَلَى البِيئَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الإِضْرَارِ بِهَا، وَالأَمْرِ بِالمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَمِنَ الأُمُورِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا لِحِفْظِ البِيئَةِ، الإِفْسَادُ فِي الأَرْضِ عُمُوماً، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأَعْرَافِ: 56].
وَنَهَى عَنْ إِهْلَاكِ الحَرْثِ وَالنَّسْلِ بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذٰلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ [البَقَرَةِ: 205].
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي “المُصَنَّفِ”، وَمَعْنَاهُ: لَا ضَرَرَ ابْتِدَاءً، وَلَا ضِرَارَ فِي مُقَابِلِ الضَّرَرِ.
وَمِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لِحِفْظِ البِيئَةِ، الدَّعْوَةُ إِلَى الزَّرْعِ، وَإِثْبَاتُ الأَجْرِ بِفِعْلِهِ؛ فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ».
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ».
وَقَدْ عُنِيَ الإِسْلَامُ بِالبِيئَةِ فِي كُلِّ نَوَاحِيهَا؛ فَفِي النَّاحِيَةِ الزِّرَاعِيَّةِ أَمَرَ بِالحِرْصِ عَلَى الزَّرْعِ، وَلَوْ قَامَتِ القِيَامَةُ – يَعْنِي ظَهَرَتْ عَلَامَاتُهَا – فَقَالَ ﷺ:
«إِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ، وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَفِي الحَدِيثِ السَّابِقِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ عَنْ فَضْلِ الغَرْسِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذٰلِكَ أَيْضًا.
وَأَمَرَ الإِسْلَامُ كَذٰلِكَ بِإِحْيَاءِ المَوَاتِ مِنَ الأَرْضِ، وَرَتَّبَ عَلَى ذٰلِكَ أَجْرًا أُخْرَوِيًّا لِتَحْفِيزِ النَّاسِ عَلَى ذٰلِكَ، وَمِنْ ذٰلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي “المُسْنَدِ” عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتِ العَافِيَةُ (كُلُّ طَالِبِ رِزْقٍ آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ) مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ».
وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَأَمَرَ الإِسْلَامُ بِنَظَافَةِ الطُّرُقِ وَالحِفَاظِ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ مَا يُؤْذِي
وَجَعَلَ ذٰلِكَ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، فَفِي الحَدِيثِ:
«الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«مَنْ أَمَاطَ أَذًى مِنْ طَرِيقِ المُسْلِمِينَ، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ تُقُبِّلَتْ مِنْهُ حَسَنَةٌ دَخَلَ الجَنَّةَ»؛ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي “المُعْجَمِ”، وَالبُخَارِيُّ فِي “الأَدَبِ المُفْرَدِ”.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ إِذْ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ».
وَأَمَرَ الإِسْلَامُ بِالحِفَاظِ عَلَى الحَيَوَانِ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ، وَعَاقَبَ مَنْ كَانَ سَبَبًا فِي تَعْذِيبِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ:
«دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ، رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«لَعَنَ اللَّهُ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا»؛
يَعْنِي: لِمُجَرَّدِ تَعَلُّمِ الرِّمَايَةِ أَوِ اللَّهْوِ.
وَأَمَرَ الإِسْلَامُ بِالحِفَاظِ عَلَى الطُّرُقِ وَالمُنْتَزَهَاتِ، وَجَعَلَ لِمَنْ أَفْسَدَهَا أَشَدَّ العِقَابِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ»، قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ؟
قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
كَمَا أَمَرَ الإِسْلَامُ بِالحِفَاظِ عَلَى المِيَاهِ بِأَنْوَاعِهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ».
