المدرسية والأسانيد العلمية وأثرها في الحفاظ على هوية الأزهر الشريف

بقلم الدكتور : فارس  أبوحبيب
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف المصرية


على مدار الأشهر الماضية، أولى فضيلة الدكتور ياسر حلمي غياتي، وكيل وزارة الأوقاف بالقليوبية، اهتمامًا بالغًا بالمدرسية والأسانيد والإجازات العلمية، حيث عمل على تنظيم لقاءات دورية للسادة الأئمة الكرام، بغية شرح المنهجية الأزهرية الأصيلة، حتى يكون الإمام والخطيب على بصيرةٍ في دعوته، حاملًا نور العلم الشرعي الصحيح، وملتزمًا بالمنهج الوسطي الأزهري، ليكون بحق داعيةً معاصرًا واعيًا بمتطلبات العصر ومستجداته.

 

وقد لاقت هذه المبادرة المباركة إشادةً واسعةً من الأئمة والدعاة، لما فيها من إحياءٍ للتراث العلمي الأزهري، وترسيخٍ لقواعد العلم الصحيح المستند إلى الأسانيد المتصلة والمنهجية الراسخة. وهذا ما دفعني إلى كتابة هذه الكلمات، تسليطًا للضوء على هذا الموضوع المهم، تحت العنوان التالي:

 المدرسية والأسانيد العلمية وأثرهما في الحفاظ على هوية الأزهر الشريف

فأقول وبالله التوفيق…
يُعد الأزهر الشريف منارةً للعلم والعلماء، وصرحًا إسلاميًا شامخًا حافظ على أصالة العلوم الشرعية منذ أكثر من ألف عام، حتى أصبح مرجعًا علميًا في الفقه والتفسير والحديث والعقيدة وسائر العلوم الإسلامية.

وفي ظل التطورات الحديثة والتحديات الفكرية التي تواجه الأمة، لا يزال الأزهر متمسكًا بمنهجيته الراسخة التي تقوم على النظام المدرسي في التعليم، والاعتماد على الأسانيد العلمية المتصلة في نقل العلوم الشرعية، وهما ركيزتان أساسيتان حافظتا على هوية الأزهر الشريف عبر الأجيال.

وفي هذا المقال، نسلط الضوء على أهمية “المدرسية” و”الأسانيد العلمية” ودورهما في الحفاظ على أصالة التعليم الأزهري، مع ذكر الأدلة من القرآن والسنة وأقوال العلماء في هذا السياق.

أولًا: مفهوم المدرسية في الأزهر الشريف:

🔸 المدرسية في الأزهر الشريف تعني النظام التعليمي القائم على تلقي العلوم الشرعية في حلقات منظمة، حيث يجتمع الطلاب حول شيخ متقن يتلقون منه العلوم بأسلوب السماع والتدرج في الفهم.

– أدلة التلقي المباشر في القرآن والسنة:

📖 قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
– هذه الآية تؤكد على أهمية الرجوع إلى العلماء الراسخين في طلب العلم، وهو ما يتمثل في النظام المدرسي الأزهري الذي يقوم على التلقي المباشر عن الشيوخ.

📖 وفي الحديث، قال النبي ﷺ: “العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” (رواه أبو داود والترمذي).
– وهذا يدل على أن العلم الصحيح يؤخذ بالسند المتصل من العلماء، وليس مجرد قراءة الكتب دون توجيه أهل العلم.


 ملامح المدرسية الأزهرية:

1️⃣ التلقي المباشر عن العلماء: حيث يكون للطالب شيخ معتمد يتلقى عنه العلوم ويستفيد من منهجه وفهمه العميق.
2️⃣ التدرج في الدراسة: يبدأ الطالب بـ المتون الأساسية، ثم ينتقل إلى الشروح والحواشي، ثم إلى الاستدلالات والاستنباطات الفقهية.
3️⃣ التخصص العلمي: يدرس الطالب العلوم الشرعية المتنوعة، ثم يتخصص في مجال معين مثل الفقه أو التفسير أو الحديث.

🔹 أثر هذا النظام: حافظت المدرسية الأزهرية على استمرارية الأزهر كـ منارة علمية ودعوية، تخرَّج فيها كبار العلماء الذين أثروا المكتبة الإسلامية بعلومهم ومؤلفاتهم.
🔹 قال الإمام الشافعي رحمه الله: “لا يُدرك العلم براحة الجسد”، أي أن طلب العلم يحتاج إلى جهد وتدرج، وهو ما يطبقه نظام الأزهر المدرسي.

 ثانيًا: أهمية الأسانيد في التعليم الأزهري:

📖 الأسانيد العلمية تعني سلسلة نقل العلم من شيخ إلى شيخ وصولًا إلى الأئمة المتقدمين، وهي من أهم مظاهر التوثيق العلمي في الأزهر الشريف، لا سيما في علوم الحديث والتفسير والفقه.

 أدلة الاهتمام بالأسانيد في الإسلام:

📖 قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7].
🔹 هذه الآية تدل على وجوب التحقق من صحة الأحاديث والعلوم الشرعية، وهو ما يحققه نظام الأسانيد في الأزهر الشريف.

📖 وقال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”.
🔹 أي أن العلم بلا سند يصبح مجرد آراء شخصية غير موثوقة، بينما يحفظ الإسناد صحة المرويات والمعلومات.

 أهمية الأسانيد في الأزهر الشريف:

1️⃣ توثيق نقل العلوم: التأكد من صحة المرويات من خلال معرفة سلسلة الناقلين.
2️⃣ التحقق من صحة المعلومات: التفريق بين الأقوال الصحيحة والضعيفة وفقًا لسلسلة النقل.
3️⃣ الربط بالسلف الصالح: اتصال الطالب بالعلماء المتقدمين، مما يعزز فهمه لمنهجهم وأفكارهم.
4️⃣ إكساب الطالب الهيبة العلمية: امتلاك الطالب لسند علمي يزيد من مكانته العلمية وثقته في العلم.
🕌 لهذا السبب، تُعد الأسانيد في الأزهر الشريف رمزًا للأصالة العلمية، وأداةً لضمان استمرارية العلم الشرعي الصحيح.

 ثالثًا: مظاهر العناية بالأسانيد في الأزهر الشريف:

 لا يزال الأزهر الشريف يحافظ على تقليد الأسانيد العلمية من خلال عدة مظاهر، منها:

1- الإجازات العلمية: وهي شهادات يمنحها الشيوخ لطلابهم، تثبت تلقيهم العلوم عنهم بسند متصل.

2- دراسة الكتب المسندة: مثل كتب الحديث ذات الأسانيد المتصلة، حيث يتلقى الطلاب الصحيحين والسنن والمسانيد.

3- حلقات الإقراء والإجازة: يعقد العلماء حلق

ات علمية لإقراء الكتب الحديثية والتفسيرية، ومنح الإجازات بالسند المتصل.

 نتيجة لهذه العناية، بقي الأزهر الشريف منارة علمية، يحرص طلابه على تلقي العلم عن شيوخه بإسناد متصل إلى كبار الأئمة.
🔹 قال الإمام مالك رحمه الله: “لا يُؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يُعلن سفهه، وصاحب هوى يدعو إليه، ومن يكذب في حديث الناس وإن لم يُكذب على رسول الله، ورجل له فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث”، مما يدل على أهمية التلقي عن أهل العلم الثقات بسند صحيح.

 رابعًا: أثر المدرسية والأسانيد في الحفاظ على هوية الأزهر الشريف:

– بفضل هذين العنصرين (المدرسية + الأسانيد)، استطاع الأزهر الشريف أن يحافظ على دوره العلمي والدعوي، ويبقى منبعًا للوسطية والاعتدال.

 المدرسية: ضمنت استمرارية التعليم الأزهري المنهجي، ومنعت الانحرافات الفكرية.
 الأسانيد: حفظت أصالة العلوم ونقاءها، وجعلت الأزهر مرجعًا موثوقًا للعالم الإسلامي.

🕌 وبهذا بقي الأزهر مرجعًا موثوقًا في العالم الإسلامي، يدعو إلى الوسطية والاعتدال، ويُخرج علماءً يحملون راية الإسلام بفهمٍ صحيح.

🕌 قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: “إذا اندثر الإسناد، انقطع العلم، وإذا انقطع العلم، شاع الجهل وانتشر الزيف”، مما يوضح خطر الابتعاد عن المنهج الأزهري الأصيل.

 خاتمة:

 المدرسية والأسانيد في الأزهر الشريف ليست مجرد وسيلة تعليمية، بل هي دعامة أساسية لحفظ التراث الإسلامي، وضمان استمرارية العلم الشرعي الصحيح.

 فالمحافظة على هذه التقاليد العلمية واجب لحماية هوية الأزهر، وتخريج علماء يحملون راية الوسطية والعلم الصحيح، بعيدًا عن التطرف والانحراف.

 نسأل الله أن يحفظ الأزهر الشريف وعلماءه، وأن يبقى منارةً للعلم والهداية في العالم أجمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *