أساطير الآخرين 2

بقلم الشيخ : سيد الشاعر الشافعي الأزهري

 

ومن الصِّعَاب في هذا المكان أن يمتلئ القلب هماً ويكاد يصرخ كمداً ، واغْرَوْرَقت العينان دمعاً ، واضطرب النَّفَس صعوداً وسُفُولاً في ليل بهيم لا ترى فيه قمراً ولا نجماً إلا مَأْفُولاً ، كدتُّ أنسى رسم الشمس والقمر والنجوم والكواكب ، فكلهم في السماء حاضر ، وفي محبسي غائب ، في صمت شديد تصرخ الأعضاء وفي همس مريب يتكلمون ، ” والله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعلمون “.

في مثل هذا الحال يجول الخاطر ويصول ، تريد أن تخلو بنفسك لكن هيهات كأنَّك أَوْقَدت شمعة في مهبِّ الريح ، والقلب على جمر المتاعب يتقلب ، فلا هو يحيى فينجو ، ولا هو يموت فيستريح ، وأشواق إذا هاجت فكأنها أمواج بحر طاغية ، وإذا هدأت ولانت فكأنها ريح صرصر عاتية 

فالشقي الشقي من كان مثلي في حساسيتي ورقة نفسي

عندما زُجَّ بي إلى هذا المكان ، وقع بصري على ما أكره ، فكأنهم قومٌ نُشِرُوا من القبور ، رؤوسهم مُرَقَّعَة ووجوههم مُقَطَّعة ، أجسامهم مَوْشُومة ، عابسين قاطبين والغلظة في وجوههم موسومة ، منهم من ملئت الدمامل جسده ، ومنهم من قطَّع من شدة الحكِّ جلده ، طويلةٌ أظلافهم! ، بعيدةٌ أفهامهم ، علماءٌ بلا منازعٍ في الجَهَالة! ، إذا تكلموا فبأسوأ مقالة ، ومن المُبكيات المضحكات أنني ما استقذرت أحداً منهم إلا وقعت عليَّ في ملازمته القرعة فأنام بجانبه وآكل معه في صَحْفَةٍ واحدةٍ مجبوراً مقهوراً.

هذا لعمري أمر شنيع ، وشيء في القياس بديع ، فأين البلغاء ؟! وأين الشعراء؟! ” والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون “.

أيها القارئ لعلّه خُيِّل إليك أنك تسمع أساطير الأولين ، لا بل إنها أساطير الآخرين ، أو ضربٌ من الخيال أو حكاية تصديقها محال ، فأنا لم أَبُح بعد عمَّا في صدري ، ولو بُحْتُ لك لَمَا انتهيت ولو زدتني عمراً إلى عمري.

وكله معدود عندي من البلاء ، ووقت مبتور من عمري رأيت فيه أغرب الأشياء ، ومما رأيت من الأعاجيب أن وجدت بعضهم من المسالمين الذين جاءوا إلى هذه البؤرة ، وتعثرت أقدامهم فوقعوا في أعمق حفرة ، فضاع في غياهبها العمر ولا يغني حَذَرٌ من قَدَر ، جاء صحيحاً عاقلاً فصيحاً ، فصار سقيماً مخبولاً قبيحاً ، الصق صور أطفاله بالجدار وحوَّل إليهم وجهته يخاطبهم ، يُلَوِّح إليهم بيده يُسَلِّمُ عليهم ووقت الصفاء يُدَاعبهم! ، يَبُثُّ إليهم شكواه إذا غلبه الشوق والأسى يتوسل إليهم أن يدعوا الله له بالرجوع ، فيظل على حاله حتى تسيل على وجناته الدموع ، مجرد صور تلك حقيقة مؤلمة ، لكنها عنده شعاع نور ، يرجو به الخروج من الظلمة ، وأمل في الحياة كبير يداوي جروحه وكَلْمَه ، مُسَكِّنَاً للآلام دافعاً يدفع به الساعات والأيام ، يستنشق عبيرهم إذا ضاق نَفَسُه ليس مقتنعاً أنهم مجرد صور.

وأنا أَرْمُقُهُ من بعيد فأراه مكلوماً ، أذكر همي فأجلس محسوراً ملوماً ، وتدور رأسي وينطلق فكري خلف القضبان له صولات وجولات ، أمرُّ على دياري ألامس الجدران كما كان يفعل مجنون ليلى حيث قال :

أمرُّ على الديار ديار ليلى     

                                أقبل ذا الجدار وذا الجدارَ

وما حب الديار شغفن قلبي   

                               ولكن حب من سكن الديارَ

فأمُرُّ على هذه الديار دياري أملأ صدري مستنشقاً ريح ولدي أقبل يدا أمي وأبي أعانق محبوبتي التي شاطرتني حياتي بأفراحها وأتراحها أصبِّرُها وأواسيها أردت إخبارها أن في ما مضى كفاية ، وأي جناية فعلَتْها حتى تتحمل عواقب تلك الوشاية ، أردتُ الفراق لكن على مضض ، خوفاً عليها ، فسحقتني بجيوش صبر جَرَّارَة قادتها بنفسها وحملت لذلك الراية ، أبت الكلمات الخروج واستعصى عليَّ المقال ، وكل ذلك مجرد خيال أمسك بلجامه تارة فألجمه ، وتارة يغلبني فأعجز أن أكتمه ، وأُرَوِّضُ نفسي وأُذَكِّرُها أن ذلك من تصاريف القدر ، والذي يشغلني أنني أخشى أن أكون مثل صاحب الصور!!.

اترك تعليقاً