فَالإِسْلَامُ بَعِيدٌ كُلَّ البُعْدِ عَمَّا تَفْعَلُهُ بَعْضُ الشُّعُوبِ بِصُوَرٍ فَرْدِيَّةٍ أَوْ جَمَاعِيَّةٍ؛ إِذْ يُلَوِّثُونَ البِحَارَ بِالإِشْعَاعَاتِ النَّوَوِيَّةِ، وَيَطْمُرُونَ الأَغْذِيَةَ خَوْفًا مِنْ رُخْصِ سِعْرِهَا، وَيُبِيدُونَ الأَشْجَارَ وَالحَيَوَانَاتِ بِاسْمِ التَّرْفِيهِ وَالنُّزْهَةِ، وَيُسْرِفُونَ فِي اسْتِخْدَامِ مَوَارِدِ البِيئَةِ فِيمَا لَا يُفِيدُ، وَيَعْتَدُونَ عَلَى الأَرْوَاحِ وَالنُّفُوسِ دُونَ مُبَالَاةٍ.
فَإِنَّ الإِسْلَامَ حَثَّ عَلَى النَّظَافَةِ وَإِزَالَةِ الأَوْسَاخِ وَالقُمَامَاتِ
وَلَمْ يُحَدِّدْ لِذٰلِكَ وَقْتًا فِيمَا نَعْلَمُ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الجُودَ، فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَسَاحَاتِكُمْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ».
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:
«طَهِّرُوا أَفْنِيَتَكُمْ، فَإِنَّ اليَهُودَ لَا تُطَهِّرُ أَفْنِيَتَهَا».
وَمِنَ الحِفَاظِ عَلَى البِيئَةِ أَيْضًا نَظَافَةُ الطُّرُقِ وَالمَرَافِقِ العَامَّةِ
إِنَّ أَكْثَرَ الأَمَاكِنِ الَّتِي يَرْتَادُهَا النَّاسُ الطُّرُقُ العَامَّةُ، وَمَوَارِدُ المِيَاهِ، وَأَمَاكِنُ الجُلُوسِ، كَالشَّجَرِ وَالظِّلِّ وَنَحْوِهِ، لِذَا حَذَّرَ الإِسْلَامُ مِنْ تَلْوِيثِهَا خَاصَّةً، فَإِنَّ ذٰلِكَ يَكُونُ إِيذَاءً لِلنَّاسِ مِنْ جِهَةٍ، لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهَا، وَمَجْلِبَةً لِلَّعْنِ مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ.
فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«اتَّقُوا المَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: البَرَازَ فِي المَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ».
فَلَا شَكَّ أَنَّ تَلْوِيثَ هٰذِهِ الأَمَاكِنِ أَكْثَرُ ضَرَرًا مِنْ غَيْرِهَا، فَالنَّاسُ يَكْثُرُونَ فِيهَا فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ، لِذَا كَانَ التَّحْذِيرُ مُنَفِّرًا، وَاصِفًا الفِعْلَ بِأَنَّهُ مَجْلِبَةٌ مُحَصَّنَةٌ لِلَّعْنِ وَالشَّتْمِ، لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَنْفِرُ مِنْ ذٰلِكَ، فَضْلًا عَنْ تَلْوِيثِ البِيئَةِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَاسَ عَلَى ذٰلِكَ مَنْ يُدَخِّنُ فِي الصَّالَاتِ العَامَّةِ، وَالحَافِلَاتِ، وَالأَمَاكِنِ المُشْتَرَكَةِ، لِأَنَّهُ يُنْشِئُ أَذًى وَضَرَرًا فِي أَمَاكِنَ يَرْتَادُهَا النَّاسُ، فَيُفْسِدُ البِيئَةَ، وَيَسْتَجْلِبُ لِنَفْسِهِ اللَّعْنَ.
عَدَمُ حَجْبِ الرِّيحِ عَنِ الجَارِ
لَقَدْ بَيَّنَ ﷺ أَنَّ الهَوَاءَ الطَّلْقَ مِنْ حَقِّ الإِنسَانِ أَنْ يَشُمَّهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْجَبَ عَنْهُ بِحَالٍ، فَقَالَ مُخَاطِبًا الجَارَ فِي حُسْنِ الجِوَارِ:
«وَلَا تَسْتَظِلَّ عَلَيْهِ بِالبُنْيَانِ، فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ».
