هل هي ثورة سورية؟ أم ثورة وهابية ضد الصوفية؟
24 يناير، 2025
قضايا شرعية

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
في قلب الثورة السورية، التي انطلقت في البداية كأمل شعبي في الحرية والتغيير، تحولت الأمور سريعًا إلى ساحة معركة فكرية ودينية. الثورة، التي كانت قد ظهرت في البداية على أنها نضال ضد الاستبداد والفساد، تعرضت لتشويش جراء تداخل الأيديولوجيات المختلفة، بعضها متناقض، مما حولها إلى مسرح لصراع فكري حاد، وكان أحد هذه الصراعات الهامة هو الصراع بين الوهابية والصوفية. الصراع الذي بلغ ذروته حين أطلق الوهابيون على الصوفيين لقب “مشايخ الرز بحليب”، محاولين من خلاله التقليل من شأنهم وتهميشهم.
الوهابية والصوفية: معركة الأيديولوجيات
لا شك أن الوهابية لم تكن مجرد طائفة دينية، بل هي حركة أيديولوجية شاملة تسعى لإعادة صياغة الهوية الإسلامية على نحو يتناقض مع التاريخ الغني والمتنوع للأمة العربية والإسلامية.
يعتمد الفكر الوهابي على تفسير ضيق ومحدود للإسلام، وهو ما يؤدي إلى إقصاء كل فكر ديني أو ثقافي يخالفه، بما في ذلك الفكر الصوفي الذي يحتل مكانة هامة في تاريخ الإسلام، خصوصًا في العالم العربي. وبدلاً من أن يكون الإسلام مجالًا للتنوع الفكري، سعت الوهابية إلى فرض رؤية دينية متشددة تقصي كل أشكال التعددية.
في المقابل، كان الفكر الصوفي يمثل مرجعية روحية وثقافية قديمة وعميقة في العالم الإسلامي. فقد اهتم الصوفيون بالمفاهيم الروحية والتسامح الديني، مع التركيز على تحسين النفس والبحث عن الخلاص الروحي. وبالرغم من أن الصوفية تتبنى تصوفًا روحيًا عميقًا، فقد كانت أيضًا جزءًا من المقاومة الوطنية ضد الاستبداد والطغيان في مختلف فترات تاريخ سوريا.
“مشايخ الرز بحليب”: السخرية التي تعكس عمق الصراع
وما إن دخلت الوهابية الساحة السورية، حتى بدأت الهجمات ضد الصوفية تتزايد. كان استخدام الوهابية لعنوان “مشايخ الرز بحليب” يشير إلى محاولة لتصغير شأن هؤلاء العلماء الصوفيين.
ولكن وراء هذه السخرية تكمن حالة أيديولوجية عميقة؛ فاللقب لم يكن مجرد سخرية سطحية، بل كان انعكاسًا لفكر متطرف يتعامل مع الآخر بمنطق الإلغاء. إن “مشايخ الرز بحليب” لم يكن فقط تعبيرًا عن الاستهجان تجاه أسلوب الحياة الصوفي، بل كان بمثابة إشارة إلى رفض التنوع الفكري والديني، وهو ما يشير إلى تطرف فكري يتجاهل قيم التسامح والاختلاف التي هي جوهر الإسلام.
كان الهدف من هذه السخرية هو الإشارة إلى أن الصوفيين لم يكونوا “شجعانًا” في مقاومة الظلم على غرار الوهابيين، بل هم “مجرد متساهلين” لا يتبنون النهج “الجهادي” المتشدد الذي يروج له الوهابيون. ولكن ما أغفلته الوهابية في هذا السياق هو التاريخ الطويل للصوفيين في مقاومة الظلم والتصدي للطغاة، وكانوا في صفوف المتصدين للاستبداد السياسي، ولا سيما في السياق السوري.
الصوفية: مقاومة روحانية ضد الاستبداد
من اللافت أن العديد من علماء الصوفية كانوا في طليعة المقاومين ضد الأنظمة القمعية، ومن بينهم شخصيات هامة لم تتوان عن التضحية في سبيل الحرية. على الرغم من التشويه المتكرر لفكرهم، فإن الصوفيين أظهروا مرونة في مواجهتهم للاستبداد، وكانوا حراسًا للهوية الوطنية السورية.
في تلك الفترات التي كانت فيها الصوفية تُستهزأ وتُتهم بالخنوع، كان هؤلاء العلماء يسعون جاهدين للحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي السوري، الذي يشمل جميع الأديان والطوائف دون التفريق بين سني وشيعي أو صوفي ووهابي.
لقد قاوم علماء الصوفية الدكتاتورية عبر الإيمان بالوحدة الوطنية والتسامح، وهو ما كان يشكل تهديدًا حقيقيًا للأيديولوجيات المتطرفة التي تسعى إلى تقسيم الأمة إلى معسكرات متحاربة.
الوهابية: إقصاء ثقافي وديني
كانت الوهابية تسعى إلى فرض سيطرتها على الواقع السوري من خلال استبعاد أي أيديولوجية أو فكر لا يتماشى مع رؤيتها المتشددة. الوهابية لم تكن مجرد دعوة دينية بحتة، بل كانت مشروعًا أيديولوجيًا يهدف إلى محو أي تنوع ثقافي أو ديني. هذا التوجه يهدد التنوع الفكري الذي طالما ميز العالم الإسلامي، حيث كان يُنظر إلى هذا التنوع باعتباره مصدرًا للقوة والتقدم.
