خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ( سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ) للشيخ ياسر عبدالبديع


خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ( سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ)

للشيخ ياسر عبدالبديع

بتاريخ 29 أغسطس 2025 م – 6 ربيع الأول 1447 هجرية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ

سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

سماحة الإسلام

العُنصُرُ الأوَّلُ : السَّمَاحُ وَالعَفْوُ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ

وَخُلُقُ اليَومِ، وَخُلَّةُ اليَومِ، وَصِفَةُ اليَومِ مِن أَجمَلِ الصِّفَاتِ، وَأَفضَلِ السِّمَاتِ، وَرَائِدَةِ الأَخلَاقِ، وَسَيِّدَةِ الآدَابِ؛ إِنَّهَا خَلَّةٌ حَمِيدَةٌ، وَعِبَارَةٌ مُحَبَّبَةٌ، وَقِيمَةٌ أَخلَاقِيَّةٌ عُظمَى؛ إِنَّهُ خُلُقُ العَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالتَّسَامُحِ.

وَيُقصَدُ بِهِ: الصَّفْحُ عَمَّن أَخطَأَ أَو تَجَاوَزَ حَدَّهُ؛ كَمَا تَعنِي: العَفْوَ عِندَ المَقدِرَةِ، وَالتَّجَاوُزَ عَن أَخطَاءِ الآخَرِينَ، وَوَضْعَ الأَعذَارِ لَهُم، وَالنَّظَرَ إِلَى مَزَايَاهُم وَحَسَنَاتِهِم بَدلًا مِنَ التَّركِيزِ عَلَى عُيُوبِهِم وَأَخطَائِهِم؛ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آمِرًا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِالعَفْوِ عَنِ النَّاسِ وَالصَّفْحِ وَالتَّسَامُحِ:
﴿ فَاعْفُ عَنهُم وَاستَغفِرْ لَهُم وَشَاوِرهُم فِي الأَمرِ ﴾ [آلِ عِمرَانَ: 159]،
وَقَالَ لَهُ سُبحَانَهُ: ﴿ خُذِ العَفْوَ وَأمُرْ بِالعُرفِ وَأَعرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ﴾ [الأَعرَافِ: 199]،
وَقَالَ لَهُ تَعَالَى: ﴿ فَاعْفُ عَنهُم وَاصفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ ﴾ [المَائِدَةِ: 13].

وَلَقَد ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَروَعَ المَثَلِ، وَقَدَّمَ أَعظَمَ الصُّوَرِ فِي العَفْوِ وَالسَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ؛ فَأَقمَالُهُ وَأَفعَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ جَاءَت مُتَطَابِقَةً تَمَامَ التَّطَابُقِ، فَلَا تَنَاقُضَ بَينَ مَا يَدعُو إِلَيهِ وَبَينَ مَا يُطَبِّقُهُ.

وَصُوَرُ تَطبِيقِهِ لِهَذَا الخُلُقِ الكَرِيمِ شَمِلَت كُلَّ مَن تَعَامَلَ مَعَهُم، فَوَجَدنَاهَا مَعَ أَصحَابِهِ وَأَعدَائِهِ، وَفِي السِّلمِ وَالحَربِ، وَمَعَ أَهلِ بَيتِهِ وَجِيرَانِهِ، وَكَذَا فِي البَيعِ وَالشِّرَاءِ وَالقَضَاءِ، وَالأَخذِ وَالعَطَاءِ.

نَعَم يَا كِرَامُ، أَرسَى نَبِيُّنَا الكَرِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَبَادِئَ السَّمَاحَةِ وَالتَّسَامُحِ بَينَ النَّاسِ مِن غَيرِ ذُلٍّ، وَلَا إِخلَالٍ بِعِزَّةِ الإِسلَامِ وَكَرَامَةِ الإِنسَانِ، وَضَرَبَ المَثَلَ الأَعلَى فِي العَفْوِ عَمَّن ظَلَمَهُ، وَإِعطَاءِ مَن حَرَمَهُ، وَصِلَةِ مَن قَطَعَهُ، كُلُّ ذَلِكَ تَسَامُحًا مِنهُ، وَتَوَاضُعًا لِرَبِّهِ، وَرَحمَةً بِالنَّاسِ، وَإِحسَانًا إِلَيهِم.

عَفْوُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَسَمَاحَتُهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ، وَنَافَحَ كَثِيرًا مُحَارِبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي مَيَادِينِ شَتَّى:

* فَأَدْمَى كَبِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي أُحُدٍ.

* وَحَزَبَ الأَحْزَابَ يَوْمَ الخَندَقِ ضِدَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

* وَنَاصَرَ القَبَائِلَ ضِدَّهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَعَلَى الرَّغمِ مِن كُلِّ ذَلِكَ، يَعْفُو عَنهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَومَ فَتحِ مَكَّةَ، بَل وَيَمُنُّ عَلَيهِ بِمَا يَفتَخِرُ بِهِ، وَمَا كَانَ يَطمَعُ فِي أَكثَرَ مِن أَن يَهَبَ لَهُ حَيَاتَهُ، وَلَا يَضرِبَ عُنُقَهُ، جَزَاءَ مَا آذَى بِهِ المُسلِمِينَ.

بَل، وَإِنَّ أَبلَغَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ بَعدَ أَن مَنَحَهُ العَفْوَ، أَن أَعطَاهُ وِسَامًا عَظِيمًا، وَنِيشَانًا يَفتَخِرُ بِهِ بَينَ المَلَإِ مِنَ النَّاسِ؛ حَيثُ أَعلَنَ عَلَى المَلَإِ، وَقَالَ: ((وَمَن دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ)).

* وَيَتَجَلَّى العَفْوُ عِندَ المَقدِرَةِ فِي أَروَعِ صُوَرِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَومَ فَتحِ مَكَّةَ، حِينَ دَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مُنتَصِرًا، وَجَلَسَ فِي المَسجِدِ وَالنَّاسُ حَولَهُ، وَالعُيُونُ شَاخِصَةٌ إِلَيهِ يَنتَظِرُونَ مَا هُوَ فَاعِلٌ اليَومَ بِمُشرِكِي قُرَيشٍ الَّذِينَ آذَوهُ، وَآذَوا أَصحَابَهُ وَعَذَّبُوهُم، وَأَخرَجُوهُ مِن بَلَدِهِ وَقَاتَلُوهُ، وَمَنَعُوهُ مِن إِبلَاغِ دِينِ اللَّهِ بَينَهُم، وَحَالُوا دُونَ إِيصَالِ الدَّعوَةِ إِلَى غَيرِهِم، فَكَفَرُوا هُم وَصَدُّوا غَيرَهُم عَن سَبِيلِ اللَّهِ.

وَهَا هُمُ اليَومَ قَادَةُ قُرَيشٍ وَسَاسَتُهَا بَينَ يَدَيهِ وَأَمَامَهُ لَا يَملِكُونَ حَولًا وَلَا قُوَّةً، وَمَصِيرُهُم بِأَمرٍ يَأمُرُهُ لَا مَلجَأَ لَهُم وَلَا مَنجَى، فَمَاذَا فَعَلَ بِهِم نَبِيُّ العَفْوِ وَالصَّفحِ وَالتَّسَامُحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، هَل رَدَّ عَلَيهِم بِالعُنفِ وَالغِلظَةِ لَمَّا قَدَرَ عَلَيهِم؟ هَل أَخَذَ بُيُوتَهُم؟ أَوِ انتَهَكَ أَعرَاضَهُم؟ هَل سَلَبَ أَموَالَهُم؟ أَو سَفَكَ دِمَاءَهُم؟ هَل ذَبَحَ نِسَاءَهُم وَيَتَّمَ أَطفَالَهُم؟ كَلَّا وَاللَّهِ، وَإِنَّمَا يُظهِرُ لَهُم مَكَارِمَ أَخلَاقِهِ وَعَفوَهُ، فَيَقُولُ لَهُم: مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُم؟ فَقَالُوا: خَيرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابنُ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ لَهُمُ الرَّحِيمُ الطَّيِّبُ الَّذِي لَم يَكُنِ انتِقَامِيًّا: ((اِذهَبُوا فَأَنتُمُ الطُّلَقَاءُ)).

* وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَن لَبِيدِ بْنِ الأَصْعَمِ اليَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَعَفَا عَنهُ وَلَم يُعَاقِبْهُ.
* كَذَلِكَ عَفْوُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَنِ اليَهُودِيَّةِ الَّتِي أَهدَتْهُ الشَّاةَ المَسمُومَةَ؛ فَقَد رَوَى مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: ((أَنَّ امرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهَا عَن ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدتُ لِأَقتُلَكَ، فَقَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: أَلَا نَقتُلُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُم: لَا، قَالَ: فَمَا زِلتُ أَعرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ)).

* بَل وَبَلَغَ مِن حِلمِهِ وَعَفوِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي العَطَاءِ لِمَن أَغلَظَ لَهُ فِي قَولِهِ؛ وَفَاءً لَهُ وَحُسنَ قَضَاءٍ؛ فَرَوَى البُخَارِيُّ عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ((كُنتُ أَمشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيهِ بُردٌ نَجرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدرَكَهُ أَعرَابِيٌّ، فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَذبَةً شَدِيدَةً، قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرتُ إِلَى صَفقَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَقَد أَثَّرَت بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِن شِدَّةِ جَذبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِن مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِندَكَ، فَالتَفَتَ إِلَيهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)).

وَرَوَى البُخَارِيُّ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: ((أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ، فَأَغلَظَ، فَهَمَّ بِهِ الصَّحَابَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا، اشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا، فَأَعطُوهُ إِيَّاهُ؛ فَإِنَّ مِن خِيَارِكُم أَحسَنَكُم قَضَاءً)).