فَهٰذَا الحَدِيثُ إِرْشَادٌ لِلْجَارِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الهَوَاءَ مِنْ حَقِّ الإِنسَانِ، لَا يَجُوزُ حَجْبُهُ عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَيَلْحَقُ بِذٰلِكَ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ أَهَمِّيَّةً فِي بَعْضِ البُلْدَانِ وَالأَمَاكِنِ وَالفُصُولِ، فَالهَوَاءُ وَالشَّمْسُ مِنْ عَنَاصِرِ البِيئَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، لَا يَجُوزُ التَّفْرِيطُ بِهِمَا.
وَإِذَا كَانَ حَجْبُ الرِّيحِ عَنِ الجَارِ مَرْفُوضًا، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَلَّا يَضَعَ القُمَامَةَ أَمَامَ دَارِهِ، أَوْ يَرْفَعَ صَوْتَ المِذْيَاعِ وَالمُسَجِّلِ وَالتِّلْفَازِ فَيُؤْذِيَهُ بِالصَّخَبِ، وَأَلَّا يَفْتَحَ عَلَى دَارِهِ فُوَّهَاتِ دُخَانِ الحَمَّامَاتِ وَالمَطَابِخِ، فَكُلُّ ذٰلِكَ يَنْدَرِجُ تَحْتَ قَوْلِهِ ﷺ:
«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
وَمِمَّا تَقَدَّمَ تَبَيَّنَ لَنَا حِرْصُ الإِسْلَامِ عَلَى البِيئَةِ، فَفِي نَظَافَتِهَا وَنَقَائِهَا طِيبَةُ النُّفُوسِ، وَسَلَامَةُ الأَجْسَادِ.
إِنَّ الإِسْلَامَ قَدْ أَمَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ شَرٍّ، وَأَمَرَ بِسَائِرِ الآدَابِ وَمَحَاسِنِ الأَخْلَاقِ، وَمِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الدِّينُ القَوِيمُ: المُحَافَظَةُ عَلَى البِيئَةِ، وَهٰذِهِ المُحَافَظَةُ فِي مَصْلَحَةِ الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ.
وَقَدْ جَاءَتِ الأَدْيَانُ السَّمَاوِيَّةُ كُلُّهَا تَدْعُو الإِنسَانَ إِلَى المُحَافَظَةِ عَلَى البِيئَةِ، وَتُحَرِّمُ عَلَيْهِ تَلْوِيثَهَا وَإِفْسَادَهَا، لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا مِنْ أَجْلِهِ، وَسَخَّرَهَا لِخِدْمَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ.
وَالَّذِي يَتَدَبَّرُ الآيَاتِ القُرْآنِيَّةَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾
إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا، وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾،
يُدْرِكْ تَمَامًا أَنَّ الكَوْنَ مُسَخَّرٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لِلإِنسَانِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى نَظَافَتِهِ وَنِظَامِهِ الدَّقِيقِ البَدِيعِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
إِنَّ الإِسْلَامَ – بِاعْتِبَارِهِ الدِّينَ الخَاتِمَ لِكُلِّ الأَدْيَانِ – جَاءَ يَحُثُّ النَّاسَ كُلَّ النَّاسِ عَلَى المُحَافَظَةِ عَلَى البِيئَةِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى عَدَمِ تَلْوِيثِهَا أَوْ إِفْسَادِهَا.
فَحَرَّمَ عَلَى المُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمُ التَّبَوُّلَ أَوِ التَّبَرُّزَ أَوْ إِلْقَاءَ القَاذُورَاتِ أَوْ جُثَثِ الحَيَوَانَاتِ أَوْ مُخَلَّفَاتِ المَصَانِعِ أَوِ المُدُنِ فِي مَجَارِي المِيَاهِ، خَشْيَةَ تَلْوِيثِهَا، فَيَضُرَّ ذٰلِكَ الإِنسَانَ وَالحَيَوَانَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ.
وَالقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي وَضَعَ أَسَاسَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:
«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: وَصِيَّةُ الإِسْلَامِ لِلأَفْرَادِ اتِّجَاهَ البِيئَةِ
عَنِيَ الإِسْلَامُ بِعِمَارَةِ الأَرْضِ وَرِعَايَةِ الكَوْنِ عِنَايَةً خَاصَّةً، وَأَوْلَاهَا اهْتِمَامًا مَشْهُودًا، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الكَوْنَ، وَهَيَّأَ فِيهِ الظُّرُوفَ المُثْلَى لِلْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ المُسْتَقِرَّةِ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَ فِيهِ الإِنسَانَ لِيَقُومَ بِإِعْمَارِهِ عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ الَّذِي يُحَقِّقُ بِهِ مَرْضَاةَ رَبِّهِ، وَخِدْمَةَ بَنِي جِنْسِهِ، وَخِدْمَةَ الكَوْنِ مِنْ حَوْلِهِ؛
قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هُودٍ: ٦١].
وَعِنْدَمَا عَرَضَ القُرْآنُ قِصَّةَ بَدْءِ الخَلِيقَةِ وَالنَّشْأَةِ الأُولَى، أَشَارَ – فِي سِيَاقِ ذٰلِكَ – إِلَى أَنَّ أَكْبَرَ مُهَدِّدٍ لِاسْتِمْرَارِ الحَيَاةِ الطَّبِيعِيَّةِ عَلَى هٰذَا الكَوْكَبِ الوَلِيدِ، إِنَّمَا يَأْتِي مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ؛
يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البَقَرَةِ: ٣٠].
فَالإِفْسَادُ – الَّذِي هُوَ ضِدُّ الإِعْمَارِ أَكْبَرُ خَطَرٍ يَتَهَدَّدُ الحَيَاةَ، وَهُوَ البَنْدُ الأَوَّلُ مِنَ المُهَدِّدَاتِ الَّتِي اسْتَشْعَرَهَا المَلائِكَةُ الكِرَامُ أَثْنَاءَ الحِوَارِ عَنِ الأَرْضِ وَخَلِيفَتِهَا.
وَمِنْ ثَمَّ، فَقَدْ حَذَّرَ المَوْلَى تَعَالَى أَشَدَّ تَحْذِيرٍ مِنْ هٰذِهِ المَاحِقَةِ المُدَمِّرَةِ؛
فَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ﴾ [المَائِدَةِ: ٦٤]،
وَقَالَ: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٠٥]،
وَقَالَ: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٦٠]،
وَقَالَ: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأَعْرَافِ: ٥٦].
وَجَرَّمَ إِرَاقَةَ الدِّمَاءِ – بِغَيْرِ حَقٍّ أَيَّمَا تَجْرِيمٍ، وَحَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَى المُمتَلَكَاتِ الخَاصَّةِ أَوْ عَلَى مَالِكِيهَا.
وَفِي سِيَاقِ التَّشْرِيعِ القَانُونِيِّ، وُضِعَتْ أَشَدُّ عُقُوبَةٍ وَأَقْسَاهَا فِي الإِسْلَامِ ضِدَّ المُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ، يَقُولُ تَعَالَى:
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ۚ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المَائِدَةِ: ٣٣].
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ:
«سَأَلَنِي الحَجَّاجُ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟
قُلْتُ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَوْمٌ مِنْ عُرَيْنَةَ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا لَقُوا مِنْ بُطُونِهِمْ، وَقَدِ اصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ وَضَمُرَتْ بُطُونُهُمْ،
فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا،
حَتَّى إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ أَلْوَانُهُمْ، وَانْخَمَصَتْ بُطُونُهُمْ، عَمَدُوا إِلَى الرَّاعِي فَقَتَلُوهُ، وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ،
فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي آثَارِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ أَلْقَاهُمْ فِي الرَّمْضَاءِ حَتَّى مَاتُوا»
أَصْلُهُ فِي «صَحِيحِ البُخَارِيِّ».