الهدف الأساسي للوهابية كان إلغاء التنوع الفكري وإضعاف التعددية الدينية والثقافية داخل المجتمعات الإسلامية. ومع مرور الوقت، أصبح هذا الفكر المتطرف تهديدًا ليس فقط للثورة السورية، بل أيضًا لمجتمعات العالم العربي والإسلامي ككل. وكما نشهد اليوم، فإن تأثير الوهابية في المشهد السوري كان له تبعات كبيرة على صعيد العلاقات بين الطوائف المختلفة، مما أدى إلى تعميق الصراع داخل الثورة السورية.
الحفاظ على الهوية الإسلامية عبر التنوع والتسامح
إن الصراع بين الوهابية والصوفية كان أكثر من مجرد اختلاف في الرؤى الدينية؛ كان صراعًا ثقافيًا وسياسيًا عميقًا يعكس التحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية في الحفاظ على هويتها المتميزة والمتنوعة. ففي حين أن الوهابية كانت تسعى إلى فرض رؤية ضيقة للإسلام، كان الصوفيون يمثلون رفضًا لذلك التوجه، مدافعين عن التسامح والتعددية.
و يمكن القول إن “مشايخ الرز بحليب” لم يكونوا مجرد “ضحايا” لسخرية الوهابية، بل كانوا يمثلون الأمل في إمكانية أن تتسامح الأمة الإسلامية مع التنوع الفكري والديني الذي يميزها. لكن إذا استمر هذا الفكر المتطرف في فرض نفسه، فإن ذلك سيكون تهديدًا لثوابت الأمة الإسلامية التي تقوم على قيم التسامح والاعتدال.
الوهابية: خطر ديني يهدد هوية الأمة
الوهابية ليست مجرد طائفة دينية؛ فهي حركة أيديولوجية تتجاوز حدود المعتقدات الدينية لتسعى إلى إعادة تشكيل الهوية الإسلامية على نحو ضيق ومحدود. من خلال تبني تفسير جامد للإسلام، تحاول الوهابية قطع الصلة بين المسلمين وتراثهم الغني والمتنوع، وتفرض رؤية واحدة تُقصي كافة أشكال التعدد الثقافي والديني التي طالما كانت سمة مميزة للأمة الإسلامية. في سياق الثورة السورية، تحولت الوهابية إلى قوة أيديولوجية تسعى ليس فقط إلى إسقاط النظام، بل أيضًا إلى فرض هيمنتها الفكرية والدينية على المجتمع السوري، في محاولة لفرض نمط واحد من التفكير يتجاهل تنوع الفكر الإسلامي والعربي.
الوهابية: مشروع فكري متشدد
الوهابية، التي أسسها محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر، هي حركة دينية تهدف إلى العودة إلى ما تعتبره “الجوهر النقي” للإسلام، بعيدًا عن الممارسات والطقوس التي تراها مبتدعة. لكن هذه الحركة، التي في ظاهرها تدعو إلى التوحيد وتنقية الدين من البدع، تُظهر في جوهرها موقفًا متشددًا تجاه أي ممارسة دينية أو فكرية لا تتفق مع تفسيرها الضيق للشريعة.
الوهابية تسعى إلى إعادة فرض رؤية ضيقة للإسلام، تتنكر للأبعاد الروحية والتاريخية العميقة التي تميز الفكر الإسلامي. هذا النهج، الذي يعزل الأمة عن تنوعها الثقافي والديني، يعزز النزعات الطائفية والصراعات الداخلية، وهو ما يهدد الوحدة التي تشكل أساس قوة الأمة.
الوهابية لا تقتصر على تحديد مفهوم الدين فقط، بل تسعى إلى إعادة صياغة الهوية الإسلامية من خلال تهميش أو استبعاد أي فكر يتناقض مع رؤيتها. فقد اعتبرت الوهابية العديد من التوجهات الفكرية والدينية جزءًا من البدع التي يجب محاربتها، وفي مقدمتها الفكر الصوفي. هذه الحرب الفكرية، التي اتخذت شكل هجوم على الأبعاد الروحية والدينية المختلفة داخل المجتمع الإسلامي، شملت أيضًا تصغير وتهميش الشخصيات الدينية التي تعتنق هذه الممارسات، وهو ما كان له تأثير كبير على الحركات الفكرية والثقافية في العالم الإسلامي.
التدخل الوهابي في الثورة السورية
عندما اندلعت الثورة السورية، التي كانت في البداية حراكًا شعبيًا ضد الاستبداد، تحولت سريعًا إلى ساحة صراع فكري وأيديولوجي. في هذا السياق، نجد أن الوهابية كانت جزءًا من القوى التي دخلت في الصراع، ليس فقط على مستوى إسقاط النظام، بل أيضًا على مستوى فرض أيديولوجيتها المتشددة على الشعب السوري.
الوهابية، التي كانت تسعى إلى تصعيد الحرب الدينية والطائفية في سوريا، بدأت تشن هجومًا واسعًا على الفكر الصوفي، الذي كان يعتبر جزءًا من الهوية الثقافية والدينية للسوريين. هذا الهجوم الفكري لم يكن محصورًا في محاولة إلغاء الفكر الصوفي فحسب، بل تعداه إلى محاولة تغيير القيم الثقافية والدينية التي كانت تميز المجتمع السوري.
في هذا السياق، ظهر الهجوم الوهابي ضد الفكر الصوفي في صورة سخرية واضحة من علماء الصوفية. وقد تم إطلاق لقب “مشايخ الرز بحليب” عليهم، في محاولة للتقليل من شأنهم والنيل من مكانتهم داخل الحركة الوطنية.
