منذ أن خطت أقدام الإنسان الأولى على هذه الأرض، انطلقت المسيرة البشرية من جهة المشرق، من الأرض التي باركها الله، من تراب الجزيرة العربية وما حولها. تلك البقعة التي لم تكن فقط مسرحًا للأنبياء والرسالات، بل كانت الرحم الحضاري الذي أنجب الأمم، والمهد الذي تخلقت فيه أولى الخلايا الإنسانية من صلب آدم عليه السلام.
ومنذ ذلك الزمن البعيد، لم يكن مفهوم “الأصل” موضوع جدال بين من قرؤوا التاريخ بعين نزيهة خالية من أهواء السياسة والتحريف، بل كانت الحقيقة واضحة، راسخة، تأبى النكران، مفادها: أن العرب هم الجذر الأصيل، وأن ما سواهم فروعٌ وتحوّرات خرجت من رحم اللسان العربي، وتشكّلت حول النواة العربية الكبرى.
بداية الإنسان كانت من أرض العرب
في روايات الأديان التوحيدية، تتجلى بداية الإنسان في قصة آدم، عليه السلام. وتجمع العديد من المصادر على أن نزوله كان في أرض العرب أو في محيطها الجغرافي القريب، لا سيما مكة المكرمة أو منطقة الهند المتاخمة لليمن الكبرى. يذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» أن آدم حين هبط، اختار مكانًا مباركًا، هو موضع أول بيت وُضع للناس. وتروي الروايات أنه التقى بحواء في عرفات بعد طول فُرقة، مما يعكس مركزية الحجاز في مشهد البدايات البشرية.
نسب سام وأبناء العرب
ثم توالت الأنساب، فجاء نوح، ومن بعده ابنه سام، الذي يُنسب إليه زعمًا ما يعرف بـ “العرق السامي”. لكن هذا المصطلح، برغم شيوعه، لم يعرفه العرب في لغتهم ولا استخدموه في تراثهم، بل حافظوا على انسياب النسب من سام إلى العرب مباشرة، دون وسائط عنصرية. تقول كتب النسب، ومنها ما أورده ابن حزم في «جمهرة أنساب العرب»، إن العرب ينقسمون إلى ثلاث: بائدة، عاربة، ومستعربة، وكلهم يرجعون في الجذور إلى سام بن نوح، بلا استثناء. فالعاربة هم أبناء قحطان، والمستعربة من نسل إسماعيل، والكل متصل في جديل واحد، لا ينقطع.
إسماعيل وجرهم: ولادة العرب المستعربة
ويجمع المؤرخون على أن إسماعيل عليه السلام، حين أقام بمكة، تعلّم العربية من جرهم، وتزوّج منهم، وأنجب اثني عشر ولدًا كوّنوا نواة القبائل المستعربة، التي أكملت النسق اللغوي والثقافي للعرب العاربة. تقول «الطبقات الكبرى» لابن سعد إن إسماعيل هو الأب النسبي للعرب المستعربة، وإنهم ساهموا في توسيع اللسان العربي الأصيل وتوطينه في مناطق متعددة من شبه الجزيرة.
أما البلاذري في «فتوح البلدان»، فيسجل ما لا يقبل التأويل: أن العرب سكنوا الشام ومصر والعراق قبل الإسلام بقرون طويلة، وكانت لهم ممالك وقبائل عريقة فيها، مما ينسف أي محاولة لفصلهم عن حضارات الهلال الخصيب ووادي النيل.
كذبة السامية وأصلها الاستشراقي
يُقال إن المصطلحات لا تُولَد بريئة، وهذا ما ينطبق تمامًا على مصطلح “السامية”. فهو اختراع استشراقي يعود إلى أواخر القرن الثامن عشر، حين صاغه المستشرق الألماني أوغست لودفيغ شلوتسر، ثم تبعه آخرون كإدوارد ماير، لأغراض لم تكن يومًا علمية محضة، بل مشبوهة في أساسها، استندت إلى قراءة توراتية تريد تعظيم شأن العبرانيين وإعلاء كعبهم في السرديات التاريخية على حساب العرب، رغم أن العبرية نفسها ليست سوى لهجة من لهجات العرب.