هٰذَا فِي سِيَاقِ مَنْ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ أَمَامَ إِعْمَارِ الأَرْضِ وَازْدِهَارِهَا.
أَمَّا عَنِ الوَسَائِلِ وَالمُشَارَكَةِ المُبَاشِرَةِ فِي إِعْمَارِ الأَرْضِ، فَتَشْرِيعَاتُ الإِسْلَامِ مَلِيئَةٌ بِالتَّقْعِيدِ وَالتَّنْظِيرِ لِإِعْمَارِ الكَوْنِ بِأَفْضَلِ مَنْهَجٍ مُتَوَازِنٍ، يُحَقِّقُ الاسْتِقْرَارَ النَّفْسِيَّ وَالرُّوحِيَّ لِلكَوْنِ وَسَاكِنِيهِ.
فَقَدْ حَثَّ – أَبْلَغَ الحَثِّ – عَلَى بَذْلِ الجُهْدِ وَاسْتِفْرَاغِ الوُسْعِ فِي إِعْمَارِ الأَرْضِ، حَتَّى فِي أَحْلَكِ الظُّرُوفِ.
عَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ، وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ (نَخْلَةٌ صَغِيرَةٌ)، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا» – أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
وَحَثَّ ﷺ عَلَى الزِّرَاعَةِ وَتَشْجِيرِ الأَرْضِ مَنْعًا لِلتَّلَوُّثِ، وَنَشْرًا لِلْخُضْرَةِ وَالخَيْرِ،
حَيْثُ قَالَ ﷺ:
«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» – رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ:
«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ» – أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي سِيَاقِ الحِفَاظِ عَلَى البِيئَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَمَا فِيهَا مِنْ حَيَوَانٍ وَطَيْرٍ، وَرَدَتْ جُمْلَةٌ مِنْ نُصُوصِ الوَحْيِ تُؤَكِّدُ هٰذِهِ المَعَانِيَ،
وَيُنَبِّهُ بَعْضُ البَاحِثِينَ إِلَى سَبْقِ الإِسْلَامِ إِلَى المُنَادَاةِ بِمَفْهُومِ المَحْمِيَّاتِ الطَّبِيعِيَّةِ، بِصُورَةٍ أَشْمَلَ وَأَوْسَعَ مِمَّا تَعَارَفَتْ عَلَيْهِ البَشَرِيَّةُ اليَوْمَ،
مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى حِمَايَةِ الطَّيْرِ أَوِ الحَيَوَانَاتِ فَحَسْبُ، بَلْ يَشْمَلُ أُمُورًا كَثِيرَةً.
وَيَسْتَشْهِدُونَ عَلَى ذٰلِكَ بِجَعْلِ الرَّسُولِ ﷺ المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ مَحْمِيَّةً طَبِيعِيَّةً،
حَيْثُ قَالَ ﷺ:
«اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ المَدِينَةَ، حَرَامٌ مَا بَيْنَ حَرَّتَيْهَا، وَحِمَاهَا كُلُّهُ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا (لَا يُقْطَعُ نَبَاتُهَا)، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمَنْ أَشَارَ بِهَا، وَلَا تُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرَةٌ، إِلَّا أَنْ يُعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ، وَلَا يُحْمَلُ فِيهَا السِّلَاحُ لِقِتَالٍ…»
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي «المُسْنَدِ».
وَحَارَبَ الإِسْلَامُ السَّلْبِيَّةَ فِي كُلِّ مَظَاهِرِهَا، وَسَحَبَ عَنْهَا كُلَّ مُبَرِّرَاتِ الشَّرْعَنَةِ؛
فَبَدَّعَ التَّرَهُّبَ وَالِاعْتِزَالَ وَالِانْسِحَابَ مِنَ الحَيَاةِ العَامَّةِ،
وَضَاعَفَ الأَجْرَ بِالعَمَلِ، وَحَثَّ عَلَى الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ، وَالمَشْيِ فِي مَنَاكِبِهَا،
وَحَذَّرَ مِنَ الطُّرُقِ المُؤَدِّيَةِ إِلَى تَبْدِيدِ الحَضَارَاتِ وَتَلَاشِي عُمْرَانِهَا وَهَلَاكِ الأُمَمِ.
كَذٰلِكَ جَعَلَتْ تَشْرِيعَاتُ الإِسْلَامِ إِعْمَارَ الأَرْضِ المُهْمَلَةِ سَبَبًا مُبَاشِرًا لِتَمَلُّكِهَا،
فِيمَا يُعْرَفُ عِنْدَ الفُقَهَاءِ بِـ إِحْيَاءِ المُوَاتِ.
وَحَرَّمَتْ تَقْطِيعَ الأَشْجَارِ أَوْ حَرْقَهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ مُلِحَّةٍ،
وَفَرَّعَ الفُقَهَاءُ حَدِيثًا – اسْتِنَادًا لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَضَوَابِطِهَا –
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُ الأَسْلِحَةِ الكِيمِيَائِيَّةِ وَالجَرْثُومِيَّةِ وَالنَّوَوِيَّةِ،
لِمَا تُحْدِثُهُ مِنْ دَمَارٍ شَامِلٍ عَلَى مَسَاحَاتٍ وَاسِعَةٍ،
تَطَالُ آثَارُهَا كُلَّ إِنسَانٍ دُونَ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مُقَاتِلٍ وَغَيْرِ مُقَاتِلٍ،
وَتُهْلِكُ الحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ،
وَأَضْرَارُهَا تَبْقَى أَجْيَالًا عَدِيدَةً،
وَلِأَنَّهَا تُهْلِكُ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَتُفْسِدُ فِي الأَرْضِ.
وَالمُتَأَمِّلُ فِي فِقْهِ العِمَارَةِ فِي الإِسْلَامِ يَجِدْهُ فِقْهًا رَاقِيًا،
يَتَنَاوَلُ الإِعْمَارَ مِنْ أَبْعَادِهِ كُلِّهَا، وَعَلَى كُلِّ المُسْتَوَيَاتِ؛
فَقَدْ بَدَأَ بِإِعْمَارِ أَهَمِّ كَائِنٍ فِي الكَوْنِ، وَالَّذِي لَا شَكَّ أَنَّهُ أَكْبَرُ مُؤَثِّرٍ فِيمَا حَوْلَهُ مِنْ كَائِنَاتٍ،
أَلَا وَهُوَ الإِنسَانُ.
فَاهْتَمَّ بِإِعْمَارِ نَفْسِ الإِنسَانِ أَوَّلًا،
وَتَزْكِيَةِ إِيمَانِهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ،
وَتَعْزِيزِ رُوحِ التَّضْحِيَةِ وَالجِهَادِ فِي النَّفْسِ الإِنسَانِيَّةِ،
حَتَّى تَسْمُوَ إِلَى عَوَالِمِ الإِيثَارِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ هٰذَا الإِعْمَارَ لَا يَعْدِلُهُ حَتَّى إِعْمَارُ أَفْضَلِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ فِي الأَرْضِ،
قَالَ تَعَالَى:
> {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ}
[التَّوْبَةِ: 19].
فَالإِعْمَارُ المَعْنَوِيُّ لِلنُّفُوسِ هُوَ الأَسَاسُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ إِعْمَارُ الأَرْضِ،
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نُؤَسِّسَ لِحَضَارَةٍ إِنسَانِيَّةٍ وَارِفَةِ الظِّلَالِ
إِلَّا بِإِعْمَارٍ وَتَزْكِيَةٍ لِلْجَانِبِ الخُلُقِيِّ وَالإِنسَانِيِّ فِيهَا.
قَالَ تَعَالَى:
> {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا، وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
[الرُّومِ: 9].
الدُّعَاءِ
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ
وَأَقُمْ الصَّلَاةُ