مدنٌ عربيةٌ خالدة: جذور التاريخ وملامح الهوية

بقلم : محمد نجيب نبهان  كاتب وناقد و باحث تاريخي 

منذ فجر الإنسانية، حينما كان الإنسان يبحث عن مأواه الأول، ومسرح وجوده الأول، ولدت المدن على ضفاف الأنهار، وفوق التلال، وبين ثنايا الجبال والصحارى، شاهدةً على أولى خطوات العقل، وأولى تجارب العمران. وكانت الأرض العربية – بما تمتلكه من تنوع جغرافي وثراء بيئي – رحم الحضارة وموئلها، فانبثقت منها أعرق المدن، وتجلّت فيها أولى تجليات الكيان الحضاري للإنسان. وبين هذه المدن تتربع حلب على عرش الأقدمية، إذ تمتد جذورها إلى نحو اثني عشر ألف ومئتي عام، تعود إلى الألف العاشر قبل الميلاد. ظهرت في النصوص الحثية والآشورية باسم “خلَب” أو “خلبو”، وكانت مركزًا تجاريًا لا غنى عنه على طريق القوافل، وقلعة شامخة تحدّت الغزاة. وقد استوطنها العرب العموريون منذ الألف الثالث قبل الميلاد، ثم تبعهم الآراميون العرب، لتصبح لاحقًا عاصمة الحمدانيين، وتزدهر فيها اللغة العربية، وتترسخ فيها الهوية العربية الإسلامية، حتى غدت حلب حاضرة عربية خالصة بكل ما تعنيه الكلمة من دلالة.

وفي فلسطين، حيث تسكن الروح بين الزيتون والأنين، تنهض أريحا كأقدم مدينة محصّنة عرفها الإنسان، منذ أكثر من عشرة آلاف عام. أظهرت حفريات العصر الحجري الحديث حضارة راسخة الجذور، تشهد على ذكاء الإنسان الأول وإرادته في مواجهة الطبيعة. أسُوَارها الشهيرة كانت شاهدة على صراع الأزمنة، وارتباطها بالممالك الكنعانية جعل منها أحد أعمدة التاريخ العربي البائد. فالكنعانيون، كما تؤكد اللغة والأسماء، هم عرب ساميون، تفرعت لهجتهم من الجذر العربي ذاته، ولغتهم تشهد بذلك، كما تشهد به أسماء مثل أريحا، وصيدا، وصور. وعلى الرغم من أزمنة الاحتلال، بقيت أريحا عربية، بهويتها، وناسها، وروحها.

وإذا ذكرنا الشام، فلابد أن نرفع الهامة عند دمشق، المدينة التي لا تشيخ، والعاصمة التي لم تنطفئ شعلتها منذ أكثر من تسعة آلاف عام. في النقوش المصرية سُميت “تيماشكو”، ومنها انطلقت فكرة الدولة المركزية الأولى في بلاد الشام. لكنها بلغت أوج مجدها مع الأمويين، حين أصبحت عاصمة الدنيا، ومركز إشعاع الحضارة الإسلامية. فيها انصهرت الثقافة العربية وتجلّى الفكر، وشكّلت لهجتها العربية صورة مميزة من صور اللسان العربي، حتى باتت مرجعًا في الأصالة والبلاغة. لقد كانت مأوى للغساسنة العرب قبل الإسلام، ومسرحًا للنهضة بعد الفتح.

أما الإسكندرية، فهي عروس البحر الأبيض المتوسط، وسيدة البحرين، التي أعاد الإسكندر الأكبر بناءها عام 331 ق.م فوق أطلال مدينة راكودة الفرعونية القديمة. فالفراعنة، رغم ما أثير حول أصولهم، هم أبناء الأرض العربية، من نسل العماليق العرب، ولذلك فالإسكندرية مدينة عربية الجذور. وقد بقيت، رغم تعاقب العصور، عربية بلسانها وسكانها وثقافتها، واستعصت على الذوبان في التيارات الأجنبية، حتى بعد أن جعل منها البطالمة والرومان مركزًا حضاريًا عالميًا.

