رمضان طاقة الروح السنوية

بقلم فضيلة الدكتور : رزق ندا
أمام وخطيب بوزارة الأوقاف

 

إن الأذكياء من الناس في هذه الدنيا إذا سمعوا عن مناسبة كسب وانتفاع طاروا إلى انتهازها ، والظفر بغنائمها ، كأن يكون فيها مال كثير ، أو ربح آخر وفير ، بل إنهم لَيستعدون لتلك الفرصة مبكِّرين ، ويعيشون لها قبل أوانها مخطِّطين .

ونحن في الثلث الأخير من شهر شعبان ونسمع ونرى ناسًا قد أعدوا، ولشهر رمضان قد استعدوا ؛ أصحاب التجارات الغذائية والملبسية ، وأصحاب البرامج والمسلسلات وسائر الأعمال الإعلامية، كل قد صارت له خطة رمضانية جاهزة من أجل الربح المالي ، أو النجاح الإعلامي .

إنهم طلاب الآخرة قد استعد أولئك وأبرموا من الخُطط والبرامج الروحية ما يتناسب مع الشهر الكريم .

وخير رمضان إنما لأجلهم شُرِع ، ولغاية سعيهم الصالح فيه قد وضِع .

لماذا نستعد قبل رمضان ؟

نستعد لرمضان ؛ لأنه إجازة الروح السنوية ، ففي قوانين التوظيف في الشركات الدنيوية سُنَّت مادة الإجازة للموظف في كل عام ؛ من أجل إراحة بدنه عدة أيام ، فكذلك الروح فإنها تثقل بالشهوات في أحد عشر شهرًا ، فيأتي رمضان ليريحها قليلًا لتحلِّق في منازل السمو والصفاء .

ونستعد لرمضان ؛ لأنه مصفاة نفسية ، ومحطة زاد إيمانية ، ومدرسة تربوية نموذجية ، ومحفل لطاعات كثيرة العوائد والأجور ، وزمن يتفضل الله فيه على عباده بأفضل مما يتفضل عليهم في سائر الشهور ، فهو شهر النفحات الإلهية الكبرى ، والعطايا الربانية العظمى ، فحريٌّ بنا أن نتعرض لها، ونحرص على الفوز بها .

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ ؛ فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» .

أيها القارئ الكريم . تفصلنا عن رمضان أيام معدودة، ثم يهلُّ هلال اليُمْن والبركات ، وتشرق شمس الفضل والخيرات ، فما أعظم النجاح في الظفر بخيراته ! وأكرم بمن صار من الفائزين بكراماته ! ولبلوغ هذه الغاية الحميدة ، والوصول لتلك اللحظات السعيدة هناك خمس خُطط استراتيجية ، جدير بنا أن تكون خططنا لاستقبال شهر رمضان المبارك .

الخُطة الأولى : الخُطة التمهيدية :

إنه من العظيم حقًّا أيها الأحباب أن يستعد المسلم بالأعمال الصالحة في شعبان استقبالًا لرمضان ؛ كالنافلة بين يدي الفريضة ، ومن تلك الأعمال : قراءة القرآن ، والإكثار من الصيام ، وهذا هو هدي قدوتنا الأمين عليه الصلاة والسلام :
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ” .

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ : ” ذَلِكَ شَهْرٌ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ ”

قال ابن رجب رحمه الله : “وقد قيل : في صوم شعبان معنى آخر : أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان ؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكُلفة ، بل قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته ؛ فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط .

ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ؛ ليحصل التأهب لتلقي رمضان ، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن ..

قال سلمة بن كهيل: ” كان يقال : شهر شعبان شهر القُرَّاء ، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال : هذا شهر القُرَّاء ، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن” .

ومن بنود الخطة التمهيدية : الاستعداد بعملية التنظيف الإيماني ؛ وذلك بعمل التخلية قبل قدوم زمن التحلية، فمن كان مقيمًا على معصية، أو عادة سيئة فليقلع عنها ، وليتب منها؛ حتى تتمكن الأنوار الرمضانية من ملء آفاق النفس الإنسانية بعد طرد جحافل الظلام الشيطانية ؛ فالقلب لن يمتلئ بالنور وهناك مزاحم له من الظلام الكثيف .

ومن بنود الخطة التمهيدية : التزوُّد المعرفي عن شهر رمضان :

فجميل أن يلج المسلم أبواب رمضان وقد عرف أحكامه وآدابه ؛ فيعلم أركان صيامه ومبطلاته ، ورخصه ومستحبَّاته ، وهذا من العلم الذي ينبغي الحرص عليه ، بل منه ما يكون واجبًا على كل مسلم قادر على تحصيله .

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : « طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ » .

الخطة الثانية . خطة المهجورات :

أيها الأكارم ، هناك أمور في رمضان ينبغي أن نهجرها ، وأن نتباعد عن قربها ؛ لعظم ضررها على صيامنا ، وتكديرها صفاء عبادتنا ، ومن تلك الأمور التي يجب هجرها : الذنوب صغيرها وكبيرها .

عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» .

ومن الأمور التي ينبغي هجرها : ما يُعرض في بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل من المسلسلات التي تخدش الأخلاق والحياء ، وتدعو إلى السوء والبذاء .

ومما يُهجر في رمضان : تضييع الأوقات فيما لا يعود على الإنسان بمصلحة مشروعة ، فما أكثر ما تشاهدون من لعب بعض الناس بوقتهم الثمين في رمضان ! إما بالسهر على القيل والقال حتى السحر ، وإما بكثرة الذهاب والمجيء في الشوارع والأسواق من غير هدف .

ومن أعظم ما ينبغي هجره في شهر الصيام: الإسراف في الطعام ، وإطالة زمن المنام .

فهل من العقل لمن عرف الحكمة من شرعية الصيام : أن يجعل رمضان موسمًا لتكثير الأكل وتعذيب المعدة به، وهل من العقل أيضًا لمن يدري نفاسة نهار رمضان أن يقضيه في نوم طويل ، فلا يدرك من نهار الصيام إلا سويعات أو لحظات فقط !

فلنفكر ثم لنقرر.

كم هو عظيم أن يقدر الصائم في رمضان على كبح جماح نفسه، وضبط سلوكها السيئ ؛ كشدة الغضب والعدوان في البيت ، وفي السوق ، وعند قيادة سيارته ، ولا سيما بعد العصر .

قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللهِ : “إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ ، وبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ ، عَنِ الْكَذِبِ ، وَالْمَحَارِمِ ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً ” .

وكم هو دليل على المشاعر الحية ، واحترام الناس: أن يحرص المسلم في رمضان على هجر ما يدعو إلى إيذاء الآخرين ، خاصة في وقت هدوئهم وراحتهم ، فلا يزعجهم بعالي صوته أو مسجله ، أو سيارته أو دراجته النارية ، أو لَعب أطفاله وإطلاقهم الألعاب النارية أو تفجيرهم إياها .

قال الله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58].

عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» .

الخُطة الثالثة فهي : خُطة المشروعات .

إن من علامات تمام الألباب ، وتوفيق المعطي الوهَّاب: أن يكون للمسلم مشروع نافع في حياته، على المدى القريب ، أو على المدى البعيد .
ولما كان رمضان موسم تجارة أخروية رابحة كان ينبغي للقادر أن يكون له مشروع عبادي نافع يحرص عليه، ويصرف وقتًا وجهدًا كبيرين إليه ؛ طلبًا لمرضاة ربه ، وتكثيرًا لحسناته .

فمن كان ذا مال فليكن له مشروع سخاء يستهدف به المحتاجين والفقراء ؛ كأن يصنع وجبات إفطار وسحور يطعم بها الأسر المعوزة خلال شهر رمضان ، أو يعطيهم من المال ما يكفيهم فيه ، أو يكفل مشروع إفطار صائمين ، أو يفطرهم في بيته إذا أحب ذلك .

قال الله تعالى : ﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39] .

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا » .

ومن كان ذا علم فليكن له مشروع خالص في تعليم الناس أمور دينهم ، خصوصًا ما يناسب شهر رمضان ؛ فإن تعليمَ الناسِ الخيرَ من أعظم العبادات .

قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ» .

وقال عليه الصلاة والسلام : « إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَة، وَحَتَّى الْحُوتَ؛ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ » .
ومن كان إعلاميًّا فليجعل له مشروع كلمة طيبة ببرنامج نافع للناس يدلهم به على الخير ، وينفعهم في دينهم أو دنياهم .

وهكذا لو فكر كل منا أن يصنع مشروع خير له ، وعزم على ذلك فإنه سيقدر عليه في حدود إمكاناته وأحواله .

عباد الله ، إن الغاية المنشودة للمؤمن من وراء هذا الاستعداد الرمضاني سامية ، فاحرصوا عليه-رحمكم الله- لعلكم تبلغون درجة التقوى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183] .

ولعلكم تدركون به ليلة القدر، وتنالون مغفرة الرب الكريم .

قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » .

وقال: « مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » .
ولعلكم تظفرون بالعتق من النار ؛ قال عليه الصلاة والسلام : « وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ »

ولعلكم تُجزَون بما اجتهدتم في خير رمضان صلاحَ النفس من فسادها ، وسلوكها في سبيل رشادها ، واكتسابها شحنةً إيمانيةً كافيةً تضيء حياتها بعد رمضان ، ويكون شهرُ الصيام صفحةً جديدة في كتاب الإيمان ، والمنطلقَ السديدَ في درب الحياة القصيرة ، ليبلِّغ صاحبَه سعادةَ الحياةِ الطويلة .

فاستعدوا رحمكم الله . ولا تكسلوا ، وبادروا ولا تسوِّفوا ؛ فإن الأيام لا تبقى على حال ، ولا أمانَ فيها من هجوم الآجال وانغلاقِ سجل الأعمال .

جعلني وإياكم من أهل الجِدِّ والاستعداد ، والسائرين في طريق الرشاد .
وصلى الله على الحبيب المصطفى سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه والتابعين ومن نهج نهجه وسار على هديه إلى يوم الدين .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *