
خطبة الجمعة ٨ شعبان لعام ١٤٤٦هـ. الموافق ٧ من فبراير لعام ٢٠٢٥
إعداد فضيلة الشيخ : أحمد عزت حسن
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
يقول الله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٠].
إن الله تعالى أمرنا بترك الإثم كله سواءً كان ظاهرًا (معاصي اليد واللسان والفرج ونحوها) أو باطنًا (معاصي النفس كالحسد والكِبر والعجب …)، ولا يغني صلاح الظاهر شيئًا إذا خالف ما عليه القلب الذي هو محل نظر الله ”إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى ما كسبت قلوبكم” رواه مسلم
قال الإمام القرطبي في تفسيره: “الظاهر ما كان عملًا بالبدن مما نهى الله عنه.، والإثم الباطن أنواع منه ذنوب السر، ومنه ذنوب القلب بأنواعها من مثل اعتقاد غير الحق أو الهوى في مخالفة الشرع أو الحسد وغير ذلك”.
أي أن المعيار المحكم هو الباطن، وقد جرب السالكون لطريق الدعوة فعرفوا أن أمراض القلوب سلاسل مقيدة وسهام شيطان،
ومن تفحص حال طلقاء الدعوة الذين ليس لهم حظ وافر من التربية الإيمانية العميقة وقف على أشكال وصور لباطن الإثم تغمر حياتنا اليومية كتغليب البغض في الله على الحب، وتحريف معنى الأخوة وحصرها في جهة معينة هي جماعته أو حزبه أو التيار الذي ينتمي إليه فقط، والتعصب للأشخاص والكيانات كالعالم الأوحد الذي لم تر الدنيا مثله!!! والمذهب الحق الذي ليس بعده إلا الباطل،
وكل ذلك نتيجة حتمية لاهمال إصلاح النفس بحجة التفرغ للدعوة والتغيير والنهي عن المنكر والانتصار للقرآن والسنة، وهذا من السبل التي يسلكها الشيطان لإضلال الإنسان إذ قد لا يأتيه من باب المعصية الظاهرة ولكن من باب الترتيب فيشغله بالغير من النفس وبالظاهر من الباطل وبالمختلف فيه عن المتفق عليه وبالمتشابه عن المحكم وبما يفرق عما يجمع شمله ونحو هذا.
وكم ظهر من يقيم الدنيا على السبحة باعتبارها بدعة في حين يتطاير الشّرر من قلبه حقدًا وبغضاءً وكرهًا لمخالف في رأي فقهي بل ولكبار العلماء والدعاة والمصلحين لشبهات طغت عليه ولم يمحصها لقصر نظره وقلة باعه من العلوم الشرعية وأدوات النقاش والجدال، وقد أنساه الشيطان أن هذه الدعوة حب فلا مكان في سلكها لمن تغلي قلوبهم بمراجل البغض انتصارًا لله بزعمهم، وإنما ينتصر المؤمن لله بتعاهد قلبه بالتنقية والتزكية ليكون منطلقًا للرحمة والشفقة والمحبة، والأمر لا يعدو أن يكون من تبليس إبليس الذي يزكي المغرورين بإصلاح ظاهرهم ليقحمهم في المهلكات القلبية التي كثيراً ما يختم لأصحابها بخواتيم السوء.
وكثير من الناس، تخفى عليه كثيرٌ من المعاصي، خصوصًا معاصي القلب؛ كالكبر والعجب والرياء، ونحو ذلك، حتى إنه يكون به كثير منها، وهو لا يحس به ولا يشعر، وهذا من الإعراض عن العلم، وعدم البصيرة.
إن استحضار هذه الآية والعمل بها هو حقيقة التقوى التي أمر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من ترك جميع الذنوب والمعاصي؛ صغيرها وكبيرها، ما يتعلق باللسان أو عمل الجوارح أو عمل القلب أو اعتقاده ونيته.
بعضنا يرى أنه قمة في اﻻلتزام والعلم والعمل والبذل والدعوة على مستوى الفرد والجماعة وهذا سبب الخذﻻن ومن هنا تأتي الهزائم “قل هو من عند أنفسكم”
إن العنصر الأساسي في هذه الدعوة هو الإنسان والعنصر الأساسي في هذا الإنسان هو القلب، ولا تنتصر الدعوة إلا بمن “أتى الله بقلب سليم” وبمن “جاء بقلب منيب”
فصاحب هذا القلب لا تتحرك جوارحه إلا في طاعة الله، وبانسجام ظاهره وباطنه يبارك الله سعيه فيكون قدوةً صالحة تحبب الدين للناس ويكون مهوى أفئدتهم؛ لأن سلاحه الدعوي لا يتعدى الكلمة الطيبة “وقولوا للناس حسنا”
وفعل الخير ”وافعلوا الخير لعلكم تفلحون”
والمناداة للإصلاح “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت“،
فأما من انخرط في زمرة الدعاة وهو غير ملتفت لقلبه المريض يتباهى بترك المباح وهو غارق في الكبائر النفسية كمن يتورع عن البعوض ويبتلع الجمل،
يبصر القشة في عين أخيه، ولا يرى الحول في عينيه!! ولا يعلم أنه قد دارت دوائر الهزيمة على المسلمين في “حنين” بسبب كثرة أمثاله فيها ”ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم من الله شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين”
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان.
أيها الإخوة المؤمنين
* لقد ذم النبي ﷺ الكذبَ وحذر منه ونهى عنه وجعل له العواقب الوخيمة؛ فقد قال النبي ﷺ: “وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا”.
* ولقد كان الكذب من أقبح المنكرات وأبغض الخلق إلى رسول الله ﷺ تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “ما كانَ خُلُقٌ أَبغَضَ إلى رسولِ اللهِ من الكَذِبِ، ولقد كان الرَّجلُ يُحدِثُ عندَ النَّبِيِّ ﷺ الكِذْبَةَ فَمَا يَزَالُ في نَفْسِ النَّبيِّ عليه حتى يَعلمَ أنَّهُ قد أحْدَثَ مِنها تَوبَةً” رواهُ أَحمَدُ وابنُ حِبَّانَ
** وكلما كان الكذاب ذا مكانة كانت عقوبته أشد؛ ففي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي ﷺ: “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر اليهم ولهم عذابٌ أليم ….. وإمام كذاب”
لقد حرص الإسلام على تحري الصدق حتى تناول الشئون المنزلية حتى ينشأ الطفل وهو يُقدّس فضيلة الصدق، وتأمل ما جاء عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ الله -ﷺ- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله -ﷺ-: “وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟” قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله -ﷺ-: “أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ” رواه ابو داود
* وقد يستسهل الإنسان الكذب حينما يمزح ويطلق لنفسه العنان في اختلاق الكذب ليُضحك القوم، أو المزاح أو اختلاق الاعتذار لخطإٍ وقع فيه أو غير ذلك، ولكن الإسلام يطلب منك قول الحقيقة والصدق.
* والتجار الذين يكذبون في بيان سلعهم وعرض ثمنها ، وما أدراك ما يحدث من غشٍ وتدليس وإخفاء للعيوب فعن حَكِيم بْنَ حِزَامٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -ﷺ- قَالَ: “الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا” رواه البخاري
* وتزكية المرشحين للمجالس النيابية والنقابية نوع من الشهادة فمن انتخب الممغوط في كفاءته فقد خان الشهادة
* وعدم احترام المواعيد من خلق المنافقين الكذّابين.
* وقد يقع في الكذب حينما يعتذر عن خطأ ويحاول التخلص من عواقبه، فيكون عذرٌ أقبح من ذنب، فهو هروبٌ من الشر إلى شرٍ منه، كالمستجير من الرمضاء بالنار فالواجب أن يعترف بخطئه.
فعلى المؤمن أن يمتثل لأمر ربه فيذر الاثم البادي للناس والمستتر عنهم كما يذر المخالفات السلوكية والقلبية ليستقيم ظاهره وباطنه فتستقيم حياته كلها فيغفر الله ما بدر منه من زلات وذنوب كلما استغفر وأناب!
كياننا ينهار من الداخل ب “أنا خير منه” أو “أنى يكون له الملك علينا”
أو “ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة” أو “ﻷقتلنك” داء اﻷمم الحسد النابع من النظر إلى النفس والعلو بها. قال تعالى “تلك الدار اﻵخرة نجعلها للذين ﻻ يريدون علوًا في اﻷرض وﻻ فسادًا”