لكن هذا الهجوم لم يكن مجرد سخرية، بل كان يحمل في طياته رسالة أيديولوجية تهدف إلى تكريس فكر متشدد يُقصي كل أنواع التنوع الفكري والديني. الوهابية، من خلال هذا الهجوم، كانت تسعى إلى فرض رؤيتها القاصرة للإسلام، التي لا مكان فيها للتعددية أو الفهم الواسع للإيمان.
الفكر الصوفي: مقاومة الظلم والتطرف
بينما كان الوهابيون يسعون إلى تصفية الفكر الصوفي وتهميشه، كان هؤلاء المشايخ الصوفيون يشكلون جزءًا أساسيًا من المقاومة السورية ضد الظلم والاستبداد. فالفكر الصوفي، الذي يعلي من قيمة التسامح والروحانية، كان بمثابة ركيزة من ركائز النضال الوطني ضد الطغيان، وكان يشجع على الوحدة بين مختلف الطوائف والمذاهب في سوريا. الصوفيون لم يكونوا فقط دعاة للسلام الداخلي، بل كانوا جزءًا من الحركة الوطنية التي سعت إلى مقاومة القمع والاضطهاد الذي مارسه نظام الأسد على مدار عقود.
بخلاف الوهابية التي تؤمن بالقطيعة التامة مع الماضي وتستند إلى تفسير حرفي للنصوص الدينية، كان الفكر الصوفي يؤمن بالمرونة والتسامح، بل كان يرى في التنوع مصدرًا من مصادر القوة.
ففي مواجهة الاستبداد، كان الصوفيون يؤمنون بأن الحفاظ على التنوع الثقافي والديني هو السبيل لتحقيق الوحدة الوطنية والتقدم الاجتماعي. هذه الرؤية المختلفة كانت تشكل تهديدًا حقيقيًا للوهابية، التي ترى في التنوع خطرًا يجب القضاء عليه.
“مشايخ الرز بحليب”: سخرية إيديولوجية
اللقب الذي أطلقته الوهابية على علماء الصوفية، “مشايخ الرز بحليب”، كان في ظاهره مجرد سخرية طفيفة، لكن في جوهره كان يعكس عمق الصراع الفكري بين التوجهين. هذا اللقب لم يكن مجرد إساءة لفظية، بل كان تعبيرًا عن محاولة الوهابية إلغاء التنوع الديني والفكري، وهو ما يعكس فكرًا متطرفًا يعارض بشكل كامل الفهم الواسع والمتسامح للإسلام الذي يمثله الفكر الصوفي.
إن هذا الهجوم لم يكن مقتصرًا على فكرة السخرية فحسب، بل كان يهدف إلى تقزيم الفكر الصوفي والتقليل من شأن العلماء الصوفيين الذين كانوا يشكلون جزءًا من المقاومة الوطنية ضد النظام.
خطر الوهابية على هوية الأمة
إن خطر الوهابية على هوية الأمة لا يقتصر فقط على الجانب الديني، بل يمتد إلى الهوية الثقافية والاجتماعية التي طالما تميزت بها المجتمعات العربية والإسلامية. من خلال سعيها لإعادة بناء الهوية الإسلامية على أسس ضيقة، تتجاهل الوهابية التراث الثقافي الغني والمتنوع للأمة الإسلامية، مما يشكل تهديدًا حقيقيًا للهوية المشتركة التي تجمع بين مختلف الشعوب الإسلامية.
وفي السياق السوري، كان هذا الفكر المتطرف يشكل خطرًا على الوحدة الوطنية، حيث كان يسعى إلى تقسيم المجتمع السوري إلى معسكرات متصارعة على أساس ديني وطائفي، مما يزيد من تعقيد الصراع الداخلي.
في النهاية، لا يمكن النظر إلى الوهابية على أنها مجرد حركة دينية متشددة، بل هي مشروع فكري يتجاوز الحدود الدينية ليهدف إلى تغيير الهوية الإسلامية على نحو يتجاهل التنوع الثقافي والديني. وإذا استمر هذا الفكر في فرض نفسه، فإنه سيهدد ليس فقط هوية الأمة الإسلامية، بل أيضًا مستقبل الوحدة الوطنية في سوريا.
في المقابل، يبقى الفكر الصوفي رمزًا للتسامح والاعتدال، وهو ما يمثل ضمانًا للحفاظ على التنوع الفكري والديني في المجتمعات الإسلامية.
من “مشايخ الرز بحليب” إلى نضال صوفي طويل ضد الظلم
في زمن من الأوقات الصعبة، تتلاقى الأيديولوجيات المختلفة وتتضارب المفاهيم حول من هو “الخير” ومن هو “الشر”، وحينما تشتد الأزمة، يصبح من السهل أن يتم تصوير الطوائف والفئات المختلفة من المجتمع على أنهم “أعداء” يجب استئصالهم.
كان الفكر الوهابي أحد هذه الأيديولوجيات التي حاولت فرض رؤية ضيقة ومحصورة للإسلام، وضمن هذا الهجوم الفكري، جاء هجومهم على الفكر الصوفي، ووصفهم “بمشايخ الرز بحليب” في محاولة للتقليل من شأنهم وتهوين دورهم في الحياة السياسية والدينية.
لكن الحقيقة، التي يتجاهلها هؤلاء المهاجمون، هي أن هؤلاء “المشايخ” الذين استهزأ منهم الوهابيون كانوا في الحقيقة من أبطال المقاومة ضد الظلم على مر العصور، وكانوا أكثر من مجرد دعاة للسلام الروحي؛ كانوا حراسًا للهوية الوطنية السورية وحاملين لرؤية منفتحة عن التعددية والوحدة الوطنية.