* وَلَا يَقِفُ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عِندَ حَدِّ العَفْوِ وَالصَّفحِ، بَل كَانَ يَدعُو بِالهِدَايَةِ لِمَن آذَاهُ؛ فَلَقَد لَقِيَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا لَاقَاهُ مِن قَومِهِ مِن سُوءِ المُعَامَلَةِ وَالتَّحريضِ عَلَيهِ، وَادَّعَوا زُورًا وَبُهتَانًا بِأَنَّهُ شَاعِرٌ، وَأَنَّهُ كَاهِنٌ، وَأَنَّهُ سَاحِرٌ، وَغَيرَ ذَلِكَ مِنَ التُّهَمِ البَاطِلَةِ الَّتِي هُوَ مِنهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بَرَاءٌ، بَل وَصَلَ الأَمرُ إِلَى التَّعَدِّي عَلَيهِ وَضَربِهِ، حَتَّى شُجَّ وَجهُهُ، وَكُسِرَت رَبَاعِيَتُهُ، وَسَالَت دِمَاؤُهُ عَلَى وَجهِهِ، وَمَعَ هَذَا، لَم يَنتَقِم لِنَفسِهِ، بَل قَابَلَ إِسَاءَتَهُم بِالصَّبرِ وَالشَّفَقَةِ، وَالإِحسَانِ وَالمَوَدَّةِ وَالرَّأفَةِ؛ قَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ رِضوَانُ اللَّهِ عَلَيهِم: ((ادعُ عَلَيهِم يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ الهَادِي البَشِيرُ، رَبَّانُ العَفْوِ، وَقَائِدُ الصَّفحِ، وَرَائِدُ التَّسَامُحِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَم يَبعَثنِي طَعَّانًا وَلَا لَعَّانًا، وَلَكِن بَعَثَنِي دَاعِيَةً وَرَحمَةً، اللَّهُمَّ اهدِ قَومِي فَإِنَّهُم لَا يَعلَمُونَ)).

وَانظُرُوا كَيفَ جَمَعَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الكَلِمَاتِ أَربَعَةَ مَقَامَاتٍ مِنَ الإِحسَانِ، قَابَلَ بِهَا إِسَاءَتَهُم العَظِيمَةَ إِلَيهِ؛ أَوَّلُهَا: عَفوُهُ عَنهُم، وَثَانِيهَا: استِغفَارُهُ لَهُم، وَثَالِثُهَا: اعتِذَارُهُ عَنهُم بِأَنَّهُم لَا يَعلَمُونَ، وَرَابِعُهَا: استِعطَافُهُ لَهُم بِإِضَافَتِهِم إِلَيهِ فَقَالَ: ((اهدِ قَومِي)).

وَعِندَمَا خَرَجَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الطَّائِفِ لِدَعوَةِ أَهلِهَا إِلَى اللَّهِ، قَابَلُوهُ بِالطَّردِ وَالرَّجمِ بِالحِجَارَةِ، فَيَخرُجُ مَهمُومًا حَزِينًا، لَيسَ لِأَنَّهُم طَرَدُوهُ، وَلَكِن لِأَنَّهُم لَم يَقبَلُوا دَعوَتَهُ، وَبَعدَ لَحَظَاتٍ يَأتِيهِ جِبرِيلُ وَيَقُولُ: ((يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ سَمِعَ قَولَ قَومِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيكَ، وَقَد بَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأمُرَهُ بِمَا شِئتَ فِيهِم…))، فَقَالَ مَلَكُ الجِبَالِ: ((إِن شِئتَ أَن أُطبِقَ عَلَيهِمُ الأَخشَبَينِ))، فَمَاذَا كَانَ جَوَابُهُ وَرَدُّهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ قَالَ: ((بَل أَرجُو أَن يُخرِجَ اللَّهُ مِن أَصلَابِهِم مَن يَعبُدُ اللَّهَ، لَا يُشرِكُ بِهِ شَيئًا)).

هَذَا هُوَ قُدوَتُنَا، وَهَذَا هُوَ أُسوَتُنَا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، صَاحِبُ العَفْوِ الكَبِيرِ، وَالصَّفحِ العَظِيمِ.

وَأَمَّا مَن تَرَبَّى عَلَى يَدِهِ مِن صَحَابَتِهِ الكِرَامِ، فَقَد كَانَ هَذَا هُوَ دَيدَنُهُم وَمَنهَجُهُم؛ فَعِندَمَا خَاضَ مِسطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ فِي عِرضِ الطَّاهِرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا وَأَرضَاهَا، وَكَانَ أَبُوهَا أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ يُنفِقُ عَلَى مِسطَحٍ؛ لِأَنَّهُ ابنُ خَالَتِهِ، وَكَانَ يُحسِنُ عَلَى القَرِيبِ وَعَلَى البَعِيدِ، فَأَقسَمَ أَلَّا يُنفِقَ عَلَيهِ بَعدَ خَوضِهِ فِي عِرضِ ابنَتِهِ؛ فَأَنزَلَ اللَّهُ سُبحَانَهُ فِي حَقِّهِ آيَاتٍ:
﴿ وَلَا يَأتَلِ أُولُو الفَضلِ مِنكُم وَالسَّعَةِ أَن يُؤتُوا أُولِي القُربَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعفُوا وَلْيَصفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغفِرَ اللَّهُ لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النُّورِ: 22].

فَأَقسَمَ أَبُو بَكرٍ أَلَّا يَقطَعَ النَّفَقَةَ عَلَيهِ، بَعدَ أَن أَقسَمَ أَلَّا يُنفِقَ عَلَيهِ استِجَابَةً لِأَمرِ اللَّهِ وَلِأَمرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

وَعِندَمَا دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، وَأَسَاءَ مَعَهُ الأَدَبَ وَالكَلَامَ، وَقَالَ: «إِنَّكَ لَا تُعطِينَا الجَزلَ وَلَا تَحكُمُ بَينَنَا بِالعَدلِ»، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ، فَقَالَ ابنُ قَيسٍ: يَقُولُ اللَّهُ:
﴿ خُذِ العَفوَ وَأمُرْ بِالعُرفِ وَأَعرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ﴾ [الأَعرَافِ: 199]،
وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، فَمَا تَجَاوَزَهَا عُمَرُ.