ومن البحر إلى الجبال، تقف اللاذقية على ضفاف الذاكرة. ولدت من رحم “راميتا” الفينيقية، ثم أعاد السلوقيون تسميتها “لاذيقيا”. ومع أن التسميات تغيّرت، فإن جوهر المدينة بقي فينيقيًا – كنعانيًا – عربيًا، فلم يكن الفينيقيون سوى فروع من العرب الكنعانيين، الذين سكنوا الساحل وأبدعوا في الملاحة والتجارة. ومع الفتح الإسلامي، استعادت اللاذقية لسانها العربي، وازدادت حضورًا في الثقافة والأدب، فصارت مناراتها تضيء شاطئ العروبة.

وعلى ضفاف دجلة، تهمس سامراء بأسرار حضارة عمرها أكثر من خمسة آلاف عام. نشأت قبل السومريين، فوق أرض “حضارة سامراء” النهرية، واتخذت لاحقًا اسمها من عبارة “سرّ من رأى”، لتُختصر إلى “سامراء” على لسان العباسيين. وقد كانت عاصمة للدولة العباسية في أوج قوتها، وسكانها من العرب الأقحاح، من تميم وقيس وغيرهم، وما تزال حتى اليوم أرضًا عربية الهوى، والنبض، والهوية.

وفي الجنوب العربي، ترسو عدن، المدينة الساحلية التي لم تتوقف عن التنفس منذ أكثر من خمسة آلاف وخمسمائة عام. ظهرت في النقوش السبئية كميناء استراتيجي للعرب الجنوبيين، وربطت الهند بشرق أفريقيا، وارتبط اسمها بالممالك الحميرية والسبئية، وكلها من الجذور القحطانية العربية. وقد قاومت عدن الاحتلال البريطاني، وواجهت محاولات الطمس والتهميش، لكنها صمدت بوجه الريح، وبقيت منارة للعربية والمقاومة.

أما خراسان، ذلك الإقليم الذي يمتد في قلب آسيا، فقد كان عربيًا رغم المسافات. ظهرت حضارته قبل نحو أربعة آلاف وثمانمائة عام، لكن عروبتها الحقيقية بزغت في العصر الأموي والعباسي، حين صارت مركزًا للعلم والفكر الإسلامي. حكمها الطاهريون والسامانيون، وكان ديوانها يكتب بالعربية، وشعراؤها يتغنون بها، وسكانها يتحدثون لسانها. هي عربية بالثقافة والوجدان، وإن تنوعت فيها الأعراق.

وعلى الفرات، حيث السهل يلتقي بالرمال، تقف الرقة شامخة. كانت تعرف في العصر البيزنطي باسم “كالينيكو”، حتى أعاد العباسيون بناءها وجعلوها عاصمة في زمن هارون الرشيد. وقد سكنها العرب منذ ما قبل الإسلام، من التنوخيين والغساسنة، وازدادت عروبتها رسوخًا بعد الفتح. فلهجتها فصيحة، وشواهدها الأدبية والعلمية في العصر العباسي دليل على مكانتها المرموقة.

وأخيرًا صنعاء، جوهرة اليمن، ومهد الحكمة. يعود تاريخها إلى نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، حين كانت عاصمة للحميريين، وعُرفت باسم “أزال” في التوراة. هي قلب اليمن النابض، وموطن العرب القحطانيين، ومركز لنشر الإسلام جنوب الجزيرة. شعرها عربي، وفكرها عربي، وإنسانها عربي، وما زالت حتى اليوم معقلًا للهوية والانتماء.

هذه المدن العشر لم تكن يومًا طارئة على خارطة العروبة، بل هي أوتادها، وجذورها، ورمز خلودها. فالعروبة ليست شعارًا أو ادعاء، بل تاريخٌ منقوش على جدران المعابد، وفي تضاريس الجبال، وفي رائحة الأرض. قد تمرّ عليها أعاصير الاحتلال، وتتعاقب على ترابها حضارات، لكن الجذر العربي فيها لا يموت، بل يعود كل مرة أكثر رسوخًا.

ومن يشكك في عروبة هذه المدن إنما يتجاهل التاريخ، أو يتعمد تحريفه. فالعروبة ليست طارئة على هذه الأرض، بل هي أصلها، وماؤها، وترابها. وصدق من قال: العرب أصل البشر، وجذرهم، وما سواهم فروع تتفيأ تحت ظل هذا الجذر العظيم.

اترك تعليقاً