مفارقة الهجوم: الوهابية والصوفية
في الوقت الذي كانت فيه الوهابية تروج لرؤيتها المتشددة للإسلام، وتعمل على نشر تفسيراتها الحرفية للنصوص الدينية، كان الصوفيون بعيدين عن التزمت الديني الذي كانت الوهابية تدعو إليه.
في سوريا، كان الصوفيون يشكلون جزءًا أساسيًا من المجتمع الديني والثقافي. في ظل حكم الاستبداد، لم يكن هؤلاء العلماء الصوفيون مجرد دعاة للسلام الروحي؛ بل كانوا أيضًا صوتًا للعدالة الاجتماعية، وكانوا يشكلون جزءًا لا يتجزأ من حركة المقاومة ضد الظلم. ففي وقت كانت فيه الوهابية بعيدة عن الساحة السورية، كان الفكر الصوفي يشهد حركة واسعة من النضال ضد الأنظمة الظالمة.
وإذا نظرنا إلى تاريخ سوريا، نجد أن علماء التصوف كانوا دائمًا في قلب الصراع ضد الاستبداد.
كانت المساجد والزوايا الصوفية مراكز للثوار والمقاومين ضد قوى الاحتلال والتسلط، حيث كانت هذه الأماكن توفر ملاذًا آمنًا للمجاهدين وتستقطبهم للانخراط في العمل الوطني والسياسي. الصوفيون كان لهم دور كبير في الحفاظ على الهوية الوطنية والدينية للمجتمع السوري، بعيدًا عن أي شكل من أشكال الانقسامات المذهبية أو الطائفية. بينما كانت الوهابية تروج لفكر يطالب بالقطيعة مع الممارسات الدينية القديمة، كان الفكر الصوفي يحتفظ بتراث طويل يعكس تنوع الفكر الإسلامي وثراءه.
الصوفية والوحدة الوطنية: مقاومة الظلم والتطرف
الصوفيون كانوا يرون في الوحدة الوطنية والمصالحة بين الأديان والطوائف السبيل الوحيد للوصول إلى الخلاص والعدالة. وقد تجسد هذا الفكر في العديد من المواقف التي وقفت فيها الشخصيات الصوفية ضد الأنظمة الظالمة، سواء في فترة الاحتلال الفرنسي أو في ظل الأنظمة الاستبدادية بعد الاستقلال. كانت فلسفتهم تقوم على التسامح والقبول بالآخر، وهو ما جعلهم يعارضون التطرف الديني أو الطائفي بكل أشكاله.
في ظل الثورة السورية، عندما بدأ الصراع على الساحة، ظهر دور العلماء الصوفيين بشكل بارز.
هؤلاء العلماء لم يكونوا يقتصرون على الحديث عن السلام الداخلي فقط، بل كانوا في طليعة المقاومة ضد الظلم والاستبداد. وكانوا يؤمنون بأن سوريا، من خلال تاريخها الغني والمتنوع، لا يمكن أن تتقدم إلا إذا كانت قادرة على جمع أبناء جميع الطوائف والأديان في بوتقة واحدة من التفاهم والاحترام المتبادل.
كانت هذه الرؤية تتناقض تمامًا مع الأفكار المتطرفة التي كانت تروج لها الوهابية، التي كانت تسعى إلى تدمير أي شكل من أشكال التعددية الفكرية والدينية.
“مشايخ الرز بحليب”: وصمة زائفة
اللقب الذي أطلقته الوهابية على العلماء الصوفيين “مشايخ الرز بحليب” كان يشير إلى محاولة تقزيمهم وإهانتهم، لكنه كان في الحقيقة يحمل في طياته ظلمًا تاريخيًا. فهذا الوصف لم يكن مجرد سخرية من التصوف، بل كان محاولة لطمس دور هؤلاء العلماء في النضال الوطني وفي مقاومتهم للظلم. هؤلاء “المشايخ” كانوا في الواقع رمزًا للعدالة والتسامح، وقد قدموا تضحيات كبيرة في سبيل وطنهم. فماذا يعني أن نصف أولئك الذين وقفوا ضد الطغاة على مر العصور بأنهم مجرد “مشايخ رز بحليب”؟
عندما نعود إلى التاريخ، نجد أن هؤلاء العلماء الصوفيين كانوا حاضرين في كل المعارك التي خاضها الشعب السوري ضد الاحتلال الفرنسي، ضد الاستبداد المحلي، وضد كل أشكال القمع.
كانوا يُنظمون التظاهرات والاحتجاجات، ويُعلمون الأجيال القادمة كيفية التمسك بالعدالة، ويشجعون على الوحدة الوطنية في وجه محاولات التفريق الطائفي والمذهبي.
الصوفيون كحراس للهوية الوطنية السورية
ليس من المبالغة القول إن العلماء الصوفيين كانوا في قلب النضال الوطني في سوريا. فإلى جانب دورهم الديني، كانوا يشكلون حصنًا ثقافيًا ضد محاولات التلاعب بالهوية الوطنية السورية.
كانت الزوايا الصوفية مدارس للتعليم الوطني، ورموزًا للقيم الإنسانية مثل العدل والمساواة.
كان لهم دور كبير في ترسيخ فكرة أن سوريا هي وطن لجميع أبنائها بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو المذهبية.
وفي الوقت الذي كانت فيه القوى الوهابية تسعى إلى تقسيم المجتمع السوري، كان الصوفيون يعززون الوحدة ويزرعون قيم التعايش بين جميع مكونات الشعب السوري.
كانوا يدركون أن التنوع الديني والثقافي هو أساس قوة الأمة، وأن الوحدة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا بالاعتراف بهذا التنوع والاحترام المتبادل بين جميع الأديان والطوائف.
إن نظرة الوهابية إلى “مشايخ الرز بحليب” تبرز الجهل بتاريخ هؤلاء العلماء، الذين قدموا تضحيات عظيمة من أجل وطنهم ورفضوا أن يقفوا في صفوف الظلم والاستبداد.
بينما كانت الوهابية تحاول فرض فكر ضيق ويدعو إلى القطيعة مع الماضي، كان الصوفيون يحملون في داخلهم رسالة الوحدة والمصالحة، وقد ظلوا طوال التاريخ حراسًا حقيقيين للهوية الوطنية السورية. في النهاية، كان الفكر الصوفي هو الترياق الفعّال ضد النزعات الطائفية والتطرف الديني، وهو ما جعله جزءًا لا يتجزأ من تاريخ النضال السوري ضد الظلم.
الوهابية والصوفية: صراع بلا حدود ولا رؤية
إن الصراع بين الوهابية والصوفية ليس مجرد نزاع ديني عابر، بل هو في عمقه صراع ثقافي وسياسي يعكس تحولات كبرى في المجتمعات الإسلامية، خصوصًا في السياقات السياسية والاجتماعية التي تشهدها المنطقة العربية في العصر الحديث.
هذا الصراع ليس وليد اللحظة، بل هو صراع له جذور عميقة تنبع من الفروق الأيديولوجية بين رؤيتين مختلفتين للإسلام. على الرغم من أن هذه الرؤى قد تبدو دينية في ظاهرها، إلا أن واقع الحال يكشف أن الصراع بين الوهابية والصوفية يعكس صراعًا ثقافيًا وجيوسياسيًا أكبر، يكاد يلامس كل تفاصيل الحياة في المجتمعات العربية والإسلامية. هذا الصراع قد يشير إلى حرب على التنوع الثقافي والديني الذي لطالما كان سمة بارزة للأمة الإسلامية، وصراع على هوية الأمة وملامحها المستقبلية.
الوهابية: أيديولوجية الإلغاء والتوحيد المفرط
لطالما كانت الوهابية، منذ نشأتها في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب، تسعى إلى فرض تفسير ضيق ومحدد للإسلام، يرتكز على الالتزام الحرفي بالنصوص الدينية ورفض أي تجديد أو تعددية دينية وفكرية. هذه الأيديولوجية التوحيدية المتشددة لا تعترف بأي شكل من أشكال التنوع، سواء كان ذلك في الفكر أو في التعبير عن المعتقدات.
وفي السياق السياسي الراهن، نجد أن الوهابية في محاولتها فرض نفسها على الساحة السورية كانت تهدف إلى خلق مجتمع إسلامي موحد وفقًا لفهمها الضيق للشريعة، دون اعتبار للتعدد الطائفي والديني الذي يشكل جزءًا أساسيًا من التركيبة الاجتماعية في سوريا.
في هذا السياق، كانت الوهابية تسعى إلى إلغاء أي شكل من أشكال التفكير أو الممارسة الدينية التي لا تتماشى مع رؤيتها الأيديولوجية. من هنا، كان الهجوم على الفكر الصوفي أحد أبرز تجليات هذا التوجه، حيث اعتبرت الوهابية أن التصوف يشكل تهديدًا لتوحيد الأمة تحت راية أيديولوجيتها المتشددة.
فقد اعتبرت أن الصوفية تمثل انحرافًا عن المعتقدات الصحيحة التي تروج لها، وحاولت في كثير من الأحيان إلغاء دورها، بل وإنكار وجودها داخل المجتمعات الإسلامية.
الصوفية: أيديولوجية التنوع والحفاظ على الهوية
على النقيض من الوهابية، يعتبر التصوف عنصرًا رئيسيًا في الحفاظ على التنوع الفكري والديني في المجتمعات الإسلامية. فالصوفية، بعكس الأيديولوجيات المتشددة، تؤمن بأن الإسلام ليس مجرد دين قائم على العبادة الصارمة، بل هو طريقة للحياة تجمع بين العقل والروح، وتمجد التسامح والعدالة.
وعليه، فإن الفكر الصوفي يشكل جسرًا بين مختلف الطوائف الإسلامية، بل وحتى بين الأديان الأخرى.
عند النظر إلى التاريخ السوري، نجد أن التصوف كان أحد ألوان التنوع الثقافي والديني الذي طبع المجتمع السوري لقرون عديدة. فعلى الرغم من التحديات السياسية والدينية التي مرت بها سوريا، كانت الزوايا الصوفية وطرقها حاضنة للأجيال الجديدة التي نشأت على قيم التسامح والمصالحة والوحدة الوطنية.
في مواجهة الاستبداد، كان العلماء الصوفيون يعتبرون أنفسهم حراسًا للقيم الإنسانية، وليس فقط حراسًا للشعائر الدينية.
وكانوا يرفضون أي شكل من أشكال القهر أو التمييز، ويسعون دائمًا إلى تكريس مفهوم العدالة الاجتماعية وحماية الحقوق.
الوهابية والصوفية: الحرب على التنوع الثقافي والديني
إن الصراع بين الوهابية والصوفية لم يكن صراعًا على التفوق الديني فحسب، بل كان أيضًا صراعًا على الحفاظ على التنوع الثقافي والديني الذي لطالما كان سمة بارزة في المجتمعات الإسلامية، خصوصًا في سوريا. من خلال محاولات الوهابية فرض هيمنتها الفكرية، نجد أن هذا التيار كان يسعى إلى إلغاء التنوع الذي يميز الأمة الإسلامية.
الوهابية كانت ترى في هذا التنوع تهديدًا لرؤيتها المتشددة التي تدعو إلى فرض نمط واحد من العبادة والفكر على الجميع.
من جانب آخر، كانت الصوفية تسعى إلى حماية هذا التنوع والاحتفاء به، معتبرة أن الإسلام ليس هوية واحدة متجانسة، بل هو مجموعة من الرؤى والتجارب التي يجب أن تتعايش وتتكامل.
كان التصوف يحافظ على الفروق بين الناس ويؤمن أن الاختلافات هي ما يجعل المجتمعات الإسلامية غنية. كما أن الفكر الصوفي كان يعزز الوحدة الوطنية، ويشجع على احترام الآخر والتعايش السلمي بين مختلف الطوائف والأديان.
الوهابية والصوفية في الثورة السورية: صراع على الهوية
مع اندلاع الثورة السورية، أصبح هذا الصراع بين الوهابية والصوفية أكثر وضوحًا. ففي حين كانت القوى الوهابية تسعى إلى فرض رؤيتها المتشددة على الشعب السوري، كانت الشخصيات الصوفية والعديد من المفكرين الدينيين المعتدلين يسعون إلى تبني رؤى أكثر شمولية تجمع بين أبناء الشعب السوري مهما كانت طوائفهم أو أديانهم.
كان الهدف الأساسي للصوفيين هو تجنب الانقسامات الطائفية والمذهبية التي قد تفجر المجتمع السوري في الوقت الذي كانت فيه البلاد تواجه حربًا طاحنة ضد الاستبداد.
لكن هذا الصراع لم يقتصر فقط على الخلافات الدينية. فقد تحول إلى صراع ثقافي وجيوسياسي حول مستقبل سوريا وهويتها. هل ستكون سوريا دولة موحدة تضم كافة أطياف شعبها، أم أنها ستكون ساحة صراع مفتوحة بين مختلف القوى الإقليمية والدولية التي تسعى للهيمنة؟ كان هذا السؤال يشكل جزءًا من النقاشات الكبرى التي كانت تدور في أوساط المعارضة السورية، وكان لكل طرف من الأطراف المتصارعة رؤيته الخاصة حول كيفية تحقيق هذا الهدف.
الصراع الذي لا ينتهي
يبدو أن الصراع بين الوهابية والصوفية هو صراع لا نهاية له، حيث يتجدد في كل مرحلة من مراحل التاريخ، ويأخذ أشكالًا مختلفة بناءً على التحولات السياسية والثقافية التي تشهدها المنطقة. إلا أن هذا الصراع لا ينبغي أن يكون معركة بين التيارات الدينية فقط، بل هو صراع على هوية الأمة ومستقبلها. في هذا السياق، يجب أن نتساءل: هل ستظل الأمة الإسلامية حبيسة هذه الأيديولوجيات المتناقضة التي تحاول فرض رؤية واحدة على الجميع، أم ستتمكن من الانفتاح على التنوع والاحتفاء به باعتباره جزءًا من قوتها؟
في النهاية، قد يكون الحل في إعادة النظر في جذور هذا الصراع، وفهم أن الوحدة الوطنية والإسلامية لا تأتي من فرض أيديولوجية واحدة، بل من قبول الآخر والتعايش السلمي بين كافة أطياف الأمة.
“مشايخ الرز بحليب”: سخرية عميقة في مواجهة التنوع
في عالم يسوده الصراع على الهويات والأيديولوجيات، يظهر التساؤل عن كيفية تأثير السخرية والتقليل من شأن الآخرين في تشكيل الديناميكيات الثقافية والسياسية. إن لقب “مشايخ الرز بحليب” الذي أطلقته الوهابية على العلماء الصوفيين في سوريا لا يمثل مجرد سخرية عابرة أو تهكمًا عاديًا، بل هو انعكاس لظاهرة فكرية عميقة تسعى إلى إلغاء التنوع الثقافي والديني الذي لطالما شكل أحد معالم المجتمع السوري. وهذا الهجوم لا يعكس فقط تجاهلًا لتراث العلماء الصوفيين، بل هو محاولة موجهة لإقصاء فكرهم المتسامح والمعتدل لصالح رؤية أحادية ضيقة تسعى للهيمنة.
سخرية “مشايخ الرز بحليب” بين التهميش والإلغاء
عندما أطلق “غلمان الوهابية” لقب “مشايخ الرز بحليب” على العلماء الصوفيين في سوريا، لم يكن هذا الهجوم عابرًا أو مجرد تهكم غير مؤثر. بل كان تعبيرًا عن استراتيجية أيديولوجية تهدف إلى تحقير هؤلاء العلماء، الذين قدموا تاريخًا طويلًا من المقاومة للظلم والدفاع عن قيم التسامح والوحدة الوطنية. فالصوفيون، عبر عصور من النضال الروحي والسياسي، لم يقتصر دورهم على نشر التصوف كطريقة للعبادة، بل كانوا حراسًا للهوية الوطنية السورية في مواجهة الاستبداد.
كانوا في طليعة المدافعين عن الحق والعدالة، ويسعون دائمًا إلى تعزيز القيم الإنسانية التي تجمع أبناء الوطن، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الطائفية.
لكن في المقابل، كانت الوهابية تعمل على تقديم هؤلاء العلماء الصوفيين في صورة مشوهة.
فبدلاً من أن يقروا بمساهمتهم في النضال الوطني ضد الظلم، قرروا اختزالهم في صورة “مشايخ الرز بحليب”، في إشارة إلى سلوكهم الذي اعتبروه بعيدًا عن فهمهم الضيق للإسلام. من خلال هذه السخرية، كان هدف الوهابية ليس فقط التقليل من شأن العلماء الصوفيين، بل أيضًا التأكيد على تفرّدهم في تعريف الإسلام الذي لا يقبل أية إضافة أو تنوع.
