بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
في زمنٍ أصبحت فيه الهواتف الذكية تُلازم أيدينا ليل نهار، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي من مجرد وسيلة ترفيهية إلى قوة مهيمنة تُشكل الوعي، وتؤثر في السلوك، وتعيد صياغة منظومة القيم لدى الأفراد والمجتمعات. ولئن كانت هذه الوسائل تحمل بين طياتها بعض الإيجابيات، فإن الجوانب الخفية والأكثر خطورة تكمن في أثرها السلبي على الأخلاق والقيم الدينية، وهو ما يستوجب وقفة تأمل وتحليل.
لقد أتاحت مواقع مثل “فيسبوك”، و”إنستجرام”، و”تيك توك”، و”يوتيوب”، فضاءً واسعًا لتبادل الآراء والتعبير عن الذات، لكنها في ذات الوقت شكّلت بيئة خصبة لانتشار الانفلات الأخلاقي، والتطبيع مع الفجور، والتسطيح الثقافي، بل والانجراف نحو أنماط حياة تتصادم تمامًا مع القيم الدينية والضوابط المجتمعية.
من أبرز الآثار السلبية الخفية لوسائل التواصل هو ما بات يُعرف بـ”عبادة الصورة”، حيث أصبح الكثيرون يقيمون الآخرين، بل أنفسهم، بناءً على عدد الإعجابات والمتابعين. وتُروج تلك المنصات لمفهوم خاطئ للسعادة يقوم على التفاخر بالماديات، وإبراز مظاهر الترف، والتنافس على من يبدو أكثر شهرة أو أكثر جاذبية، مما يرسّخ حب الذات، والأنانية، والفراغ القيمي.
من خلال ما يُعرف بـ”الترند”، تنتشر في لحظات مقاطع وصور تخالف الفطرة السليمة وتعادي القيم الدينية، بل وتُقدَّم في أحيان كثيرة على أنها أمر طبيعي أو “حرية شخصية”. فتجد أن الرقص، العري، العلاقات غير المشروعة، بل والسخرية من الدين ورموزه، أصبحت محتوى شائعًا ومُربحًا لمنشئيه، بل يُحتفى به وكأنه نجاح يستحق التقدير!
واحدة من أخطر الجوانب الخفية تتمثل في حملات مستمرة منظمة لتشويه الرموز الدينية، وتقديم الشخصيات الفارغة أو المنحلة أخلاقيًا كـ”نجوم” أو “مؤثرين”، فيتم ضرب مفهوم القدوة الحسنة، وتُستبدل بمشاهير لا يحملون أي رسالة إلا الشهرة ذاتها، ليصبح الصغير والكبير يقلد بلا وعي، ويتأثر بلا فكر.
ثمة موجة متصاعدة تروّج للتشكيك في الثوابت، وتقديم الدين كعقبة في وجه “الحرية”، وتحت مسمى “التنوير الزائف” يُستهزأ بالحجاب، ويُستخف بالحلال والحرام، ويُعاد تفسير النصوص الدينية بما يخدم الأهواء، بل ويُصنع نجوم جدد يُطلق عليهم “مثقفون جدد” بينما هم في الواقع أداة لهدم المرجعيات.
تُعد مواقع التواصل من أكبر بوابات الانزلاق نحو الإباحية والعلاقات غير الشرعية، حيث يسهل الوصول إلى محتويات خادشة دون رقابة، ويصعب على الناشئة والمراهقين مقاومة هذا السيل الجارف. وتتآكل بذلك الفضيلة شيئًا فشيئًا، ويصبح الحياء سلعة نادرة، وتُخدّر الفطرة بتكرار المشاهد والانجراف خلفها.
في مقابل هذا التدمير المنظم، هناك تغييب ممنهج للدروس الدينية الحقيقية والمعتدلة، إذ تُحاصر المنابر الهادئة وتُعزل الأصوات النقية، بينما يُسمح بصعود من يُثير الجدل الديني ليُربك الناس ويدخلهم في متاهات فكرية تُبعدهم عن جوهر الدين وروحه الحقيقية.
لا بد أن تكون هناك رقابة أسرية ومجتمعية غير قمعية، تزرع الوعي وتحذر من المخاطر. كما أن دعم المحتوى القيمي والديني المعتدل، وتشجيع الشباب على إنشاء منصات تنشر الخير والوعي أصبح ضرورة. ويجب أن يعود الدين إلى مناهجنا وبيوتنا ومدارسنا ليس كحشوٍ بل كقيمة حقيقية. كذلك لابد من تشريع صارم يُحاسب كل من يُنتج أو يروّج لمحتوى مسيء أو يخل بالقيم العامة.
في النهاية، لا يمكننا أن نمنع التكنولوجيا، لكن يمكننا أن نحمي أنفسنا وأجيالنا منها، بالتربية، وبالقدوة، وبنشر الوعي، وبأن تكون لنا رؤية، لا أن نكون مجرد أرقام تستهلك ما يُقدّم لها دون وعي أو غربلة. فوسائل التواصل، إن لم تُضبط، فإنها لن تُفسد فحسب، بل ستدمر كل ما هو جميل فينا من دين وأخلاق وعقل.