فالعبرية انقرضت كلغة حية منذ القرن الثالث الميلادي، ثم أُعيد إحياؤها سياسيًا في العصر الحديث على يد الحركة الصهيونية لتأسيس هوية لغوية لا جذر لها، كما يؤكد المؤرخ اليهودي إيلياس أفيق. فكيف تُعَد أصلًا بينما هي فرعٌ ميتٌ تم نفخه بالحياة سياسيًا؟!
اللغة العربية: الأم الكبرى
في مقابل هذا، نجد اللغة العربية، تلك التي لم تزل تنبض بالحياة، هي أقدم لغة “سامية” حيّة، بل هي اللغة الوحيدة التي حافظت على بنيتها الصوتية والنحوية والصرفية لأكثر من ألفي عام. يقول المستشرق الألماني كارل بروكلمان في «فقه اللغات السامية»: “اللغة العربية هي الأصفى صوتًا، والأقرب إلى الأصل الأم، ولا يمكن فهم بقية اللغات السامية إلا من خلالها”.
هذا الاعتراف لا يأتي من مؤرخ عربي، بل من لسان أوروبي أكاديمي يعترف صراحة أن العربية ليست فقط لغة تطورت، بل هي الأصل الذي يفك رموز ما يسمى باللغات السامية: الآرامية، الكنعانية، الأكدية، العبرية، وغيرها.
نسب إبراهيم عليه السلام وشبه الجزيرة
بل إن إبراهيم نفسه، أبو الأنبياء، كان مستقرًا في مكة، كما تدل الآية الكريمة: “رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ” [البقرة: 126]، وهي آية تشير إلى مكان الدعاء، أي الحجاز، مما يعني أن نسل إبراهيم كان في جزيرة العرب، وأن إسماعيل – الذي تتشعب منه القبائل العربية المستعربة – هو الجد الأعلى للعرب. وفي سفر التكوين التوراتي، نقرأ أن “أبناء إسماعيل سكنوا من حدود مصر إلى آشور”، وهي كلها أراضٍ عربية لا ريب فيها.
الكنعانيون، الآشوريون، الآراميون: لهجات عربية
بل حتى الشعوب التي يُراد فصلها عن العرب، كالكنعانيين والآشوريين والبابليين والآراميين، كلهم في حقيقتهم فروع لغوية وثقافية من الجذر العربي. يقول كمال الصليبي في كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» إن جغرافية التوراة الحقيقية تقع في جنوب الجزيرة، وأن من أُطلق عليهم “عبرانيين” لم يكونوا سوى قبائل عربية عبرت شمالًا.
السامية: أداة سياسية لا علمية
إن مصطلح “السامية” لم يكن يومًا مفهومًا علميًا مستقيمًا، بل كان منذ بدايته أداة سياسية، وذريعة عنصرية، سُوّقت تحت مظلة البحث اللغوي بينما هي تخدم مشروعًا استعماريًا هدفه تقطيع أواصر المشرق العربي، وفصل شعوبه إلى وحدات مصطنعة يسهل التحكم بها. وقد عبّر المفكر الفرنسي روجيه غارودي عن ذلك بدقة حين قال: “السامية اختراع يخدم الكيان الصهيوني، ولا يعبر عن واقع بشري أو حضاري”.
الخلاصة: العرب أصل الإنسان وسيد حضاراته
العرب، إذن، ليسوا مجرد قوم من بين الأقوام، ولا لغة من بين اللغات، بل هم الأصل الأول، والجذر العميق، والسند الحضاري الذي انبثقت منه الشعوب، وتشكّلت على أساسه اللغات، وامتدت منه الحضارات. أما “السامية” فهي أكذوبة لغوية سياسية، صاغها من أرادوا تجريد العرب من مركزيتهم، وشطبهم من سجل النسب الحضاري الأول.
فليُعد التاريخ إلى نصابه، لا كما كتبه المستشرقون خلف المكاتب في فيينا ولندن، بل كما عاشه الناس ودوّنه أبناؤه من الحجاز إلى اليمن، ومن بابل إلى دمشق، ومن مكة إلى القدس.
العرب هم الأصل… ومن لم يُدرك ذلك، فعليه أن يغسل عينيه من غبار الاستشراق، ويعيد قراءة التاريخ من منابعه الصافية، لا من مستنقعات السياسة