خطبة بعنوان (كلمة « أنا» نور ونار)
لفضيلة الدكتور : أيمن حمدى الحداد
لتحميل الخطبة pdf اضغط على الرابط أدناه
ana nor wanar alhadad
نص الخطبة
الحمد لله المتفرد بالعظمة والجلال، الكبير المتعالِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: لقد حذر الإسلام من كل مظاهر الكبر والغرور؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ: قَالَ اللَّه عزَّ وجلَّ: «العِزُّ إِزاري، والكِبْرياءُ رِدَائِي، فَمَنْ يُنَازعُني في واحدٍ منهُما فقَدْ عذَّبتُه» رواه مسلم.
وعن سَلَمَة بنِ الأَكْوع رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ الله ﷺ: «لا يزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ في الجَبَّارينَ، فَيُصِيبُهُ مَا أَصابَهمْ» رواهُ الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.
♦ أولاً: من مظاهر (الأنا النارية الشيطانية) التى ذمها ديننا الحنيف وتؤدى إلى الهلاك؛ إنها كل (أنا) يتمرد بها صاحبها على العبودية لرب العالمين، أو يتعالى بها على خلق الله عز وجل من أمثلة ذلك؛
– منازعة الله رب العالمين فى سلطانه كما فعل النمرود بن كنعان لعنه الله؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(البقرة: ٢٥٨)،
– وقال تعالى عن فرعون: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّـهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾(النازعات: ١٥-٢٦)،
– إدعاء الخيرية؛ إن إبلبس لعنه زعم أنه أفضل من آدم عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾(الأعراف: ١٢-١٣)،
– وهذا فرعون لعنه الله يتكبر في الأرض بغير الحق ويدعى أنه أفضل من كليم الله موسى عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿وَنَادَىٰ فِرۡعَوۡنُ فِی قَوۡمِهِ قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَلَیۡسَ لِی مُلۡكُ مِصۡرَ وَهَـٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَـٰرُ تَجۡرِی مِن تَحۡتِیۤۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ أَمۡ أَنَا۠ خَیۡر مِّنۡ هَـٰذَا ٱلَّذِی هُوَ مَهِین وَلَا یَكَادُ یُبِینُ فَلَوۡلَاۤ أُلۡقِیَ عَلَیۡهِ أَسۡوِرَ مِّن ذَهَبٍ أَوۡ جَاۤءَ مَعَهُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ مُقۡتَرِنِینَ فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ قَوۡما فَـٰسِقِینَ فَلَمَّاۤ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَـٰهُمۡ أَجۡمَعِینَ فَجَعَلۡنَـٰهُمۡ سَلَفا وَمَثَلا لِّلۡـَٔاخِرِینَ﴾(الزخرف: ٥١-٥٦)،
– (الأنا النارية) التى أدت إلى القتل؛ إنّ أبشع صورة لمأساة (الأنا) وعبادة الذات ما حدث بين قابيل وهابيل؛ قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(المائدة:٢٧-٣٠)،
– الإستطالة على الخلق بالنعم كما فعل صاحب الجنتين؛ قال تعالى: ﴿وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَدًا وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبًا﴾( الكهف: ٣٢-٣٦)،
– جحود آلاء الله رب العالمين كما ادعى قارون لعنه الله؛ قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(القصص: ٧٨-٨٢)،
– الحسد كأحد أبرز مظاهر (الأنا الشيطانية)؛ إن الحاسد يتمنى زوال الخير عن الغير، وخير شاهد على ذلك ما حدث من إخوة يوسف عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ (يوسف: ٧-٩)،
إن المصر على (الأنا الشيطانية) يسير بخطى ثابتة نحو الغرور والتكبر ويقود نفسه إلى مزالق العُجْب والاعتداد بالنفس المفرط، مما يجعله يرى نفسه أفضل من الآخرين، وهو بذلك يتبع خطوات الشيطان الرجيم الذى سيتبرأ من أتباعه ويتخلى عنهم؛ قال تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(إبراهيم: ٢٢)، وقال تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾(الحشر :١٦)، نعوذ بالله من (أنا) الشيطانية التى تورث أصحابها الهلاك والشقاء فى نار جهنم.
