تاريخ ومعالم البيت الحرام 2

بقلم فضيلة الشيخ : أحمد عزت حسن
الباحث فى الشريعة الإسلامية

٢- بناء قُريش للكعبة
وبقيت على حالها إلى أن تم إعادة بنائها على يد قريش في الجاهلية، بعد عام الفيل بحوالي ثلاثين عامًا بعد أن حدث حريق كبير بالكعبة، نتج عن محاولة امرأة من قريش تبخير الكعبة فاشتعلت النار وضعف البناء، ثم جاء سيل حطم أجزاء الكعبة، فأعادت قريش بناء الكعبة،

فكان سبب بناء قريش للكعبة كان أنَّ امرأة ذهبت تُجمِّر الكعبة، فطارت من مجمرتها شرارة، فاحترقت كِسوة الكعبة، ثم جاء سيل عظيم فدخل الكعبة، وصدَّع جدرانها، ففزعت قريش من ذلك، وعزمت على تجديد بناء الكعبة المُشرَّفة، وكان ذلك في السنة الخامسة قبل البَعثة النبوية، وبعد ذلك الموقف أشار الوليد بن المُغيرة على قريش بأن تنقض البيت لما أصابه من تلف وتُعيد بناءه مرة أُخرى، فهابوا هَدمه، فبدأ الوليد بن المغيرة بالهدم وقال: (اللَّهمَّ إنا لا نريد إلَّا الإصلاح)، ولما شرعوا في البناء نقصت النفقة بقريش، فأُضطِرَّ أهل قريش لإخراج الحِجْر من بناء الكعبة، وأداروا عليه جدارًا قصيرًا؛ ليطَّوف الناس من ورائه، وأُحدِثوا بعض التغيرات فيها وقد رفعوا من بابها تَحكُّمًا بمن يدخلها،

وقد حضر النبي ﷺ هذا البناء وشارك فيه، -وكان يبلغ من العمر حينها ٣٥ سنة- فكان يحمل معهم الحجارة. فقد جاء عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما قال: (لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيّ ﷺ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: (أَرِنِي إِزَارِي) فَشَدَّهُ عَلَيْهِ).

وضع النبي ﷺ للحجر الأسود
بنيت الكعبة على زمان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وجُدّد بناءها في زمن النبي ﷺ، ذلك أن الكعبة في زمن قريش قد تصدعت، وخافت قريش أن تنهدم الكعبة، فاستشاروا في ذلك، واتخذوا قرارًا أن يهدموا الكعبة ويعيدوا بناءها، -وكانت قريش تجد في ذلك شرفاً عظيمًا-، فتم تقسيم العمل بين القبائل، وتولت كل واحدة منها ناحية من نواحي الكعبة ، فجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود دبَ الشقاق بين قبائل قريش، -فكل يريد أن ينال شرف رفع الحجر إلى موضعه-، فحين انتهت قريش من بناء الكعبة، بقي أن يضعوا الحجر الأسود، -ترفع الحجر الأسود لتضعه في مكانه-، وهو شرف عظيم، يتوق له كل شخص، ولذلك أرادت كل قبيلة من قبائل قريش أن يكون لهم شرف وضع الحجر الأسود في مكانه، واختصمت فيما بينها، حتى كانت تقع الحرب، فتنازعوا ولم يتفقوا وكادوا أن يقتتلوا فيما بينهم، حتى جاء أبو أمية بن المغيرة المخزومي فاقترح عليهم أن يحكّموا فيما اختلفوا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد، وكان رسول الله ﷺ أول رجل خرج إليهم، فكلموه في أمرهم، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر الأسود في مرط (أي كساء) ثم يرفعه زعماء القبائل فرفعوه ثم ارتقى ﷺ فوضعه بيده الشريفة مكانه،
فقد أمرهم ﷺ برفع الحجر على قطعة قماش وأن يمسك كل زعيم من زعمائهم بطرف منها، حتى وصلوا مكان الحجر، ثم وضع رسول الله ﷺ الحجر بيديه الشريفتين، فكان هذا الشرف من نصيب الرسول ﷺ.” [التقي الفاسي، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، ص: ٢٥٦] فننصبه -ﷺ- بيديه الشريفة في موضعه الذي فيه.
وبقي منصوبًا في مكانه لم يطرأ عليه تغيير، حتى وقع الحريق العظيم في الكعبة المشرفة في حصار جيش الحصين ابن نمير لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فتصدع الركن من الحريق ثلاث فرق، فشده عبد الله بن الزبير بالفضة، فكان أول من ربط الحجر الأسود بالفضة ثم تتابع الخلفاء في عمل الأطواق من الفضة كلما اقتضت الضرورة وفي شعبان ١٣٧٥هـ وضع الملك سعود بن عبد العزيز طوقًا جديدًا من الفضة وقد رُمِّم في عهد الملك فهد بن عبد العزيز في سنة ١٤٢٢هـ.

وكان النبي، ﷺ، يحب أن يعيد بناءها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأن يُدخِل الجزء الذي تركوه من الكعبة، وأن يجعل لها بابين لاصقين بالأرض؛ عن عائشة رضيَ الله عنها قالت: قال لي رَسُولُ الله ﷺ: (لَوْلاَ حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ الْبَيْتَ اسْتَقْصَرَتْ، ولجَعلْتَ لَهَا خَلْفًا).

وفي شهر ذي القعدة سنة ٦هـ الموافق ٦٢٨م، أمر الرسولُ ﷺ أتباعَه باتخاذ الاستعدادات لأداء العمرة في مكة، بعد أن رأى في منامه أنه دخل هو وأصحابُه المسجد الحرام وطافوا واعتمروا، فخرج من المدينة المنورة يوم الاثنين غرّة ذي القعدة سنة ٦هـ، في نحو ١٤٠٠ أو ١٥٠٠ من المسلمين، ولم يخرج بسلاح إلا سلاح المسافر (السيوف في القرب)، وساق معه الهدي سبعينَ بدنةً.

ولمّا علمت قريش بذلك، قررت منعه عن الكعبة، فأرسلوا مئتي فارسٍ بقيادة خالد بن الوليد للطريق الرئيسي إلى مكة، لكنَّ الرسولَ ﷺ اتخذ طريقًا أكثر صعوبة لتفادي مواجهتهم، ثم أرسل الرسولُ ﷺ عثمان بن عفان إلى قريش ليفاوضهم، فتأخر في مكة حتى سرت إشاعة أنه قد قُتل، فقرر الرسولُ ﷺ أخذَ البيعة من المسلمين على أن لا يفرّوا، فيما عرف ببيعة الرضوان، فلم يتخلّف عن هذه البيعة أحد إلا جد بن قيس، ونزلت في ذلك آيات من القرآن: ﴿لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح: ١٨)، وخلال ذلك وصلت أنباء عن سلامة عثمان، وأرسلت قريشٌ سهيل بن عمرو لتوقيع اتفاق مصالحة عرف بصلح الحديبية،

وفي العشرين من رمضان في العام الثامن من الهجرة (الموافق ١٠ يناير ٦٣٠م) استطاع المسلمون من خلالها فتحَ مدينة مكة وضمَّها إلى دولتهم الإسلامية وسميت تلك الغزوة بـغزوة الفتح وتسمى أيضًا بـعام الفتح.

وطاف النبي ﷺ يوم الفتح بالبيت يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان، وأراد فضالة بن عمير بن الملوح الليثي قتل النبي ﷺ، فلما دنا منه قال محمد ﷺ: «أفضالة؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: ماذا كنت تحدث نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك النبي ﷺ ثم قال: أستغفر الله، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه فكان يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئًا أحب إلي منه»، بعدها دخل رسول الله ﷺ الكعبة المشرفة وأمر بلالا أن يؤذن، وكان قد دخل معه، وكان أبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوسًا بفناء الكعبة فقال عتاب: «أكرم الله أسيدًا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه»،

فقال الحارث: «أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته»، وقال أبو سفيان: «لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرته عني هذه الحصاة».

فخرج عليهم النبي ﷺ فقال: «لقد علمت الذي قلتم»، ثم ذكر لهم ذلك، فقال الحارث وعتاب: «نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك». وقد بلغت مساحة المسجد الحرام في عهد النبي ﷺ ١٤٩ مترًا مربعًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *