الغاية من الصيام


بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد

الدرس السابع عشر : الغاية من الصيام

 

الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا أيها الصائمون: لقد عاش أسلافنا الكرام رضي الله عنهم حقيقة الصيام فجَنَوْا ثِمار صيامهم واستمدوا منه قوة الروح، فكان نهارهم كفاحاً وجهاداً، وكان ليلهم تَهجُّدًا وقرآنًا، وكان شهرهم عبادة وإحسانًا، لقد صامت ألسنتهم عن اللغُو والرَفَث، وصامت آذانهم فلا تَسمع باطلاً، وصامت أعينهم فلا تَنظُر إلى حرام، وصامت قلوبهم فلا تعزِم على خطيئة أو إثم وصامت أيديهم فلا تمتَدُّ بسوء أو أذًى، لقد عاشوا حقيقة الصيام؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ» رواه البخاري.

والحديثُ يُبين الحكمة من مشروعية الصيام، وهي تقوى الله عز وجل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة: ١٨٣)، وتقوى الله تعالى تكونُ باتِّباع شرعه وعبادته وطاعته، بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ولأهمية التقوى فقد أوصى الله عز وجل بها خير عباده؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾(الأحزاب: ١)، وأوصى بها المؤمنين؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾(آل عمران: ١٠٢)، فالتقوى هي لباسٌ الروح والقلب؛ قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ﴾،

قال على بن أبي طالب رضى الله عنه التقوى هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

وقال عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه: التقوى هي أن يطاع الله فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: التقوى هي أن تجعل لسانك رطباً بذكر الله.
والتقوى وصية سيدنا رسول الله ﷺ لأمته؛ فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه: قال: صلى بنا رسول الله ﷺ الصبح، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فقال: «أُوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا» رواه الدارمي وغيره.

وكان من دعاء النبي ﷺ:«اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها».

ومن وصايا الرسول ﷺ لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «اتَّق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تَمْحُها، وخالق الناس بخُلقٍ حسن» رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
وفي دعاء السفر كان يقول ﷺ: «اللهم إنَّا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى»

قال ابن المعتمر:
خلِّ الذنوبَ صغيرها
وكبيرها فهو التُّقى
واصنع كماشٍ فوق أرض
الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرةً
إن الجبال من الحصى

والتقوى سبب تفريح الهموم قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾(الطلاق: ٣)، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسَرُوا ابْنِي وَإِنَّهُمْ يُكَلِّفُونَهُ مِنَ الْفِدَاءِ مَا لَا نُطِيقُ، قَالَ: ابْعَثْ إِلَى ابْنِكَ فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ: فَبَعَثْتُ إِلَيْهِ فَقَالَهَا، فَغَفَلَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ، فَاسْتَاقَ خَمْسِينَ بَعِيرًا مِنْ إِبِلِهِمْ فَقَعَدَ عَلَى بَعِيرٍ مِنْهَا حَتَّى أَتَى بِهَا أَبَاهُ، فأنزل الله الآية

قال الطبري: من يَخفِ الله، فيعمل بما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجاً.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه، ومسروق: يجعل له مخرجاً، هو أن يعلم أنه من قِبَل الله، وأن الله تعالى رازقه، وهو معطيه ومانعه.

وقال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس.

وقال الحسين بن الفضل: ومن يتق الله في أداء الفرائض، يجعل له مخرجاً من العقوبة، ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب.
وقال جعفر بن محمَّد الصادق: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ يعني: يبارك له فيما آتاه.

وقال سهل: ومن يتق الله في اتباع السنة، يجعل له مخرجاً من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب.

وقال أبو سعيد الخرّاز: ومن يتبرأ من حوله وقوته بالرجوع إليه، يجعل له مخرجاً مما كلفه بالمعونة له.

قال ابن الجوزي: والصحيح أن هذا عام، فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجاً من كل ما يضيق عليه. ومن لا يتقي، يقع في كل شدة.
عباد الله: إذا كانت الغاية من الصيام هى، تحقيق التقوى فتعالوا لنتعرف على بعض ثمار التقوى فى الدنيا والأخرة من ذلك:

• المتقون هم أولياء الله؛ قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾(يونس: ٦٢-٦٣)،

• المتقون هم الفائزون؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾(النبأ: ٣١)،

المتقون يكفِّر الله سيئاتهم ويعظم أجورهم؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾(الطلاق: ٥)،

• المتقون هم المفلحون قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(البقرة: ١٨٩)،
• المتقون هم أهل القبول؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾(المائدة:٢٧)،

• المتقون ينتفعون بالموعظة؛ قال تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾(آل عمران: ١٣٨)،

• المتقون يفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾(الأعراف: ٩٦)،
• المتقون يرزقهم الله عز وجل العلمَ والحكمة؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾(الأنفال: ٢٩)،

• يوفق الله عز وجل المتقين إلى المبادرة بالتوبة، فما يقع منهم الذنبُ إلا ويتذكرون قريباً ثم يعودون تائبين نادمين؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾(الأعراف:٢٠١)،

• المتقون ينجيهم ربهم من المحن والبلايا؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾(الطلاق:٢)،

• المتقون هم أهل محبة الله؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾(التوبة:٤)

• المتقون جزاؤهم الجنة؛ قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾(الزمر: ٧٣)، وقال تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾(آل عمران: ١٩٨)،

• والتقوى وقاية من النار؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً﴾(مريم:٧٢)، قال تعالى: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ﴾(الزمر: ٦١)،
ولقد قال أبو حازم لسليمان بن عبد الملك وقد طلب النصيحة: نزه الله وعظمه، وإياك أن يراك حيث نهاك.

وقال حاتم الأصم: لا تكون مراقباً لله إلا إذا أيقنت أن الله يرى أفعالك ويسمع قولك ويعلم ما في صدرك قبل أن يكون على لسانك.

وهذا يجعل العبد فى مراقبة لله تعالى على الدوام، فهو يراقبه في النهار بالصيام، ويراقبه في الليل بالقيام، فيكسب بذلك الإحسان وهو أعلى درجات الدين؛ لأن الإحسان إيمان وإسلام؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾(المجادلة: ٧)،
فحقيقة الصوم تعني ترك جميع المحرمات والآثام، وصوم القلب عن الوساوس والشبهات وصوم السمع والبصر عن الخطايا وصوم اللسان عن الآفات وصوم الفرج والبطن واليد والرجل عن المعاصي والذنوب،

قال عمر رضي الله عنه: ليس الصيام من الطعام والشراب وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو..

فالصيام جنة كجنة القتال أي أن الصيام وقاية

بين العبد وبين المعاصي، فهذا الشهر الكريم فرصة لك أيها المسلم لتزكي نفسك وتخلصها من آثار الآثام والمعاصي، فبعض الناس لم يفهم حقيقة الصوم، يمتنع في نهار رمضان عن الطعام والشراب لكنه لا يتوب عن المعاصي لا يقلع عن الظلم إن كان ظالماً، وإذا كف عن المعاصي في نهار رمضان أفطر على المعاصي في ليل رمضان فنهاره جوع وعطش وليله عكوف على المعاصي.

فالصيام مدرسةٌ يتربى فيها المسلم على طاعة الله، فلا بد أن يتميز المسلم في صيامه بتقوى الله جل وعلا، فيترك ما اعتاده من التقصير في الواجبات، ويترك ما اعتاده من المنكرات ويتأكد على الصائم ترك الذنوب والمعاصي، وإلا لم يكن لصيامه معنى؛

فعنْ أَبي هُرَيرَةَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: «إِذا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحدِكُمْ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صائمٌ» متفقٌ عَلَيْهِ.
قال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
اللهم ارزقنا التقوى واجعلنا من عبادك المتقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً