قِيمَةُ الْآثَارِ بَيْنَ الذِّكْرَى وَالِاعْتِبَارِ وَمَوْقِفُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْآثَارِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ

بقلم فضيلة الشيخ : أَحْمَدَ إِسْمَاعِيلَ الْفَشَنِيِّ
من علماء الأزهر الشريف

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، أَفْصَحِ الْخَلْقِ لِسَانًا، وَأَعْمَقِهِمْ فَهْمًا، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَيٌّهَا الْسَادَةٌ الْكِرَام : إِنَّ الْآثَارَ الَّتِي خَلَّفَتْهَا الْأُمَمُ الْغَابِرَةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ أَحْجَارٍ صَمَّاءَ أَوْ نُقُوشٍ بَاهِتَةٍ، بَلْ هِيَ سِجِلُّ التَّارِيخِ الْحَيُّ، وَدِيوَانُ الْحَضَارَاتِ الَّذِي يُطْلِعُ الْأَجْيَالَ اللَّاحِقَةَ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ سَبَقُوهُمْ؛ عَلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنْ عُلُومٍ وَفُنُونٍ، وَعَلَى مَا عَاشُوهُ مِنْ رَخَاءٍ أَوْ شِدَّةٍ، وَعَلَى مَا اعْتَنَقُوهُ مِنْ أَفْكَارٍ وَمُعْتَقَدَاتٍ.

هِيَ “ذَاكِرَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ” الَّتِي تَحْفَظُ لَهَا مَسِيرَتَهَا. وَالْحِفَاظُ عَلَيْهَا لَيْسَ تَرَفًا، بَلْ هُوَ ضَرُورَةٌ لِفَهْمِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ. فَمِنْ خِلَالِ هَذِهِ الشَّوَاهِدِ، نَقْرَأُ صُعُودَ الْأُمَمِ وَسُقُوطَهَا، وَنَسْتَلْهِمُ الدُّرُوسَ وَالْعِبَرَ لِبِنَاءِ مُسْتَقْبَلِنَا. لِذَا، كَانَ الْوَعْيُ بِقِيمَتِهَا وَالْحِرْصُ عَلَى صِيَانَتِهَا مَطْلَبًا حَضَارِيًّا وَإِنْسَانِيًّا رَفِيعًا، وَهُوَ مَا أَدْرَكَتْهُ شَرِيعَتُنَا الْغَرَّاءُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

أَيٌّهَا الْسَادَةٌ الْكِرَام : وَبَعْدَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، فَأَقُولُ:

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ دِينُ الْفَهْمِ وَالْوَعْيِ وَالِاعْتِبَارِ. لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِصْرَ عَلَى يَدِ سَيِّدِنَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَمَعَهُ ثُلَّةٌ مِنْ خِيرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، دَخَلُوا أَرْضًا عَامِرَةً بِالْعَجَائِبِ، وَشَاهَدُوا بِأَعْيُنِهِمْ آثَارَ أُمَمٍ سَابِقَةٍ، تَرَكَتْ وَرَاءَهَا صُرُوحًا وَأَهْرَامًا وَمَعَابِدَ تَشْهَدُ عَلَى قُوَّةٍ وَبَأْسٍ، كَمَا تَشْهَدُ عَلَى مَصِيرِ الْغَابِرِينَ.

وَكَانَ السُّؤَالُ الَّذِي يَطْرَحُ نَفْسَهُ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ: كَيْفَ تَعَامَلَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، مَعَ هَذِهِ الْآثَارِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ الْبَاقِيَةِ؟

شَهَادَةُ التَّارِيخِ وَ “إِجْمَاعُ السُّكُوتِ” عِنْدَ السُّيُوطِيِّ

يُقَدِّمُ لَنَا الْإِمَامُ جَلَالُ الْدِيِن السُّيُوطِيُّ (رَحِمَهُ اللهُ) فِي كِتَابِهِ الْقَيِّمِ “حُسْنُ الْمُحَاضَرَةِ فِي تَارِيخِ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ”، وَصْفًا دَقِيقًا لِمِصْرَ وَعَجَائِبِهَا وَآثَارِهَا كَالْأَهْرَامَاتِ وَأَبِي الْهَوْلِ وَالْمَعَابِدِ.

وَالْمُلَاحَظَةُ الْجَدِيرَةُ بِالتَّأَمُّلِ أَنَّ الْإِمَامَ السُّيُوطِيَّ، وَهُوَ يَسْتَعْرِضُ تَارِيخَ مِصْرَ مُنْذُ الْقِدَمِ وَحَتَّى عَصْرِهِ، وَيَذْكُرُ فَتْحَهَا وَدُخُولَ الصَّحَابَةِ إِلَيْهَا، لَمْ يُشِرْ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ إِلَى أَنَّ وَاحِدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ قَدْ أَمَرَ بِهَدْمِ هَذِهِ الْآثَارِ أَوِ التَّعَرُّضِ لَهَا بِسُوءٍ.

أَيٌّهَا الْسَادَةٌ الْكِرَام : إِنَّ سُكُوتَ كُتُبِ التَّارِيخِ الْمُعْتَمَدَةِ -كَكِتَابِ السُّيُوطِيِّ- عَنْ ذِكْرِ أَيِّ حَادِثَةِ هَدْمٍ، هُوَ فِي ذَاتِهِ أَقْوَى دَلِيلٍ. فَلَوْ حَدَثَ أَمْرٌ بِهَذَا الْجَلَلِ، كَهَدْمِ الْأَهْرَامَاتِ أَوْ تِمْثَالِ أَبِي الْهَوْلِ، لَتَنَاقَلَتْهُ كُتُبُ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ بِالتَّفْصِيلِ، وَلَأَصْبَحَ حَدَثًا مَشْهُورًا.

بَلْ عَلَى الْعَكْسِ، بَنَى سَيِّدُنَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مَدِينَةَ الْفُسْطَاطِ، وَبَنَى مَسْجِدَهُ الْعَتِيقَ، عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ، وَتَعَايَشَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهَا قُرُونًا طَوِيلَةً. هَذَا التَّعَايُشُ وَعَدَمُ التَّعَرُّضِ يُمَثِّلُ “إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا” أَوْ “إِجْمَاعًا عَمَلِيًّا” مِنْ جِيلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمِصْرَ، عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآثَارِ يَخْتَلِفُ عَنْ حُكْمِ الْأَصْنَامِ.

وَلَمْ يَقْتَصِرِ الْأَمْرُ عَلَى الْإِمَامِ السُّيُوطِيِّ، بَلْ إِنَّ كِبَارَ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْجُغْرَافِيِّينَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ فَعَلُوا الشَّيْءَ ذَاتَهُ:

 * الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمَقْرِيزِيُّ (رَحِمَهُ اللهُ): فِي مَوْسُوعَتِهِ الْعُظْمَى “الْمَوَاعِظُ وَالِاعْتِبَارُ بِذِكْرِ الْخِطَطِ وَالْآثَارِ” (الْمَعْرُوفَةِ بِـ “خِطَطِ الْمَقْرِيزِيِّ”)، يُفْرِدُ الْمَقْرِيزِيُّ فُصُولًا كَامِلَةً لِوَصْفِ عَجَائِبِ مِصْرَ، وَعَلَى رَأْسِهَا الْأَهْرَامَاتُ وَأَبُو الْهَوْلِ وَالْبَرَابِي (الْمَعَابِدُ الْقَدِيمَةُ). وَيَنْقُلُ لَنَا بِدِقَّةٍ مَا قِيلَ عَنْهَا وَكَيْفَ بُنِيَتْ، وَيَصِفُ عَظَمَتَهَا الْهَنْدَسِيَّةَ. كَانَ تَعَامُلُهُ مَعَهَا تَعَامُلَ الْمُؤَرِّخِ الْوَاصِفِ وَالْمُعْتَبِرِ، لَا تَعَامُلَ النَّاقِدِ الدِّينِيِّ الدَّاعِي لِلْإِزَالَةِ. وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى مَدَى قُرُونِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ جُزْءًا مِنْ مَعَالِمِ الْأَرْضِ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الدَّرْسُ.

 * مُوَفَّقُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ (رَحِمَهُ اللهُ): هَذَا الطَّبِيبُ وَالرَّحَّالَةُ الْبَغْدَادِيُّ، الَّذِي زَارَ مِصْرَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ الْهِجْرِيِّ، تَرَكَ لَنَا كِتَابًا نَفِيسًا هُوَ “الْإِفَادَةُ وَالِاعْتِبَارُ فِي الْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْحَوَادِثِ الْمُعَايَنَةِ بِأَرْضِ مِصْرَ”. وَفِيهِ يَصِفُ الْبَغْدَادِيُّ مَا شَاهَدَهُ بِعَيْنِهِ مِنْ عَظَمَةِ الْآثَارِ فِي “مَنْفَ” وَغَيْرِهَا، وَيُعَبِّرُ عَنِ انْدِهَاشِهِ الْبَالِغِ مِنْ دِقَّةِ الْهَنْدَسَةِ وَبَرَاعَةِ الصَّنْعَةِ، وَيَتَحَسَّرُ عَلَى زَوَالِ أَهْلِهَا. كَانَ مَنْهَجُهُ مَنْهَجَ الْعَالِمِ الْمُدَقِّقِ وَالْمُؤْمِنِ الْمُعْتَبِرِ بِزَوَالِ الدُّوَلِ.

