بقلم فضيلة الشيخ : أحمد عزت
الباحث فى الشريعة الاسلامية
٤- في عهد الدولة الأموية وبناء الحجاج بن يوسف الثقفي للكعبة
وفي عهد عبد الملك بن مروان عهد إلى الحجاج بن يوسف الثقفي بالسير إلى مكة للقضاء على ابن الزبير فزحف (أي الحجاج) إلى مكة في موسم الحج ونصب المـجانيق، فتحصن ابن الزبير في المسجد وأخذت أحجار المنجنيق تتساقط على المسجد، وبسبب هذا القصف احترقت الكعبة، فاضطر ابن الزبير إلى الخروج للقتال مع جماعة من أتباعه حتى قتل جميع أتباعه وانتهى الأمر بقتل ابن الزبير، وبعد أن سيطر الحجاج على مكة كتب إلى الخليفة عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير قد زاد في البيت ما ليس فيه وقد أحدث فيه بابًا آخر، فقد رفع بِناء الكعبة على أساس الملائكة الذي نظره العدول من أهل مكة وشهدوا عليه،
فكتب إليه عبد الملك: «إنَّا لسنا من تلطيخ ابن الزُبير في شيء، أما ما زاد في طولِه فأقِرّْه، وأما ما زاد فيه من الحِجر فرُدهُ إلى بنائه، وسد بابها الغربي واهدم ما زاد فيها من الحجر»، فهدم الحجاج منها ستة أذرع وبناها على أساس قريش وسد الباب الغربي وسد ما تحت عتبة الباب الشرقي لارتفاع أربعة أذرع ووضع مصراعين يغلقان الباب، وأصبحت الكعبة كما كانت في وقت الرسول عليهِ أفضل الصلاة والسلام، وما زالت كذلك إلى وقتنا هذا.
وفي عهد الوليد بن عبد الملك كانت عمارة التوسعة الرابعة للمسجد وذلك في سنة ٩١هـ، وذلك بعد سيل جارف أصابها، وقد زاد من مساحة المسجد، وأجمع الكثير من المؤرخين على أن الوليد بن عبد الملك كان أول من استعمل الأعمدة التي جلبت من مصر والشام في بناء المسجد الحرام، وكان عمل الوليد عملاً محكمًا بأساطين الرخام، وقد سقفه بالساج، وجعل على رؤوس الأساطين الذهب وأزّر المسجد من داخله بالرخام، وجعل على وجــــوه الطيقـــان الفُسَيْفساء، وشيد الشرفات ليستظل بها المصلون من حرارة الشمس، وقدرت زيادته بـ (٢٨٠٥) أمتار.
– عصر الدولة العباسية لم يعمر أحد المسجد الحرام منذ توسعة الوليد من بقية خلفاء بني أمية أو بداية الخلافة العباسية، حتى جاء عهد الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور الذي زاد في توسعة المسجد الحرام سنة ١٣٧هـ، فأضاف إلى مساحته من الشمال والغرب، وكانت زيادته ضعف الزيادة السابقة (أي توسعة الوليد بن عبد الملك). وقد أمر أبو جعفر المنصور بتشييد منارة بالركن الشمالي والغربي، كما أمر بتبليط حجر إسماعيل بالرخام وأمر بتغطية فوهة بئر زمزم بشباك لمنع السقوط بالبئر.
وعندما حج الخليفة العباسي الثالث محمد المهدي حجته الأولى سنة ١٦٠هـ، أمر بزيادة مساحة المسجد الحرام إلى ضعف مساحته التي كان عليها، وكانت التوسعة من الجانبين الشمالي والشرقي، ولكن بهذه الزيادة لم تبق الكعبة في الوسط، وحينما لاحظ محمد المهدي ذلك أثناء حجته الثانية سنة ١٦٤هـ أصدر أمره بتوسعة الجانب الجنوبي، وصعد محمد المهدي على جبل أبي قبيس ليتأكد من أن الكعبة في وسط الفناء، ولما كان وجود مجرى السيل في هذه الجهة عائقًا فنيًا في سبيل التوسعة من الناحية الجنوبية، أمر محمد المهدي بتحويل مجرى السيل، وإكمال مشروع التوسعة من الجنوب، إلا أنه لم يعش ليرى إتمام عمله، فأكمله ابنه موسى الهادي في عام ١٦٧هـ، وبهذه الزيادة تضاعفت مساحة المسجد الحرام تقريبًا.
وبقي المسجد على حاله ولم تذكر كتب التاريخ أي توسعة منذ عهد موسى الهادي إلى سنة ٢٨١هـ أي في عهد المعتضد، حيث شهد المسجد الحرام بعض الترميمات والتوسعة، وأمر المعتضد بهدم دار الندوة وجعلت رواقًا من أروقة المسجد، وأدخل فيها من أبواب المسجد ستة أبواب كبيرة، وأقيمت فيه الأعمدة، وسقف بخشب الساج، كما عمل لها اثني عشر بابًا من الداخل، وثلاثة أبواب من الخارج، وتمت الزيادة في ثلاث سنوات.
وفي سنة ٣٠٦هـ، أضاف المقتدر بالله مساحة دارين للسيدة زبيدة إلى مساحة المسجد، وجعل لها باباً كبيراً وهو المعروف باسم باب إبراهيم، وكانت هذه آخر زيادة في مساحة المسجد الحرام، ولم يشهد المسجد الحرام توسعة طيلة حكم الفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، وإنما اقتصر العمل في المسجد خلال هذه الحقبة على الترميم والإصلاح.
عصر سلطنة المماليك وفي العصر المملوكي لم يشهد المسجد الحرام أي زيادة أو توسعة خلال هذا العصر، ولكنهم اهتموا بعمارته، حيث في سنة ٧٢٧هـ- ١٤٢٣م جهز السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون المال والصنع والآلات لإصلاح سقوف المسجد الحرام التي تشعثت، كما تم ترميم عدة جدر هدت.
وفي سنة ١٣٦٩م، أمر السلطان الأشرف شعبان بعمارة مئذنة باب الحزورة التي كان بناها الخليفة العباسي محمد المهدي، والتي كانت قد سقطت بسبب أمطار غزيرة، وكان الانتهاء من عمارتها في سنة ٧٧٢هـ – ١٣٧٠م، وتم تسجيل ذلك في نقش إنشائي على أسطوانة من أساطين
٥- الحرم باتجاه باب العمرة. كما تم في عهد السلطان فرج بن برقوق تعمير المسجد الحرام عدة مرات حيث توجد ثلاثة نقوش مؤرخة في سنة ٨٠٤هـ – ١٤٠٢م تثبت ذلك. وتعتبر أعمال فرج بن برقوق من أهم العمارات في هذا العصر وذلك ابتدأ من عام ٨٠٢هـ المعروف بعام الحريق، وذلك بعدما اجتاحت النيران من نفس السنة رباط رامشت الملاصق لـباب الحزورة بالجانب الغربي من المسجد، وانتقلت النيران لسقف المسجد، وعمت الجانب الغربي وأجزاء من الرواقين المقدمين من الجانب الشمالي، وكان هذا تخريب لحوالي ثلث المسجد ودمر ١٣٠ عمود، فقام السلطان فرج بن برقوق بإصلاح ما أفسدته النيران وترميم المسجد الحرام.
وفي عهد السلطان الأشرف برسباي وتحديدًا في سنة ٨٢٥هـ – ١٤٢١م تم تعمير باب الجنائز وجعل له عقدان، كما تم تعمير أماكن أخرى، حيث تم نصب أخشاب جوانب المسجد الحرام، وقد أرخ لهذه العمارة بنقش إنشائي وضع بين عقدتي نافذتي باب النبي. وفي عهد السلطان الظاهر جقمق تم اصلاح ما خرب من مئذنة باب علي، كما تم تبييض مئذنة باب العمرة ومئذنة باب السلام، بالإضافة إلى إصلاح سقف المسجد الحرام وتمت هذه الأعمال على يد الأمير سودون المحمدي.
وفي ١٦ من شهر شوال سنة ٨٤٦هـ- ١٤٤٢م شرع الأمير تنم بأمر من السلطان جقمق في هدم سقف الرواق الغربي من المسجد الحرام، وسقف بعضه استكمالًا لعمارة سودون المحمدي،
وفي ١٥ ربيع الأول سنة ٨٤٨هـ- ١٤٤٤م، عمر الأمير تنم أيضًا عدة مواضع من المسجد الحرام، حيث أكمل سقف المسجد الحرام من ناحية الصفا في نفس السنة وذلك في شهر جمادى الأولى، كما أكمل سقف الرواق الغربي من المسجد الحرام. وفي سنة ٨٤٩هـ – ١٤٤٥م بني الجانب الشمالي والنصف الذي يليه من الجانب الغربي من المشعر الحرام وتم تبييضها أيضًا، حيث أن هذه النواحي خربت من السنة السابقة (أي سنة 1444م)، وقد تمت العمارة على يد الأمير كزرل المعلم وهو أمير الأجناد بمكة المكرمة.
