دور العلماء في الأزمات: قراءة نقدية بين المسؤولية والواقع
20 ديسمبر، 2024
العلم والعلماء

بقلم الدكتور الشيخ / محمد سعيد صبحي السلمو ( البابي الحلبي )
لطالما كان للعلماء مكانة محورية في تاريخ الأمم، حيث يُنظر إليهم كحملة لواء الهداية والرشاد، وصوت الحكمة والعقل في أوقات السلم والصراع على حد سواء. لكن في زمن الأزمات الكبرى، كالتي شهدتها سورية، أثيرت العديد من الأسئلة حول دور العلماء: هل كانوا طرفًا في النزاع؟ هل يتحملون المسؤولية عن الأحداث الكارثية التي وقعت؟ وهل كان لصوتهم أي تأثير فعلي في مجرى الأحداث؟ أم أنهم تحولوا إلى “شماعة” يُلقى عليها اللوم دون إنصاف؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من تناول القضية من زوايا متعددة، مع الاستفادة من شواهد التاريخ وتحليل طبيعة المجتمعات والتغيرات التي طرأت عليها.
العلماء بين الاستقلالية والتبعية
لطالما اعتُبر العلماء في التاريخ الإسلامي من أهم ركائز السلطة الروحية والاجتماعية، لكن مكانتهم تأرجحت بحسب الظروف. في بعض الأحيان، كانوا أدوات بيد السلطة، وفي أحيان أخرى مثلوا قوة معارضة مستقلة. في سورية، كما في العديد من الدول، لعب العلماء أدوارًا مختلفة. هناك من آثر السلامة وتجنب الصدام مع السلطة، وهناك من أيد النظام بشكل مباشر أو غير مباشر، وهناك من انحاز إلى الثورة ودفع الثمن غاليًا.
لكن هل كان بإمكان العلماء إيقاف عجلة الحرب أو التأثير في الأطراف المتصارعة؟ الإجابة هنا تتطلب فهم طبيعة المجتمع الحديث. في زمن كانت فيه وسائل الإعلام والفن والرياضة أكثر تأثيرًا في تشكيل الرأي العام، تراجعت مكانة العلماء إلى حد كبير. أصبح الناس يتبعون رموزًا جديدة تعبر عن تطلعاتهم وأحلامهم، ولم يعد للعلماء ذات النفوذ الذي كان لهم في القرون الماضية.
الثورة والسلاح: هل كان للعلماء تأثير؟
عندما اندلعت الثورة السورية، لم تكن وليدة فتوى أو دعوة علماء. كانت تعبيرًا شعبيًا عن غضب متراكم لعقود طويلة. فهل كان بإمكان العلماء إقناع الناس بالاعتزال أو الثورة؟ الحقيقة أن الحركات الشعبية غالبًا ما تسير وفق ديناميكياتها الخاصة، ولا تتوقف على رأي العلماء أو غيرهم. الشخص الذي اقتنع بالثورة لم يكن ليتوقف بسبب نصيحة عالم، كما أن من اختار الحياد أو الاعتزال لم يكن ليغير موقفه لو أمره عالم بحمل السلاح.
الأمر ذاته ينطبق على النظام. لم يكن للنظام السوري تاريخ في الاستماع إلى العلماء، سواء أكانوا مؤيدين أم معارضين. النظام الذي استخدم الطائرات والمدفعية ضد شعبه لم يكن ليكف عن جرائمه بسبب نصيحة من عالم، مهما كانت مكانته. في الواقع، التاريخ مليء بالشواهد على تجاهل الأنظمة الاستبدادية لرأي العلماء. على سبيل المثال، في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي، لم يكن لرأي العلماء أي تأثير على قراراته القمعية، بل كانوا هدفًا لقمعه.
شماعة المسؤولية: هل العلماء هم الحلقة الأضعف؟
في خضم الصراع، يبدو أن العلماء تحولوا إلى “شماعة” تُلقى عليها كل التبعات السلبية. يُتهم العلماء بالتقصير حين يفشل المجتمع في تحقيق أهدافه، سواء أكانوا قد نصحوا بالصبر أم بالثورة. العالم الذي يقف مع الثورة اليوم قد يُتهم بالعمالة إذا تغيرت الموازين وجاء نظام جديد يعادي الثورة. والعالم الذي يلتزم الحياد يُتهم بالجبن والخيانة من كلا الطرفين.
هذا النمط ليس جديدًا؛ التاريخ مليء بمواقف مشابهة. الإمام أحمد بن حنبل، على سبيل المثال، واجه اضطهادًا شديدًا في محنة خلق القرآن، لكنه في الوقت ذاته تعرّض للانتقاد من البعض لأنه لم يرفع راية الثورة ضد الخليفة. العلماء غالبًا ما يكونون الحلقة الأضعف في المعادلة، حيث يُحملون المسؤولية دون أن يمتلكوا وسائل حقيقية للتأثير.
هل نحن أمة تتبع العلماء؟
لعل من أعمق الإشكاليات التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم هو الادعاء بأنها أمة تسير وراء العلماء. في الواقع، هذا الادعاء يحتاج إلى مراجعة. نحن أمة تسير في الغالب وراء أهوائها، وكل فرد يبحث عن فتوى تناسب ميوله الشخصية. من يختار الثورة سيجد عالِمًا يدعمه، ومن يختار الحياد سيجد عالِمًا يبرر له موقفه، ومن يدعم النظام سيجد كذلك من يؤيده.
هذا التناقض يعكس طبيعة التحولات الاجتماعية التي طرأت على الأمة. في زمن الفتوى الرقمية، أصبح لكل شخص عالمه الخاص الذي يدعمه عبر منصات التواصل. وبالتالي، فإن تحميل العلماء مسؤولية كل ما حدث في سورية أو غيرها هو تجاهل لواقع أن المجتمعات اليوم لم تعد تسير وفق رؤى العلماء، بل تتحرك وفق مصالحها وأهوائها.
الخاتمة: العلماء بين النقد والإنصاف
إن نقد العلماء وتحميلهم المسؤولية عن كل ما حدث في سورية أو غيرها يعكس فهمًا سطحيًا لدورهم الحقيقي. نعم، العلماء يتحملون جزءًا من المسؤولية بوصفهم قادة روحيين ومؤثرين، لكنهم ليسوا أصحاب قرار سياسي أو عسكري. في الوقت ذاته، لا يمكن إنكار أنهم أصبحوا الحلقة الأضعف في زمن الإعلام والفن والرياضة، حيث تراجع تأثيرهم بشكل كبير.
ما نحتاجه اليوم ليس البحث عن “شماعة” نلقي عليها اللوم، بل إدراك تعقيدات الواقع وفهم أن المسؤولية موزعة بين الجميع: شعوبًا، ونخبًا، وسلطات. إن العالم، مهما كان موقفه، سيظل مستهدفًا بالنقد في كل الأحوال، لكن ذلك لا يعني التنصل من دوره. التاريخ سيحكم على الجميع، وليس العلماء وحدهم.
الخميس 19/12/2024