أَيٌّهَا الْسَادَةٌ الْكِرَام : فِقْهُ التَّفْرِيقِ: بَيْنَ “الصَّنَمِ” وَ “الْأَثَرِ”

لَقَدْ كَانَ لَدَى الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ فَهْمٌ عَمِيقٌ وَوَعْيٌ دَقِيقٌ، مَكَّنَهُمْ مِنَ التَّفْرِيقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:

 * الصَّنَمُ (الْوَثَنُ الْمَعْبُودُ): وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ لِلْعِبَادَةِ مِنْ دُونِ اللهِ. وَهَذَا هُوَ مَا أَمَرَ الْإِسْلَامُ بِإِزَالَتِهِ وَتَطْهِيرِ الْأَرْضِ مِنْهُ، كَمَا فَعَلَ سَيْدُنَا النَّبِيُّ ﷺ بِأَصْنَامِ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهَا تُمَثِّلُ شِرْكًا مُبَاشِرًا وَعِبَادَةً ظَاهِرَةً.

 * التِّمْثَالُ (الْأَثَرُ التَّارِيخِيُّ): وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنْ حَضَارَاتٍ سَابِقَةٍ، انْقَطَعَتْ عِبَادَتُهُ، وَلَمْ يَعُدْ يُمَثِّلُ أَيَّ فِتْنَةٍ عَقَدِيَّةٍ لِلنَّاسِ، وَتَحَوَّلَ إِلَى مُجَرَّدِ شَاهِدٍ عَلَى التَّارِيخِ وَعِبْرَةٍ لِلنَّاظِرِينَ.

أَدْرَكَ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ أَنَّ الْآثَارَ الْفِرْعَوْنِيَّةَ تَنْدَرِجُ تَحْتَ النَّوْعِ الثَّانِي. فَهِيَ لَمْ تَكُنْ مَعْبُودَةً فِي زَمَنِهِمْ، لَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا بِمِصْرَ. لِذَا، لَمْ يَنْطَبِقْ عَلَيْهَا حُكْمُ “الصَّنَمِ” الْوَاجِبِ إِزَالَتُهُ.

أَيٌّهَا الْسَادَةٌ الْكِرَام : وَقَدْ أَكَّدَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَعْنَى حِينَ فَرَّقُوا بِدِقَّةٍ بَيْنَ التَّمَاثِيلِ الَّتِي تُصْنَعُ لِتُعْبَدَ، وَتِلْكَ الَّتِي تُصْنَعُ لِأَغْرَاضٍ أُخْرَى كَالزِّينَةِ أَوْ تَعْلِيمِ الْأَطْفَالِ (كَلُعَبِ الْبَنَاتِ الَّتِي أَقَرَّتْهَا السُّنَّةُ). فَالتَّحْرِيمُ الْقَاطِعُ مُرْتَبِطٌ بِعِلَّةِ “الْمُضَاهَاةِ لِخَلْقِ اللهِ” أَوْ “قَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالْعِبَادَةِ”. وَبِمُجَرَّدِ انْتِفَاءِ عِلَّةِ الْعِبَادَةِ عَنْ هَذِهِ الْآثَارِ الْقَدِيمَةِ، وَتَحَوُّلِهَا إِلَى مُجَرَّدِ أَحْجَارٍ تَحْكِي التَّارِيخَ، زَالَتْ عَنْهَا سِمَةُ “الْوَثَنِ” وَبَقِيَتْ لَهَا سِمَةُ “الْآيَةِ” وَ “الْعِبْرَةِ”.

الْآثَارُ: عِبْرَةٌ قُرْآنِيَّةٌ وَشَاهِدٌ تَارِيخِيٌّ

أَيٌّهَا الْسَادَةٌ الْكِرَام : إِنَّ مَوْقِفَ السَّلَفِ هَذَا لَمْ يَكُنِ اجْتِهَادًا مُخَالِفًا لِلنُّصُوصِ، بَلْ كَانَ تَطْبِيقًا لِرُوحِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. فَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ حَثَّنَا فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ عَلَى النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ فِي مَصَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ (الرُّوم: 42).

وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ (مُحَمَّد: 10).