أما في سنة ٨٥٢هـ – ١٤٤٨م فقد عمر ناظر الحرم بيرم خجا قطعة من جدار الحرام في الجانب الشرقي منه، والذي يقع فيه باب رباط السدرة، كما جدد سبعة عقود في الرواق القبلي من الجانب الشمالي، إذ يوجد نقش مؤرخ في شهر رجب من سنة 852هـ-1448م يؤخ لهذه العمارة محفوظ في معرض عمارة الحرمين الشريفين بمكة المكرمة.
وفي عهد الأشرف قايتباي عمر المسجد الحرام عدة مرات، أولها في سنة ٨٧٣هـ – ١٤٦٨م حيث ابتدأ الأمير شاهين في إصلاح المسجد من الجانب الشمالي، حيث تم إصلاح ما في سطح المسجد من الخرب بالخشب والجص، كما تم تبيض داخل المسجد وأبوابه والقبب الثلاث. وفي سنة ٨٧٥هـ – ١٤٧٠م أمر الأشرف قايتباي أن يفرش المسجد الحرام بالبطحاء، كما أمر بترميم وعمارة وإصلاحات في المسجد الحرام شملت بئر زمزم ومقام إبراهيم وحجر إسماعيل ومواضع أخرى.
أما في عهد السلطان قنصوه الغوري سنة ٩١٦هـ- ١٥١٠م تم تعمير الرواق الشمالي من المسجد الحرام على يد خاير بيك المعمار، أما في العام الموالي أي في سنة ٩١٧هـ/ ١٥١١م عمر الأمير خاير بك باب إبراهيم بعقد كبير، وقد عمر أيضًا حجر إسماعيل حيث هدمه جميعه وبناه مرة أخرى وعمله من الرخام من الداخل والخارج، ونقش في أعلى حجر إسماعيل اسم السلطان قنصوه الغوري وأسماء من عمروه قبله.
– عصر الدولة العثمانية انتقلت السيادة على الحجاز إلى العثمانيين، وبالتالي رعاية الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وأصبح السلطان العثماني يلقب بخادم الحرمين الشريفين، وعلى الرغم من السيادة العثمانية على كافة الأمصار إلا أن مصر كولاية عثمانية ظلت تتولى عمارة المسجد الحرام بأموال ومواد بناء ومهندسين وعمال مصريين، ويعتبر السلطان سليمان القانوني أول من قام بترميم المسجد الحرام، حيث أمر بترميم منارة باب علي بعد سقوطها.
وفي سنة ٩٥٩هـ- ١٥٥١م، تم ترميم أبواب المسجد الحرام، كما تم تجديد الأعمدة والأروقة وإعادة بناء الباب البحري وباب إبراهيم في الجهة الغربية، كما تم ترميم الرواق الشمالي لباب الندوة، وإعادة بناء ثلاثة مآذن وهي مئذنة الركن الشمالي الشرقي ومئذنة قايتباي في الجهة الشرقية ومئذنة باب العمرة.
وفي سنة ٩٦٦هـ/ ١٥٥٨م، أرسل السلطان سليمان القانوني منبرًا جديدًا هدية للمسجد وهو من المرمر الناصع البياض بدلًا من منبره الخشبي السابق، ومنذ ذلك الوقت لم يعد يستخدم المنبر الخشبي، وفي سنة ٩٧٢هـ- ١٥٦٤م، أمر السلطان سليمان في فرش المطاف حيث سُدت البلاطات بالنورة الرصاص وتسمرت بمسامير الحديد، واستمر فرش المطاف الشريف على هذا النمط إلى أن تم ذلك وفرشوا المسجد الحرام جميعه بالجص، كما تم عمل منارة جديدة عرفت باسم منارة سليمان القانوني، وكانت قبل ذلك تُعرف بمنارة الحكمة.