التسارع إلى الفتوى في عصر السوشيال ميديا: ظاهرة مستحدثة وأزمة متجذرة
8 أكتوبر، 2024
الخوارج وخطرهم على الأمة
بقلم الشيخ / عبدالرحمن صابر
لقد أصبحت السوشيال ميديا في عصرنا بوابةً مشرعة لكل من يحمل بين يديه هاتفًا أو جهازًا إلكترونيًا، مساحاتٌ عريضة تفيض بالمعلومات، والأراء، والآراء المضادة، تلك التي أصبحت تَصُبُّ على عقول البشر سيلًا لا ينقطع من البيانات المتدفقة، ولكن، في خضم هذا الاندفاع المعلوماتي، نلمح ظاهرة من أخطر ما أفرزته تلك المنصات: التسارع إلى الفتوى، وإطلاق الأحكام على عجلٍ وكأنها بضاعة تُنثر على أرصفة السوق، يتناقلها العامة قبل العلماء، ويصوغها الجاهل قبل المُتخصص.
إغراء السوشيال ميديا وسرعة الفتوى: آفة العصر الحديث
إنَّ هذه الوسائل، رغم ما تتيحه من فرصة لنشر العلم والتواصل، قد فتحت بابًا لم يكن له أن يُطرق إلا بأيدٍ عالمة، وعقولٍ فقيهةٍ تدرك خطورة الكلمة وما تترتب عليه من آثار، ولعلَّ أخطر ما في الأمر، أن السوشيال ميديا لا تعترف بحدود المعرفة ولا بأوزان العلم، فمَن كان يستحي من الجهر برأيه في مجالس العلماء، بات يطلق ما شاء من فتاوى وأحكام في براح الفضاء الإلكتروني، وهو في مأمن من المساءلة، بل قد يجد من يُشجعه ويروج له، فيتحول الجاهل إلى مرجعٍ، ويصبح المبتدئ في العلم مفتيًا على الناس.
ولعلّ هذا التسارع قد أوجد مساحات واسعة من اللبس والغموض، فلا العوام باتوا يميزون بين الفقيه والمتطفل على الفقه، ولا المتخصصين وجدوا سبيلاً لكبح هذا التدفق العشوائي، فحين يصير العلم عُرضةً للتناقل بين الألسن بلا تمحيص، وحين تُستباح حرمة الفتوى بتصفيق المعلقين، فإن الحقيقة تغيب في ضجيج الآراء المتضاربة، ويُطمس معالمها بغيوم الجهل المتراكم.
الفتوى: مسؤولية وليست رأيًا شخصيًا
لقد كانت الفتوى على مر العصور إرثًا ثقيلًا يُحمل على عاتق العلماء الذين نذروا حياتهم للبحث والتنقيب في النصوص الشرعية، مستنيرين بالعقل والنقل، مدركين أن الفتوى ليست مُجرد كلمة عابرة، بل هي حكمٌ رباني يضع الإنسان في موضع المسؤولية أمام خالقه ومجتمعه، وقد قال العلماء قديمًا: “إنما يفتي من يرى أن الله يسأله يوم القيامة عما يقول”، فالفتوى هنا ليست مجرد إبداء رأي، بل هي شهادةٌ أمام الله.
غير أن السوشيال ميديا قد حطمت جدار الهيبة الذي كان يحيط بالفتوى، حتى غدت الفتاوى تُطلق في كل ساعة، ومن أي شخص، بلا مراعاة لثقل الكلمة ولا لما قد تجره من تبعات، وهذا التسرع يضعنا أمام تحدياتٍ كبيرة، ليس فقط في فهم الدين، بل في الحفاظ على تماسك المجتمعات الإسلامية، فإن من يتجرأ على الفتوى بغير علم، إنما يُعجل بإحداث فتنة فكرية قد تشوش على المعتقدات وتزعزع الاستقرار المجتمعي.
خطر التسارع إلى الفتوى على الفهم الديني
حين يتحول الفضاء الإلكتروني إلى منبرٍ مفتوح للفتاوى، يجد الفرد نفسه أمام خيارات متناقضة ومتعددة حول مسألة واحدة، مما يؤدي إلى بلبلةٍ فكرية تؤدي إلى انقسامات بين أفراد المجتمع، ولعل ما يُفاقم الأزمة هو أن هذه الفتاوى المتسارعة لا تخضع لضوابط علمية، بل كثيرًا ما تعتمد على توجهات شخصية أو خلفيات ثقافية محددة، فيُطرح الدين كأنه أداة بيد كل شخص يعبر عن توجهه الخاص، وهنا تَكْمُن الخطورة، حيث يصبح الدين محلاً للتأويل العشوائي، ويُحرف عن سياقه الأصلي الذي يتطلب التخصص والعلم الدقيق.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التجرؤ على الفتوى بغير علم، حيث قال: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.” وهذا الحديث يضعنا أمام صورة دقيقة لما يحدث اليوم، حين يختلط الجاهل بالعالم، ويتساوى الناطق بالباطل مع الناطق بالحق.
علاج الأزمة: العلم والتروي والعودة إلى أهل الاختصاص
إن الخروج من هذا المأزق المعاصر لا يتأتى إلا بالعودة إلى منهجية العلم الصحيح، حيث يُرفع العلم مكانه اللائق به، فلا يُطلق سراح الفتاوى إلا من أفواه المتخصصين الذين يمتلكون القدرة على الاجتهاد والفهم العميق للنصوص الشرعية، كما يتطلب الأمر وعيًا مجتمعيًا كبيرًا، بأن لا يُطلب الفتوى إلا ممن أُهل لها، ولا يُؤخذ العلم إلا من أهله.
ولا شك أن أحد أبرز الحلول يتمثل في تعزيز دور المؤسسات الدينية الرسمية، مثل الأزهر الشريف، والذي يقع على عاتقه مسؤولية عظيمة في هذا الزمن المربك، فالأزهر، باعتباره المرجعية العلمية الكبرى في العالم الإسلامي، يجب أن يواصل جهوده في تقديم الفتاوى المدروسة التي تراعي مقاصد الشريعة وتحافظ على التوازن بين الأحكام الشرعية ومتطلبات العصر الحديث، كما يجب عليه العمل على توعية الأفراد بمخاطر الاعتماد على الفتاوى الإلكترونية العشوائية، ودعوتهم للعودة إلى المنابع العلمية الصحيحة.
دور الأفراد في التصدي للفتوى العشوائية
إلى جانب دور المؤسسات، يجب أن يتحمل الأفراد مسؤوليتهم في التصدي لهذه الظاهرة، فكل مسلم مسؤول أمام الله عن دينه، وعليه أن يتحرى الصدق والوضوح في طلب الفتوى من أهلها، وأن يتجنب الانسياق وراء الآراء التي تُطرح بلا سند شرعي أو علمي، كما يجب على المسلمين أن يدركوا أن الفتوى ليست ترفًا فكريًا أو رأيًا شخصيًا، بل هي حكمٌ شرعي يحتاج إلى فهمٍ عميق وتروي قبل إطلاقه.
وفي النهاية، يبقى التسارع إلى الفتوى عبر السوشيال ميديا آفةً من آفات العصر الحديث، تستوجب منا جميعًا وقفةً جادة لتحليل أسبابها ومعالجتها، فالفتوى ليست مجرد كلمة تُقال أو تُكتب على عجالة، بل هي أمانة ومسؤولية كبيرة تتطلب العلم، والتروي، والورع. وبالعودة إلى المنهج العلمي الصحيح، وإحياء الوعي المجتمعي، يمكننا أن نتجاوز هذا التحدي، ونحفظ لديننا قيمته وقدسيته، بعيدًا عن الفوضى المعلوماتية التي تجتاح عصرنا الحالي.