فَكَيْفَ يَتِمُّ “النَّظَرُ” وَ “الِاعْتِبَارُ” إِذَا تَمَّ هَدْمُ الشَّوَاهِدِ وَطَمْسُ الْآثَارِ؟

لَقَدْ فَهِمَ الصَّحَابَةُ أَنَّ هَذِهِ الصُّرُوحَ الْعَظِيمَةَ -الَّتِي تَرَكَهَا فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْقُرْآنُ- هِيَ خَيْرُ شَاهِدٍ عَمَلِيٍّ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ (يُونُس: 92). فَهِيَ “آيَةٌ” لِمَنْ خَلْفَهُمْ، تُرِيهِمْ عَاقِبَةَ الْجَبَرُوتِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَتُذَكِّرُهُمْ بِقُدْرَةِ اللهِ الْبَالِغَةِ.

خُلَاصَةُ الْقَوْلِ سَادَتِي :

إِنَّ مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ السُّيُوطِيُّ وَالْمَقْرِيزِيُّ وَالْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُؤَرِّخِي الْإِسْلَامِ، يُثْبِتُ بِمَا لَا يَدَعُ مَجَالًا لِلشَّكِّ أَنَّ مَسْلَكَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ كَانَ هُوَ الْحِفَاظَ عَلَى هَذِهِ الْآثَارِ لِلْعِبْرَةِ وَالْعِظَةِ، وَلَيْسَ الْهَدْمَ وَالْإِزَالَةَ.

وَهَذَا الْفَهْمُ الْعَمِيقُ هُوَ الَّذِي تَوَارَثَتْهُ الْمُؤَسَّسَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْعَرِيقَةُ -وَعَلَى رَأْسِهَا الْأَزْهَرُ الشَّرِيفُ وَدَارُ الْإِفْتَاءِ الْمِصْرِيَّةُ- فِي فَتَاوَاهَا الرَّصِينَةِ الَّتِي تُحَرِّمُ التَّعَدِّيَ عَلَى الْآثَارِ وَتَعُدُّهَا إِرْثًا إِنْسَانِيًّا وَتَارِيخِيًّا يَجِبُ الْحِفَاظُ عَلَيْهِ.

خَاتِمَةٌ وَنَصِيحَةٌ: كَيْفَ نَتَعَامَلُ مَعَ الْآثَارِ؟

أَيٌّهَا الْسَادَةٌ الْكِرَام :  وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ النَّصِيحَةَ الْوَاجِبَةَ فِي التَّعَامُلِ مَعَ هَذَا الْإِرْثِ التَّارِيخِيِّ تَتَلَخَّصُ فِي الْآتِي:

 * التَّعَامُلُ بِمَنْظُورِ “الِاعْتِبَارِ “  فَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْمُتَعَلِّمِ مِنْ تَجَارِبِ السَّابِقِينَ، نَرَى فِيهَا قُوَّتَهُمْ وَعِلْمَهُمْ، وَنَرَى فِيهَا -فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ- مَصِيرَهُمْ وَزَوَالَهُمْ، فَيَتَعَاظَمُ فِي قُلُوبِنَا قُدْرَةُ اللهِ الْبَاقِي سُبْحَانَهُ.

 * الْحِفَاظُ عَلَيْهَا كَإِرْثٍ إِنْسَانِيٍّ: إِنَّهَا مِلْكٌ لِلتَّارِيخِ الْإِنْسَانِيِّ عَامَّةً، وَلِبِلَادِنَا خَاصَّةً. وَالْحِفَاظُ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ مَا يُشَوِّهُهَا أَوْ يُعَرِّضُهَا لِلتَّلَفِ هُوَ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ وَوَطَنِيٌّ وَحَضَارِيٌّ.

 * تَنْزِيهُهَا عَنِ الشَّوَائِبِ: يَجِبُ أَنْ يَبْقَى التَّعَامُلُ مَعَهَا فِي إِطَارِهَا التَّارِيخِيِّ وَالْعِلْمِيِّ، وَأَلَّا تُنْسَجَ حَوْلَهَا الْخُرَافَاتُ أَوِ الْمُمَارَسَاتُ الَّتِي تُخَالِفُ صَحِيحَ الْعَقِيدَةِ، كَالتَّبَرُّكِ بِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

إِنَّ فَهْمَ السَّلَفِ الصَّالِحِ كَانَ فَهْمًا رَاقِيًا وَوَاعِيًا، حَافَظَ عَلَى الْآثَارِ لِتَكُونَ شَاهِدًا، وَحَافَظَ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِغَيْرِ خَالِقِهَا.

وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَى وَأَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.