فصل ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصديقين وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين.
ويقع لهم من الإخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب.
وربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم والولاية لا تحصل إلا بالعبادة وهوغلط فإن فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها. وإذا كانت النفس الأنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه.
وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين وإنما فقد لهم العقل الذي ينال به التكليف وهي صفة خاصة للنفس وهي علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله.
وكإنه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده.
وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش ولا استحالة في ذلك ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف.
وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم.
ولك في تمييزهم علامات: منها أن هؤلاء البهاليل تجد لهم وجهة ما لا يخلون عنها أصلاً من ذكر وعبادة لكن على غير الشروط الشرعية لما قلناه من عدم التكليف والمجانين لا تجد لهم وجهة أصلاً.
ومنها أنهم يخلقون على البَله من أول نشأتهم والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة.
ومنها كثرة تصرفهم في الناس بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم والمجانين لا تصرف لهم. وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه والله المرشد للصواب.
عبدالرحمن بن خلدون [المقدمة]