هل كتاب “الغنية لطالبي طريق الحق” لسيدي عبد القادر الجيلاني يخالف منهج أهل السنة؟
11 مايو، 2025
العقيدة والصفات

بقلم فضيلة الدكتور : إبراهيم المرشدي الأزهري
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف والمدرس بجامعة نور مبارك بكازاخستان
سيدي الحسيب الشريف ، العارف ، القدوة ، سلطان المشايخ، وسيد أهل الطريقة، سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه المتوفى 561هـ، إمام غني عن التعريف، مشهور بالحديث والفقه والزهد والصلاح، وكان إمامًا متبحرًا في عدة علوم، ومؤلفاته خير دليل على مكانته العلمية والدينية، وشهرته بلغت الآفاق، ومن طالع ترجمته عرف محلّه ومكانته.
ولقد توهم بعض الناس أنَّ سيدي عبد القادر الجيلاني يخالف السادة الأشاعرة والماتريدية في المعتقد، وأنه على مذهب الحشَوية وحاشاه.
والسبب في ذلك قوله في “الغنية”: “وهو- أي: الله تعالى- باين من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش، كما قال جل ثناؤه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]”. وكلامه في هذا مشهور ذائع.
ولي عليه عدة تعليقات في نقاط مهمة:
الأولى: إثباته أنه تعالى على عرشه، وأنه تعالى لا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، لا يخالف معتقد أهل السنة الأشاعرة في مذهب التفويض الذي يثبت استواء يليق بجلاله تعالى، وكذا أنه تعالى ليس في كل مكان، وردود السادة الأشاعرة والماتريدية على الجهمية في هذا واضح كالشمس.
الثانية: الإمام عبد القادر الجيلاني على مذهب أهل الحديث من المفوِّضة الذين يثبتون النصوص على مواردها دون تدخل فيها بشيء، ولذا ربما ينكر على الأشاعرة تأويلهم لبعض الصفات، وليس معنى إنكاره أنه يخالفهم من كل وجه، بل هو يقرر معنى التفويض للصفات على ما جاءت النصوص عليه، على قاعدة الأشاعرة والماتريدية في التفويض والتسليم، فلا هو يثبت الجسمية لله تعالى، ولا يثبت المكان لله، ولا يثبت الحد لله، وكل ذلك يخالف فيه منهج ابن تيمية وشيعته.
ولك أن تتأمل قوله: “ينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش”.
وإلى هنا عبارته ظاهرها الإشكال، فإنه يثبت استواء بالذات، ومعلوم أن الاستواء بالذات مرفوض عند السادة الأشاعرة والماتريدية، لأنها تؤكد على نفس المعنى الذي ذهب إليه المجسمة من أن الله تعالى جالس على العرش ومستقر عليه، فهل الشيخ عبد القادر يصرح بلازم كلامه على قاعدة ابن تيمية والوهابية، أم لازم مذهبه ليس بلازم؟
فإذ بالشيخ الجيلاني رضي الله عنه يدفع هذا الوهم فيقول بعدها مباشرة في عبارته الناصعة: “لا على معنى القعود والمماسة كما قالت المجسمة والكرامية، ولا على معنى العلو والرفعة كما قالت الأشعرية، ولا على معنى الاستيلاء والغلبة كما قالت المعتزلة، لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين من السلف الصالح من أصحاب الحديث، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق”.
فأنت ترى أنه يرفض القعود والمماسة التي يزعمها المجسمة من كون الله تعالى على العرش حقيقة وهو الذي يثبته ابن تيمية وشيعته، وينفي تأويل الأشاعرة بأنه العلو والرفعة لأنه يرفض التفسير بأي لفظ أصلًا وهذه قاعدة التفويض المطلق، وينفي تفسير الاستواء بالاستيلاء كما قالت المعتزلة وكذا من وافقهم من الأشاعرة لأنه لا يرى صحة الـتأويل بحال.
فبان لك من ذلك أن منهجه هو إثبات اللفظ على ما جاء، والتسليم به دون أي تفسير، وهو عين منهج التفويض عند السادة الأشاعرة والماتريدية، وذلك واضح في قوله: “نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: “كل ما وصف الله تعالى نفسه في كتابه، فتفسيره قراءته، لا تفسير له غيرها”، ولا نتكلف غير ذلك، فإنه غيب، لا مجال للعقل في إدراكه”.
فلاحظ: “فتفسيره قراءته لا تفسير له غيرها” وهو عين التفويض بخلاف من تأولها، أو حملها على الظاهر فكلاهما مرفوض عند الشيخ إذ الواجب عنده التسليم المطلق!!
الثالثة: ينفي الإمام الجيلاني عن الله تعالى إطلاق الجسم والجوهر والعَرَض والحد، ومعلوم إثبات ذلك عند ابن تيمية وشيعته، فيقولون جسم بمعنى الموجود، وأنه تعالى في مكان، وأنه محدود على العرش، وأنه يشار إليه بالإصبع، كما صرح ابن تيمية في كتبه بذلك، ولكن ينفي ذلك سيدي عبد القادر فيقول كما في الغنية (1/ 121): “ليس بجسم فيمس، ولا بجوهر فيحس، ولا عرض فيقضى”.
ثم يقول: “ولا يجوز عليه الحد ولا النهاية، ولا القبل ولا البعد، ولا تحت ولا قدام، ولا خلف ولا كيف، لأن جميع ذلك ما ورد به الشرع؛ إلا ما ذكرناه من أنه على العرش استوى، على ما ورد به القرآن والأخبار، بل هو عز وجل خالق لجميع الجهات، ولا يجوز عليه الكمية”. انتهى.
الرابعة: مع إثباته الاستواء كما مر لكنه ينفي عن الله تعالى إطلاق لفظ الأين أصلًا، فيقول في كتابه “فتوح الغيب”: “الحمد لله كيَّف الكيف وتنزه عن الكيفية، وأيَّن الأين وتعزز عن الأينيّة، وَوُجِدَ في كل شيء وتقدس عن الظرفيَّة، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العِندية، فهو أول كل شيء وليس له آخرية، وإن قلت أين؟ فقد طالبته بالأينية! وإن قلت كيف؟ فقد طالبته بالكيفية! وإن قلت متى فقد زاحمته بالوقتية!” وهو عين كلام أئمة السنة الأشاعرة والماتريدية.
الخامسة: مع كونه يرتضي منهج التفويض إلا أنه رضي الله عنه قد ثبت عنه التأويل في مواطن عدة منثورة في كتبه، منها تأويله للوجه كما جاء في كتابه “سر الأسرار” في قوله عن الوجه: “يحتمل أن يؤول بالرضا أي: إلى ما يوجّه إليه من الأعمال الصالحة لوجهه ورضائه فيبقى المرضي مع الراضي”.
وقال عن حديث: “رأيت ربي في صورة”: “فالحق منزَّهٌ عن الصورة والمادة وخواص الأجسام، فالصورة مرآة المرئي غير المرأة والرائي، فافهم فإنه لب السر”.
وتأول اليد فقال: “لأن الله تعالى خلقه- أي: الإنسان- بيديه أي: بصفات القهر واللطف”. ولم يقل: بيدين حقيقيتين!!
وهذا يكفي في فهم كلام سيدي عبد القادر في جميعه لا باقتطاع عبارات حسب الهوى، من بعض كتبه، وأؤكد أن عدم تأمل مجموع ما كتبه الإمام يُظهر صورة مشوهة خلاف الصورة الحقيقية المرادة.
فعبارات الشيخ ربما تكون موهمة لكنه ينفي في نصوص واضحة ما توهمه المجسمة في حكاية كلامه، وقد نفى الأين والحد والجسم والجوهر وغير ذلك مما يدلل على حسن اعتقاده رحمه الله تعالى.
وقد قال الحافظ الذهبي في تاريخه (12/ 352): “وقال شيخنا أبو الحسين اليونيني سمعت الشيخ عز الدين ابن عبد السلام يقول: “ما نُقِلَتْ إلينا كرامات أحد بالتواتر إلَّا الشيخ عبد القادر؛ فقيل له: هذا مع اعتقاده! فكيف هذا؟! قال: لازم المذهب ليس بمذهب.اهـ فهو يشير أنه لا يلزم من ظاهر كلامه معنى التجسيم ولا معنى اعتقاده ذلك رضي الله عنه إذ نصوصه الأخرى تنفي عنه اعتقاد الجسمية.
وختامًا: لن أذكر لك ما ثبت في كتبه من ثنائه على السادة الصوفية، ولا أوراده التي نص عليها، ولا التوسل، ولا التبرك، ولا كلامه عن الأبدال ولا الأقطاب، ولا عن الكشف والمشاهدات، ويكفي فقط أن يقرأ الوهابية المعاصرة قوله في “آداب السلوك”: “فالسلامة مع الكتاب والسنة، والهلاك مع غيرهما، وبهما يترقى العبد إلى حالة الولاية والبدلية والغوثية”
فلو فهموا تلك العبارة لعلموا من هو سيدي عبد القادر الجيلاني الذي يتمسحون فيه عقيدة وسلوكًا، والذي أجزم به أنهم لا يعرفونه لا من قريب ولا من بعيد، والله يهدينا ويهديهم إلى الصراط المستقيم والحمد لله رب العالمين.