ٱلْعُنْصُرُ ٱلثَّانِي : رِسَالَةٌ إِلَى ٱلظَّالِمِ وَٱلْمَظْلُومِ

وَٱلظُّلْمُ مِنَ ٱلْمَعَاصِي ٱلَّتِي يُعَجِّلُ ٱللَّهُ عُقُوبَتَهَا فِي ٱلدُّنْيَا قَبْلَ ٱلآخِرَةِ، فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ ٱللَّهِ -صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ ٱللَّهُ لِصَاحِبِهِ ٱلْعُقُوبَةَ فِي ٱلدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ ٱلرَّحِمِ». أَبُو دَاوُد.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ ٱلنَّاسَ إِذَا رَأَوُا ٱلظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ ٱللَّهُ بِعِقَابٍ». رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

وَلَقَدْ حَذَّرَنَا ٱللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ ٱلظُّلْمِ غَايَةَ ٱلتَّحْذِيرِ، وَأَخْبَرَنَا بِأَنَّ هَلَاكَ ٱلْقُرُونِ ٱلْمَاضِيَةِ كَانَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ﴾ [يُونُس: ١٣].

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ [ٱلْكَهْف: ٥٩].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ مُصَوِّرًا حَالَ أُمَّةٍ بَعْدَ إِهْلَاكِهَا: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾ [ٱلْحَجّ: ٤٥].

وَقَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا تَنَوُّعَ عُقُوبَاتِهِ ٱلَّتِي سَلَّطَهَا عَلَى ٱلطُّغَاةِ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ:
﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [ٱلْعَنْكَبُوت: ٤٠].

وَٱلظُّلْمُ -أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ- دَرَجَاتٌ وَأَنْوَاعٌ، وَأَشَدُّهَا ظُلْمُ ٱلنَّاسِ لِخَالِقِهِمْ بِإِنْكَارِ وُجُودِهِ، أَوْ نِسْبَةُ ٱلْخَلْقِ وَٱلرِّزْقِ لِغَيْرِهِ، أَوِ ٱلِاسْتِهْزَاءُ بِذَاتِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ رُسُلِهِ أَوْ كُتُبِهِ، أَوِ ٱلإِشْرَاكُ بِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِٱبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لُقْمَان: ١٣].

فَمَنْ مَاتَ عَلَى ٱلشِّرْكِ بِٱللَّهِ تَعَالَى خَلَّدَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلنَّارِ أَبَدًا، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [ٱلْمَائِدَة: ٧٢].

وَمِنَ ٱلظُّلْمِ ٱلذُّنُوبُ وَٱلْمَعَاصِي ٱلَّتِي بَيْنَ ٱلْعَبْدِ وَرَبِّهِ مَا دُونَ ٱلشِّرْكِ بِٱللَّهِ، فَإِنَّ ٱللَّهَ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، أَوْ كَفَّرَهَا بِٱلْمَصَائِبِ وَٱلْعُقُوبَاتِ فِي ٱلدُّنْيَا، أَوْ تَجَاوَزَ عَنْهَا بِشَفَاعَةِ ٱلنَّبِيِّ -صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ شَفَاعَةِ غَيْرِهِ مِنَ ٱلشَّافِعِينَ، أَوْ يُعَذِّبُ ٱللَّهُ ٱلْعَاصِيَ فِي ٱلنَّارِ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنَ ٱلنَّارِ وَيُدْخِلُهُ ٱلْجَنَّةَ.

وَمِنَ الظُّلْمِ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-: مَظَالِمُ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي حُقُوقٍ لِبَعْضِهِمْ؛ وَمِنْ أَعْظَمِهَا التَّطَاوُلُ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْبُسَطَاءِ وَالْعَامَّةِ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً لِاسْتِرْدَادِ حُقُوقِهِمْ وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ النِّسَاء: ١٠، أَوِ التَّعَدِّي عَلَى حُقُوقِ الْغَيْرِ وَلَوْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ».

وَمِثْلُهُ الْعُدْوَانُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ الْعُدْوَانُ عَلَيْهِ أَشَدَّ حُرْمَةً وَأَبْشَعَ أَثَرًا؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِيهِ يُصِيبُ الْأُمَّةَ بِمَجْمُوعِهَا، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَاضِين».

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شِبْرًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ مِنْ سَبْعِ أَرَاضِين».

وَمِنْ صُوَرِ الظُّلْمِ عَدَمُ الْعَدْلِ مِنْ رَئِيسِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ مُوَظَّفِيهِ فِي التَّرْقِيَاتِ وَالْعَلَاوَاتِ، فَيَا مَنْ جَعَلَ اللَّهُ حَاجَاتِ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ احْذَرُوا أَنْ تُضْطَرُّوا عِبَادَ اللَّهِ لِمَا لَا يُحْمَدُ شَرْعًا وَلَا يُرْتَضَى طَبْعًا، مِنْ كَثْرَةِ التَّرَدَّادِ وَالإِلْحَاحِ وَالِاسْتِجْدَاءِ، أَوِ التَّنَازُلِ عَنْ عِزَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ، أَوْ دَفْعِ الرَّشَاوَى الْمُحَرَّمَةِ، فَتَبَوَّؤُوا بِالإِثْمِ وَالْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-. جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الْحَقَّ حَتَّى اشْتُرِيَ، وَبَسَطُوا الْجَوْرَ حَتَّى افْتُدِيَ».

إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ: وَمِنَ الظُّلْمِ الْوَاضِحِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ ظُلْمُ الْأُجَرَاءِ وَالْمُسْتَخْدَمِينَ مِنْ عُمَّالٍ وَنَحْوِهِمْ بِبَخْسِهِمْ حُقُوقَهُمْ، أَوْ تَأْخِيرِهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا، أَوْ تَغْيِيرِ الِاتِّفَاقِ الْمُبْرَمِ مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، أَوْ إِهَانَتِهِمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَذَكَرَ مِنْهُمْ: «وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ».

وَمِنَ الظُّلْمِ الْبَيِّنِ مُمَارَسَةُ الْأَذَى الْجَسَدِيِّ أَوِ النَّفْسِيِّ لِأَيِّ شَخْصٍ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَيَشْمَلُ أَيْضًا مَنْ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَوْ يَسْكُتُ عَنْهُ.

وَظُلْمُ ذَوِي الْقَرَابَةِ أَشَدُّ مَضَاضَةً عَلَى النَّفْسِ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى الْإِنْسَانِ زَوْجُهُ وَأُمُّ وَلَدِهِ، بِالتَّقْتِيرِ عَلَيْهَا، أَوْ سُوءِ مُعَامَلَتِهَا أَوْ إِهَانَتِهَا أَوْ هَجْرَانِهَا أَوْ تَهْدِيدِهَا أَوْ عَدَمِ حُسْنِ الْخُلُقِ مَعَهَا أَوِ الْمَكْثِ كَثِيرًا خَارِجَ الْمَنْزِلِ، وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَهْلِهِ لَا خَيْرَ فِيهِ لِأُمَّتِهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي». وَمِثْلُ ذَلِكَ ظُلْمُ الْأَبْنَاءِ بِإِهْمَالِ تَرْبِيَتِهِمْ أَوْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ أَوْ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.

عِبَادَ اللَّهِ، مُنْكَرٌ كَبِيرٌ وَإِثْمٌ عَظِيمٌ، بِسَبَبِهِ تَكُونُ كُلُّ الْمَصَائِبِ، وَتَحِلُّ النِّقَمُ وَالْجَرَائِمُ، وَيَجِدُ الْمُجْرِمُ فِيهِ مُبْتَغَاهُ، وَيَضِيعُ الْعَدْلُ وَتَضْطَرِبُ حَيَاةُ النَّاسِ، وَتَنْفَجِرُ النُّفُوسُ غَيْظًا وَكَمَدًا مِنْهُ؛ إِنَّهُ مُنْكَرُ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَدْلِ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.

وَلِأَجْلِ كَثْرَةِ مَضَارِّ الظُّلْمِ وَعَظِيمِ خَطَرِهِ وَتَنَوُّعِ مَفَاسِدِهِ وَكَثِيرِ شَرِّهِ، لِأَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «يَا عِبَادِي: إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا». حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِأَنَّهُ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ، وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَحَرَّمَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ لِيَحْفَظُوا بِذَلِكَ دِينَهم

وَقَدْ تَتَأَخَّرُ عُقُوبَةُ الظُّلْمِ إِلَى حِينٍ وَأَجَلٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، فَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ:
﴿وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هُود: ١٠٢].

فَالْعُقُوبَاتُ الْإِلَهِيَّةُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ:
﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٣٧].

أَلَا فَاتَّقُوا -يَا عِبَادَ اللَّهِ-، وَاحْذَرُوا الظُّلْمَ فَإِنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، احْذَرُوهُ بِكَافَّةِ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ وَمُسَمِّيَاتِهِ، وَاحْذَرُوا مُسَاعَدَةَ الظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ، أَوْ إِقْرَارَهُ، وَاعْتَبِرُوا بِمَصَارِعِ الطُّغَاةِ الظَّالِمِينَ وَالْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ.

مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَظَالِمُ الْعِبَادِ لَا بُدَّ مِنَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا وَالتَّخَلُّصِ مِنْ عَوَاقِبِهَا، فَرَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
«إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ».

اَلظُّلْمُ شَنِيعٌ -يَا عِبَادَ اللَّهِ-، وَلَا بُدَّ مِنْ مُدَافَعَتِهِ وَتَطْهِيرِ مُجْتَمَعَاتِنَا مِنْهُ بِالْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ إِزَالَةِ الظُّلْمِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٥].

وَمِنَ الْوَسَائِلِ: عَدَمُ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي انْتِشَارِ الظُّلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [هُود: ١١٣].
وَلِأَنَّ الرُّكُونَ إِلَى الظَّالِمِ سُكُوتٌ عَنْ ظُلْمِهِ وَتَأْيِيدٌ لَهُ

فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الظُّلْمُ وَالْأَذَى وَالْإِهَانَةُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ، لِيَنَالَ أَجْرَ الْمُتَّقِينَ الصَّابِرِينَ الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَيَفُوزَ بِمَعِيَّةِ اللهِ وَعَوْنِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ {آلِ عِمْرَانَ: 133}.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ﴾ {الشُّورَى: 40}.

وَقَالَ: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ﴾ {النُّور: 22}.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ {الشُّورَى: 43}.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ﴾ {النَّحْل: 126}.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ {الْمُزَّمِّل: 10}.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ {التَّغَابُن: 14}.

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى:
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ {فُصِّلَتْ: 34-35}.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: “إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ”، فَقَالَ: “لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذٰلِكَ”.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ”.

وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا لِلنَّاسِ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ». وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْتَصِرَ، دَعَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي حُورِ الْعِينِ أَيَّتُهُنَّ شَاءَ». وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَيُشْرَعُ لَهُ أَيْضًا الْإِمْسَاكُ عَنِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ لِيُلْقِيَ الْمُذْنِبُ رَبَّهُ بِمَا اقْتَرَفَ مِنَ الْإِثْمِ، وَلَكِنْ – كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ – مَا يُفِيدُكَ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ أَحَدًا لِأَجْلِكَ؟ مَعَ مَا يَفُوتُكَ مِنْ أَجْرِ الْعَفْوِ، لَوْ عَفَوْتَ.

وَيُشْرَعُ لَهُ أَيْضًا الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ…» يَدْعُو لِرِجَالٍ فَيُسَمِّيهِمْ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِينَ يُوسُفَ».

وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

وَيُشْرَعُ لَهُ أَيْضًا الْمُقَاصَّةُ، وَمُقَابَلَةُ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا دُونَ تَجَاوُزٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ {الشُّورى: 40}.

وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ {النِّساء: 148-149}.

وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ {الشُّورى: 41-42-43}.

وَالْعَفْوُ وَالتَّسَامُحُ لَا يَعْنِي الضَّعْفَ وَالِانْكِسَارَ، وَلَا يَعْنِي الْمَذَلَّةَ وَالْخَوَرَ، وَلَا يَعْنِي الْجُبْنَ وَالِانْهِزَامَ، بَلْ إِنَّهُ قِمَّةُ الشَّجَاعَةِ وَالرُّجُولَةِ وَغَلَبَةُ الْهَوَى، وَقِمَّةُ الْامْتِنَانِ وَالْعِزَّةِ؛ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا رَوَى ذٰلِكَ مُسْلِمٌ:
((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ))

اَلْعُنْصُرُ اَلثَّالِثُ: فَوَائِدُ اَلْعَفْوِ وَالصَّفْحِ:

عِبَادَ اَللَّهِ؛ إِنَّ مَكَانَةَ اَلْمُؤْمِنِ أَعَزُّ وَأَسْمَى مِنْ أَنْ يَتَسَاوَى فِي اَلظَّاهِرِ مَعَ ظَالِمِهِ، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَتَجَاوَزُ وَيَتَسَامَحُ، وَيُقَابِلُ اَلْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ اَلْعَفْوَ خَيْرٌ؛ فَوَائِدُهُ عَظِيمَةٌ، وَنَتَائِجُهُ جَلِيلَةٌ.

بِالْعَفْوِ تُنَالُ اَلْعِزَّةُ وَالشَّرَفُ:

فَلَا تَظُنَّ أَخِي اَلْكَرِيمَ؛ أَنَّ اَلْعَفْوَ يَنِمُّ عَنْ ضَعْفٍ وَعَجْزٍ وَهَوَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عِزَّةٌ وَانْتِصَارٌ عَلَى اَلنَّفْسِ وَوَسَاوِسِ اَلشَّيْطَانِ.

فَقَدْ أَخْرَجَ اَلْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ جَالِسٌ، فَجَعَلَ اَلنَّبِيُّ ﷺ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ اَلنَّبِيُّ ﷺ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ؛ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ اَلشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ اَلشَّيْطَانِ». ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ؛ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلِمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعَزَّ اَللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلَّا زَادَهُ اَللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلَّا زَادَهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ﷺ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اَللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اَللَّهُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قِيلَ لِأَبِي اَلدَّرْدَاءِ: مَنْ أَعَزُّ اَلنَّاسِ؟ فَقَالَ: (اَلَّذِينَ يَعْفُونَ إِذَا قَدَرُوا؛ فَاعْفُوا يَعِزَّكُمُ اَللَّهُ تَعَالَى).

حَسَنُ الْعَاقِبَةِ:

فَالْعَفْوُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَالصَّفْحُ أَكْرَمُ فِي الْعُقْبَى، وَالتَّجَاوُزُ أَحْسَنُ فِي الذِّكْرَى.

﴿ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشُّورَى: ٣٦-٣٧].

فَاحْرِصُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَلَى الْعَفْوِ عَمَّنْ أَذْنَبَ، وَالصَّفْحِ عَمَّنْ أَسَاءَ، فَإِنَّ لَذَّةَ الْعَفْوِ أَطْيَبُ مِنْ لَذَّةِ التَّشَفِّي؛ لِأَنَّ لَذَّةَ الْعَفْوِ يَلْحَقُهَا السُّرُورُ وَحَمْدُ الْعَاقِبَةِ، وَلَذَّةَ التَّشَفِّي يَلْحَقُهَا النَّدَمُ وَذَمُّ الْعَاقِبَةِ.