♦ثانياً: من إشراقات (أنا النورانية)؛ إنها كل (أنا) تبشر بالخير وتدخل على سامعها البشر والسرور؛ قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(الحجر: ٤٩)، وقال تعالى: ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(البقرة: ١٦٠)،
عباد الله: قد يتحرج البعض من قول (أنا) خوفاً من أن تكون (أنا النارية الشيطانية) وهذا أمر حسن، لكن لابد وأن نعلم أن قول (أنا) ليس مذموماً على الإطلاق فمتى كانت إيجابية تدل على الخير لا رياء فيها ولا استطالة على الخلق فلا حرج من قولها من أمثلة (أنا النورانية)؛
– الدالة على التواضع وخفض الجناح؛ فعن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر وأنا أولُ من تنشقُّ الأرضُ عنه يومَ القيامةِ ولا فخر وأنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ ولا فخر ولواءُ الحمدِ بيدي يومَ القيامةِ ولا فخرَ» رواه ابن ماجه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ يَومَ القِيامَةِ، وأَوَّلُ مَن يَنْشَقُّ عنْه القَبْرُ، وأَوَّلُ شافِعٍ وأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» رواه مسلم.
وهذه رسالة إلى الذين يتفاخرون فيقول أحدهم أنا ابن فلان؛ فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال:
انتسب رجلان على عهدِ النبيِّ ﷺ، فقال أحدهما: أنا فلانُ بنُ فلانٍ – حتى عدَّ تسعةً – فمن أنتَ؟ لا أمَّ لك؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «انتسب رجلان على عهدِ موسى، فقال أحدُهما: أنا فلانُ بنُ فلانٍ حتى عد تسعةً، فمن أنت؟ لا أمَّ لكَ؟ قال: أنا فلانُ بنُ فلانِ ابنِ الإسلامِ، فأوحى اللهُ، عزَّ وجلَّ، إلى موسى عليه السلام: ائتِ هذين المنتسبين، أما أنتَ أيها المنتمي – أو المنتسب – إلى تسعةٍ في النار، وأنت عاشرُهم في النارِ، وأما أنتَ المنتسبُ إلى اثنين، فأنت ثالثهم في الجنَّةِ» أخرجه عبدالله بن أحمد في (زوائد المسند)
– الدالة على تحمل الأعباء عن أصحابها وإعانتهم؛
فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال رَسُولِ اللهِ ﷺ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا، أَوْ ضَيْعَةً، فَادْعُونِي فَأَنَا وَلِيُّهُ، وَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ مَالًا، فَلْيُؤْثَرْ بِمَالِهِ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانَ» رواه مسلم.
كما نص على هذا الأمر القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾(الأحزاب: ٦)،
وهذه دعوة كريمة إلى إكرام المسلمين وإيثارهم
ولقد امتدح الله عز وجل الأنصار بتخلصهم من حب الذات وإيثارهم المهاجرين على أنفسهم؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(الحشر: ٩)،
– الدالة على الشجاعة فى موطنها؛ عن البراء بن عازب رضي الله قال رسول الله ﷺ: «أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ أَنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ» رواه مسلم.
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: عُرض رسولُ اللهِ ﷺ سيفًا يومَ أحدٍ فقال: «مَن يأخذُ هذا السيفَ بحقِّه فقام أبو دجانةَ سماكُ بنُ خرشةَ فقال يا رسولَ اللهِ: أنا آخذُه بحقِّه فما حقُّه قال فأعطاه إياه فخرج واتبعتُه فجعل لا يمرُّ بشيءٍ إلا أفراه وهتكَه حتى أتَى نسوةً في سفحِ الجبلِ ومعهنَّ هندٌ وهي تقولُ: نحن بناتُ طارقْ نمشِي على النمارقْ _ والمسكُ في المفارقْ إن تُقْبِلوا نعانقْ _ أو تُدْبِروا نفارقْ فراقَ غيرِ وامقْ. قال فحملتُ عليها فنادَت بالصحراءِ فلم يُجبْها أحدٌ فانصرفتُ عنها فقلتُ له كلُّ صنيعِك رأيتُه فأعجبني غيرَ أنك لم تقتلِ المرأةَ قال فإنها نادت فلم يُجبْها أحدٌ فكرهتُ أن أضربَ بسيفِ رسولِ اللهِ ﷺ امرأةً لا ناصرَ لها» رواه الهيثمي فى مجمع الزوائد.
– الدالة على على كفالة اليتيم والإحسان إليه؛ فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين، وأشارَ بأصبُعَيْهِ يعني: السَّبَّابةَ والوسطى» رواه الترمذي.
ولما قتل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وجاءت زوجه إلى سيدنا رسول الله ﷺ تذكر يتم أبنائها وحاجتهم وساها ﷺ؛ فعن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله قال: فجاءَتْ أمُّنا فذكَرَتْ له يُتْمَنا، وجعَلَتْ تُفرِحُ له، فقال: «العَيْلَةَ تَخافينَ عليهم وأنا ولِيُّهم في الدُّنيا والآخرةِ؟!»
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «أنا أوَّلُ مَن يُفْتَحُ له بابُ الجنَّةِ، إلَّا أنِّي أرى امرأةً تُبادِرني، فأقولُ لها: ما لكِ؟ ومَن أنتِ؟ فتقولُ: أنا امرأةٌ قعَدْتُ على أيتامٍ لي» رواه أبو يعلى.
– الدالة على جبر الخواطر وحب الجميع؛ فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال خرَج رسولُ اللهِ ﷺ على قومٍ مِن أسلَمَ يتناضَلون بالسُّوقِ فقال: «ارموا بني إسماعيلَ فإنَّ أباكم كان راميًا وأنا مع بني فلانٍ» لأحدِ الفريقينِ فأمسَكوا بأيديهم فقال: «ما لكم ارموا» قالوا: وكيف نرمي وأنتَ مع بني فلانٍ؟ قال: «ارموا وأنا معكم كلِّكم» رواه البخارى.
لقد جبر ﷺ بخاطر الفريقين فقال: «ارموا وأنا معكم كلِّكم»، وهذه رسالة إلى كل مسلم.
وقد لخصت أمنا خديجة رضي الله عنها جبره الخواطر بقولها له ﷺ: «أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» متفق عليه.
– الدالة على التسابق إلى فعل الخيرات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «مَن أصْبَحَ مِنْكُمُ اليومَ صائِمًا؟ قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن تَبِعَ مِنْكُمُ اليومَ جِنازَةً؟ قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن أطْعَمَ مِنكُمُ اليومَ مِسْكِينًا قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، قالَ: فمَن عادَ مِنْكُمُ اليومَ مَرِيضًا قالَ أبو بَكْرٍ: أنا، فقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ما اجْتَمَعْنَ في امْرِئٍ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ» رواه مسلم.
–وعنه قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» رواه مسلم.
– الدالة على الرأفة والرحمة بمن مات وعليه دين؛ عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «أتيَ بجنازةٍ ليصلِّيَ عليها فقالَ صلُّوا علَى صاحبِكم فإنَّ عليهِ ديناً فقالَ أبو قتادةَ: أنا أتَكفَّلُ بِه. قالَ النَّبيُّ ﷺ بالوفاءِ قالَ بالوفاءِ وَكانَ الَّذي عليهِ ثمانيةَ عشرَ أو تسعةَ عشرَ درهماً» رواه ابن ماجه.
– الدالة على صدق الإيمان؛ فعَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَنَّ عَمَّهُ، حَدَّثَهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ، فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ، فَأَسْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَشْيَ وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ، فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ، فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ابْتَاعَهُ، فَنَادَى الْأَعْرَابِيُّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسِ وَإِلَّا بِعْتُهُ، فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ:
أَوْلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا، وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَلَى، قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ، يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيداً، فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: بِمَ تَشْهَدُ؟، فَقَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِرَجُلَيْنِ» رواه أبو داود والنسائى.
فاتقوا الله عباد الله: وقولوا للناس حسنا، وكونوا مبشرين ولا تكونوا منفرين.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لى ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا عباد الله: إن المسلم الذى سمت نفسه وتجردت من الكبر والرياء والتفاخر على الناس وتخلصت من حب الذات يعمل فى صمت لا يبحث عن شهرة ولا ينتظر ثناء من أحد من خلق الله شعاره؛ ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(الأنعام: ٧٩)،
♦ ثالثاً: التجرد وإنكار الذات؛ إن حب الذات والأثرة والأنانية من الغرائز المستعصية في نفس الإنسان، ويحتاح العبد إلى جهاد كبير حتى يطهر نفسه منها؛ قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾(الشمس: ٧-١٠)،
قال الإمام بن القيم: إن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نُصْبَ عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تُقبِّل من الأعمال رُفع من القلب رؤيته، ومن اللسان ذكره.
– ومن روائع ما سجله تاريخنا المجيد فى إنكار الذات وإخلاص العمل لله رب العالمين قصة صاحب النقب؛ فعن الأَصْمَعِي، قال: حَدَّثَنا أبو عَمْرو الصَّفَّار، قال: حاصَر مَسْلَمَةُ حِصْناً، فنَدَب الناسَ إلى نَقْب منه، فما دخله أحد، فجاء رجل من عُرْض الجيش، فدخله، ففتحه الله عليهم، فنادي مَسْلَمَة: أين صاحب النَّقْب؟ فما جاءه أحد، فنادي: إني قد أمرت الآذِن بإدخاله ساعة يأتي، فعَزَمْتُ عليه إلا جاء، فجاء رجل، فقال: اسْتَأذِن لي على الأَمير، فقال له: أنت صاحب النَّقْب؟ قال: أنا أُخْبِرُكم عنه، فأتي مَسْلَمَة، فأَخْبَره عنه، فأَذِن له، فقال له: إن صاحب النَّقْب يأخذ عليكم ثلاثًا:
١- ألا تُسَوِّدُوا اسْمَه في صَحيفة إلى الخَليفة.
٢- ألا تأمروا له بشيء.
٣- لا تسألوه ممن هو؟
قال: فذاك له، قال: أنا هو، فكان مَسْلَمَة لا يُصَلِّى صلاة بعدُ إلا قال: اللهم اجْعَلْنِي مع صاحب النَّقْب.. رواها ابن قُتَيْبة في عُيون الأَخْبار، والدِّيْنَوَرِي في المُجالَسَة، وابن عساكر في تاريخ دمشق.
– وهذا عامر بن قيس رحمه الله؛ لمّا هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض (أي الغنائم قبل أن تقسم) أقبل رجل بحق معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال هو والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه!!
فقالوا: هل أخذت منه شيئًا؟
فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به. فعرفوا أن للرجل شأنًا.
فقالوا: من أنت؟ فقال: ولا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني، ولكن أحمد الله وأرضى بثوابه.
فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بن قيس!! الطبرى فى التاريخ.
عباد الله: إنه المؤسف أن يوجد بينا من يتخذون من (الأنا المذمومة الشيطانية) شعاراً لهم فى هذه الحياة؛ فلا يفتر لسان أحدهم عن القول تفاخراً ورياءً: (أنا فعلت كذا،، أنا أحسن من فلان،، أنا ابن فلان،، أنا لى فضل على فلان،، أنا أعظم الناس…إلخ
وما علم هؤلاء أن هذا من محبطات الأعمال؛ قال تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(آل عمران: ١٨٨)،
وعن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه قال: قالَ أَعْرَابِيٌّ للنبيِّ ﷺ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، والرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، ويُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَن في سَبيلِ اللَّهِ؟ فَقالَ: «مَن قَاتَلَ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ» رواه البخارى.
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن الله يعلم ما فى نفوسكم فاحذروه.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأقم الصلاة.
لتحميل الخطبة pdf اضغط على الرابط أدناه
ana nor wanar alhadad