عِبَادَ اللَّهِ؛ مَنْ مِنَّا لَا يُرِيدُ أَنْ تُغْفَرَ ذُنُوبُهُ؟ وَمَنْ مِنَّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَكْثُرَ أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ؟ وَمَنْ مِنَّا لَا يُرِيدُ أَنْ يَكْثُرَ أَصْدِقَاؤُهُ وَيَقِلَّ أَعْدَاؤُهُ؟ السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ هُوَ الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ وَالتَّجَاوُزُ؛ بِهِ تُغْفَرُ الذُّنُوبُ، وَبِهِ يَعْظُمُ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ، وَبِهِ تَنْقَلِبُ الْعَدَاوَةُ إِلَى صَدَاقَةٍ، وَالْخُصُومَةُ إِلَى مَوَدَّةٍ وَأُخُوَّةٍ.

بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ تَنْقَلِبُ الْعَدَاوَةُ إِلَى صَدَاقَةٍ:

إِخْوَتِي الْكِرَامَ؛ إِنَّ مُجْتَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَقُومَ فِيهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ أَفْرَادِهِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ وَالِانْتِصَارِ لِلذَّاتِ، وَالِانْتِصَافِ لَهَا فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ تَقُومَ فِيهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالتَّغَاضِي وَالصَّفْحِ وَالصَّبْرِ، وَهَذَا مَا دَعَتْ إِلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ، وَحَثَّ عَلَيْهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ:

﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٤-٣٥].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٤] أَيْ: إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ قَادَتْهُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَالْحَنُوِّ عَلَيْكَ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ لَكَ، حَمِيمٌ أَيْ: قَرِيبٌ إِلَيْكَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ.

فَشَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَبَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَبَيْنَ الْعَفْوِ وَالِانْتِقَامِ؛ فَإِنَّ السَّيِّئَةَ إِذَا قُوبِلَتْ دَائِمًا بِالسَّيِّئَةِ أَوْغَرَتِ الصُّدُورَ، وَأَوْرَثَتِ الْأَحْقَادَ، وَأَنْبَتَتِ الضَّغَائِنَ. أَمَّا إِذَا قُوبِلَتِ السَّيِّئَةُ بِالْحَسَنَةِ أَطْفَأَتْ أُوَارَ الْغَضَبِ، وَهَدَّأَتْ مِنْ فَوْرَةِ النَّفْسِ، وَغَسَلَتْ أَدْرَانَ الضَّغِينَةِ، فَإِذَا الْمُتَعَادِيَانِ يُصْبِحَانِ صَدِيقَيْنِ حَمِيمَيْنِ مُتَنَاصِرَيْنِ مُتَآزِرَيْنِ، بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، وَبَسْمَةٍ حَانِيَةٍ، وَبِالتَّجَاوُزِ عَنْ كُلِّ مَا سَلَفَ وَكَانَ.

إِنَّهَا لَخَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ، وَإِنَّهُ لَفَوْزٌ عَظِيمٌ لِمَنْ دَفَعَ السَّيِّئَةَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٥] بِكَظْمِ الْغَيْظِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى، صَبَرُوا عَلَى الْإِسَاءَةِ فَعَفَوْا وَتَجَاوَزُوا ابْتِغَاءَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٥] أَيْ: لَا يُوَفَّقُ لِهَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ وَهَذِهِ الْخَصْلَةِ الشَّرِيفَةِ إِلَّا ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: الْحَظُّ الْعَظِيمُ الْجَنَّةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا عَظُمَ حَظٌّ قَطُّ دُونَ الْجَنَّةِ.

فَبِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ تَنْقَلِبُ الْعَدَاوَةُ إِلَى صَدَاقَةٍ، وَيَتَحَوَّلُ أَلَدُّ الْأَعْدَاءِ إِلَى وَلِيٍّ حَمِيمٍ، وَإِلَى صَدِيقٍ مُحِبٍّ؛ وَهَلْ تَعْلَمُونَ سَبَبَ إِسْلَامِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ سَيِّدِ بَنِي حَنِيفَةَ؟ أَسْلَمَ لَمَّا أَحْسَنَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَفَا عَنْهُ، بَعْدَ مَا وَقَعَ فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ مَا بَيْنَ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ.

فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ. فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ. فَقَالَ: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ».

فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ.

فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا وَاللهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَلَمَّا سَبَّ رَجُلٌ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، مَا رَدَّ عَلَيْهِ وَلَا أَجَابَهُ، بَلْ قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِمَوْلَاهُ عِكْرِمَةَ: يَا عِكْرِمَةُ، هَلْ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ فَنَقْضِيَهَا؟ فَنَكَّسَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ وَاسْتَحْيَا.

وَمَرَّ يَهُودِيٌّ مَعَهُ كَلْبٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللهُ، فَجَعَلَ يَسْتَهْزِئُ بِهِ وَيَسْخَرُ مِنْهُ، قَائِلًا: أَلِحْيَتُكَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَطْهَرُ مِنْ ذَنَبِ هَذَا الْكَلْبِ، أَمْ ذَنَبُ الْكَلْبِ أَطْهَرُ مِنْ لِحْيَتِكَ؟

فَمَاذَا كَانَ رَدُّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللهُ؟ هَلْ خَاصَمَهُ؟ هَلْ سَبَّهُ؟ هَلْ رَدَّ عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ؟ مَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ قَالَ ـ بِهُدُوءِ الْمُؤْمِنِ الْوَاثِقِ بِمَوْعُودِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ـ: «إِنْ كَانَتْ فِي الْجَنَّةِ فَهِيَ أَطْهَرُ مِنْ ذَنَبِ كَلْبِكَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي النَّارِ لَذَنَبُ كَلْبِكَ أَطْهَرُ مِنْهَا».

فَمَا مَلَكَ هَذَا الْيَهُودِيُّ إِلَّا أَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَاللهِ مَا هَذِهِ إِلَّا أَخْلَاقُ الْأَنْبِيَاءِ.

بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ تُغْفَرُ الذُّنُوبُ:

وَمَا أَحْوَجَ الْعَبْدَ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنَ اللَّهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ؛ يَقُولُ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ:
﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التَّغَابُنِ: 14].

وَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النُّورِ: 22].

كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَائِضِينَ فِي حَادِثِ الْإِفْكِ «مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ»، كَانَ فَقِيرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ؛ وَقَالَ: “وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ”، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، يَنْهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا عَنْ هَذَا الْحَلِفِ الْمُتَضَمِّنِ لِقَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُ، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَيَعِدُهُ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ إِنْ غَفَرَ لَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النُّورِ: 22].

أَيْ أَنَّكُمْ إِذَا عَامَلْتُمْ عَبِيدَهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، عَامَلَكُمْ بِذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ: “بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي”، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ.

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«مَا مِنْ رَجُلٍ يُجْرَحُ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَيَتَصَدَّقُ بِهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ».
أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فَجَعَلَ يَشْكُو إِلَيْهِ رَجُلًا ظَلَمَهُ، وَيَقَعُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
«إِنَّكَ أَنْ تَلْقَى اللَّهَ وَمَظْلِمَتُكَ كَمَا هِيَ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَلْقَاهُ وَقَدِ اقْتَصَصْتَهَا».

بِالْعَفْوِ يُنَالُ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ:

يَقُولُ سُبْحَانَهُ:
﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشُّورَى: 40].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ تَرَكَ الْقِصَاصَ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظَّالِمِ بِالْعَفْوِ ﴿ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ أَيْ إِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَكَانَ الْعَفْوُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

وَقَالَ السَّعْدِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ:
(ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرَاتِبَ الْعُقُوبَاتِ، وَأَنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: عَدْلٌ وَفَضْلٌ وَظُلْمٌ.

فَمَرْتَبَةُ الْعَدْلِ: جَزَاءُ السَّيِّئَةِ بِسَيِّئَةٍ مِثْلِهَا، لَا زِيَادَةَ وَلَا نَقْصَ، فَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَكُلُّ جَارِحَةٍ بِالْجَارِحَةِ الْمُمَاثِلَةِ لَهَا، وَالْمَالُ يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ.

وَمَرْتَبَةُ الْفَضْلِ: الْعَفْوُ وَالْإِصْلَاحُ عَنِ الْمُسِيءِ، وَلِهَذَا قَالَ:
﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشُّورَى: 40] يُجْزِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، وَثَوَابًا كَثِيرًا.

وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الظُّلْمِ: فَقَدْ ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ:
﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشُّورَى: 40] الَّذِينَ يَجْنُونَ عَلَى غَيْرِهِمِ ابْتِدَاءً، أَوْ يُقَابِلُونَ الْجَانِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ جِنَايَتِهِ، فَالزِّيَادَةُ ظُلْمٌ).

بِالْعَفْوِ عَمَّنْ أَسَاءَ يُنَالُ الْعَفْوُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:

فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَمَنْ عَفَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ صَفَحَ صَفَحَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ غَفَرَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ عَامَلَ الْعِبَادَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ، نَالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ عِبَادِهِ.

قَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِنْبَرِهِ يَقُولُ:
«ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

سَامِحْ صَدِيقَكَ إِنْ زَلَّتْ بِهِ قَدَمٌ
فَلَيْسَ يَسْلَمُ إِنْسَانٌ مِنَ الزَّلَلِ

فَتَعَافَوْا بَيْنَكُمْ عِبَادَ اللَّهِ، وَتَجَاوَزُوا عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ؛ اجْعَلُوا الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ شِعَارَكُمْ وَخُلُقًا لَكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَشَوَارِعِكُمْ وَنَوَادِيكُمْ وَأَسْوَاقِكُمْ، اخْرُجُوا مِنْ ضِيقِ الْمُنَاقَشَةِ إِلَى فُسْحَةِ الْمُسَامَحَةِ، وَمِنْ مَشَقَّةِ الْمُعَاسَرَةِ إِلَى سُهُولَةِ الْمُعَاشَرَةِ، وَاطْوُوا بِسَاطَ التَّقَاطُعِ وَالْوَحْشَةِ، وَصِلُوا حَبْلَ الْأُخُوَّةِ، وَرُومُوا أَسْبَابَ الْمَوَدَّةِ، وَاقْبَلُوا الْمَعْذِرَةَ؛ فَإِنَّ قَبُولَ الْمَعْذِرَةِ مِنْ مَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَإِذَا قَدَرْتُمْ عَلَى الْمُسِيءِ فَاجْعَلُوا الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْرًا لِلَّهِ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ

وَأَقُمْ الصَّلَاةُ