الإقصاء الفكري والتقليل من شأن الآخر
لقد كان لقب “مشايخ الرز بحليب” مجرد وجه من وجوه الإقصاء الفكري الذي تمارسه الوهابية ضد كل فكر يختلف عن تصورهم الضيق للإسلام. لم يكن الأمر متعلقًا فقط بالتقليل من شأن العلماء الصوفيين، بل كان محاولة لإلغاء كل محاولة للتنوع في فهم الدين، وتقديم صورة واحدة عن الإسلام لا تقبل أي رؤية أخرى.
فالفكر الوهابي، الذي يعتمد على قراءة نصوصية حصرية للإسلام، لا يرى في التنوع إلا تهديدًا لهيمنته.
وهذه الأيديولوجية الضيقة لا تعترف إلا بصوت واحد، هو صوتها، في حين يتم تجاهل كل من يعارضها أو يقدم تصورات أخرى.
في هذا السياق، يعتبر الوهابيون أن كل من يختلف معهم في الرأي هو “مبتدع” أو “ضال”، ويجب محاربته سواء فكريًا أو اجتماعيًا.
الصوفيون: حراس التنوع والوحدة الوطنية
من جانب آخر، كان العلماء الصوفيون في سوريا يمثلون رمزًا حقيقيًا للتنوع الديني والثقافي، وقيم الوحدة الوطنية. فمنذ العصور الإسلامية الأولى، كان التصوف يمثل وسيلة لتقريب قلوب الناس من جميع الطوائف والمذاهب. ورغم أن الصوفيين كانوا دائمًا في صدارة العمل الروحي، إلا أنهم لم يتوقفوا عن النضال ضد الظلم والاستبداد، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي.
لقد أظهر العلماء الصوفيون عبر التاريخ قدرتهم على مقاومة القوى الظالمة، وكانوا يسعون دائمًا إلى تعزيز الوحدة الوطنية، حتى في أكثر الأوقات صعوبة. على عكس الوهابية التي كانت تهدف إلى تفكيك المجتمع السوري بناءً على الانقسامات الطائفية، كان الصوفيون يزرعون في نفوس الشعب السوري فكرة الوحدة والتسامح بين جميع الطوائف والأديان.
وفي وقت الحرب والصراع الداخلي الذي شهدته سوريا، كان دور الصوفيين في الحفاظ على التماسك الاجتماعي وتعزيز الوحدة الوطنية أمرًا بالغ الأهمية. فقد اعتبرت الزوايا الصوفية منارات للتعايش السلمي في وجه الطائفية، حيث كان الصوفيون يروجون لقيم العدالة والرحمة والاحترام المتبادل بين أبناء الوطن.
سخرية الوهابية: قراءة أيديولوجية ضيقة
إن سخرية “مشايخ الرز بحليب” لا تمثل فقط هجومًا على شخصية العلماء الصوفيين، بل هي جزء من استراتيجية أيديولوجية تهدف إلى فرض تصورات ضيقة للإسلام تُقَيّد العقل وتمنع التنوع.
الوهابية في موقفها هذا لم تفهم أن الإسلام، بتراثه العميق والمتنوع، كان دائمًا دينًا يعترف بالتعدد والتنوع في ممارساته وتفسيراته.
من خلال هذه السخرية، كانت الوهابية تحاول أن ترسم حدودًا صارمة بين من هم “مؤمنون حقيقيون” ومن هم “مبتدعة”، لكن هذا التصور لا يعكس حقيقة الإسلام التي تقوم على التسامح واحترام الآخرين. وكان الصوفيون، بفضل تاريخهم الطويل في مقاومة الظلم، يشكلون نموذجًا للإسلام الذي يحتفل بالتنوع ويحترم الاختلافات بين الناس.
رفض السخرية والتمسك بالتنوع
في النهاية، يجب على المجتمع السوري والإسلامي أن يعي أن هذه السخرية المستمرة من العلماء الصوفيين لا تعكس حقيقة الإسلام ولا تعبر عن قيمه الحقيقية. بل هي مجرد محاولة من بعض التيارات المتشددة للتقليل من شأن الذين يرفضون أن يعيشوا في ظلال الأيديولوجيات الضيقة. إن التاريخ السوري، الذي يمتد لقرون من التنوع الثقافي والديني، هو خير شاهد على أن التنوع هو جزء من هوية الأمة ولا يمكن أن يتم تجاهله أو إقصاؤه.
يجب أن نرفض هذه السخرية وأن نتمسك بتقاليدنا الدينية والثقافية التي تحتفل بالتنوع وتؤمن بالعدالة والمساواة.
كما يجب أن نعمل معًا على الحفاظ على الوحدة الوطنية والتسامح بين جميع أبناء الوطن، مهما كانت انتماءاتهم الدينية أو الطائفية، لأنه في التنوع يكمن سر قوتنا وثراءنا.
الشيخ محمود الحوت: مظلومية العزلة والاتهام
في ظل الظروف المعقدة التي عاشها المجتمع السوري أثناء الثورة، كان هناك العديد من الشخصيات الدينية التي واجهت صراعًا داخليًا مريرًا بين الحفاظ على مواقفها الثابتة في الدفاع عن القيم الإسلامية والإنسانية، وبين التحديات السياسية والطائفية التي كانت تزداد تعقيدًا مع مرور الوقت. من بين هذه الشخصيات، يظهر الشيخ محمود الحوت، الذي رغم بقاءه في دائرة الضوء قليلًا مقارنة ببعض الشخصيات الأخرى، إلا أن موقفه كان محطّ جدل، ووجد نفسه ضحية هجوم غير عادل من جانب بعض الأطراف المتشددة، الذين لم يدركوا عمق مواقفه السامية.
الشيخ محمود الحوت: عالم مخلص وصوت للعدالة
الشيخ محمود الحوت، رحمه الله، كان من أبرز العلماء الذين حملوا لواء الدفاع عن القيم الإنسانية والإسلامية العميقة التي تحث على العدالة، التسامح، والوحدة بين أفراد المجتمع. لم يكن الشيخ الحوت من النوع الذي يندمج في الصراعات الطائفية أو السياسية، بل كان دائمًا يركز على الدعوة إلى التسامح بين الطوائف والأديان في سوريا.
كان يرفض أي محاولة لتقسيم المجتمع على أسس طائفية أو أيديولوجية ضيقة، مؤمنًا بأن الإسلام هو دين الرحمة والمساواة بين البشر، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو المذهبية.
وقد كان له دور بارز في توجيه الشباب السوري إلى مفاهيم الوحدة الوطنية، بعيدًا عن التفريق والتمييز الطائفي. ولهذا السبب، كان الشيخ الحوت يمثل مصدر إلهام للكثير من الأشخاص الذين كانوا يتوقون إلى العودة إلى القيم الأصيلة للإسلام، تلك القيم التي تدعو إلى العيش بسلام وتفاهم مع الآخرين.
مواقف الشيخ الحوت ضد النظام وتحديات الثورة
مع بداية الثورة السورية، كان الشيخ محمود الحوت من العلماء الذين لم يلتزموا الصمت حيال ظلم النظام السوري. لقد اختار أن يكون صوتًا للمظلومين، خاصة في مواجهة السياسات القمعية التي كان يمارسها النظام ضد الشعب السوري. وكان يرى أن من واجبه كعالم وداعية إسلامي أن يقف ضد الظلم، ويحث الناس على رفض الاستبداد.
لكن مع تصاعد الأحداث في البلاد، وارتفاع وتيرة الصراع الدامي بين مختلف الأطراف، وجد الشيخ الحوت نفسه أمام معركة جديدة.
فبينما كان من المعروف عنه رفضه لأي تدخلات طائفية أو سياسية في الصراع، كانت أطراف مختلفة تحاول استغلاله لمصالحها، سواء كانت هذه الأطراف تمثل النظام أو القوى الثورية المتطرفة. فكان الشيخ الحوت يحرص على تجنب الانجرار وراء تلك الاستغلالات، وفضل أن يظل بعيدًا عن الفتنة، رغم أنه كان يدرك تمامًا حجم الظلم الذي يعيشه الشعب السوري.
الصمت كحكمة أم خيانة؟ تساؤلات وتحديات
في بداية الثورة، اختار الشيخ محمود الحوت الصمت السياسي، وهو خيار كان في نظر البعض حكمة استراتيجية تهدف إلى حماية نفسه ومريديه من خطر الانزلاق في صراع دموي مفتوح.
ففي زمن كان فيه الخلاف بين الأطراف على أشده، كان الصمت بمثابة حماية للسلامة الشخصية ولحماية المجتمع من المزيد من الدماء.
ولكن، وعلى الرغم من حكمة هذا القرار، فإن البعض، خاصة من داخل الأوساط المتشددة، فسروا صمت الشيخ الحوت على أنه ضعف أو حتى خيانة. هؤلاء لم يدركوا أن الشيخ كان يعي تمامًا المخاطر التي يمكن أن تنتج عن أي موقف علني في ظل الظروف المتأزمة التي كانت تمر بها البلاد. الصمت هنا كان ليس خوفًا، بل كان استجابة لواقعية الوضع، فالمشاركة في الصراع كانت قد تؤدي إلى إضعاف قدرة المجتمع على التوحد ضد الظلم.
اتهامات الوهابية: محاولة تشويه
أحد أبرز الهجمات التي تعرض لها الشيخ محمود الحوت جاءت من جانب بعض التيارات الوهابية، الذين حاولوا استغلاله في معركة طائفية. هذه التيارات التي كانت تتبنى أيديولوجية ضيقة، حاولت بشكل دائم أن تزرع الخلاف بين المسلمين في سوريا، محاولين استغلال الأحداث لمصلحة مصالحهم الخاصة. وكان الشيخ الحوت، بنهجه المعتدل الذي لا يرضى بالصراعات الطائفية، هدفًا لهذه الحملة الهجومية.
أطلق هؤلاء المتطرفون الكثير من الاتهامات على الشيخ، بما في ذلك التشكيك في نواياه واتهامه بالتماهي مع النظام.
هذا الهجوم لم يكن نتيجة لمواقف الشيخ الحوت الفعلية، بل كان محاولات لتشويه صورته في أذهان العامة، باستخدام حجج كاذبة ومضللة، تسعى لتقليل من مكانته في الوعي الجمعي.
تصحيح الصورة: الشيخ الحوت في ذاكرة التاريخ
إن الحملة ضد الشيخ محمود الحوت لا تعدو أن تكون محاولة لتشويه صورة عالم جليل، سعى إلى حماية قيم الإسلام الأصيلة في زمن كانت فيه البلاد غارقة في دوامة من الصراعات والتطرف.
ورغم حملات التشويه التي تعرض لها، فإن مواقف الشيخ الحوت الثابتة تظل حية في ذاكرة السوريين الذين شهدوا فكره المعتدل وعلمه الغزير، الذي لطالما سعى إلى توجيه الناس نحو الخير والتسامح، بعيدًا عن التشدد والصراعات العبثية.
إن التهم التي وُجهت إلى الشيخ الحوت، سواء كانت من قبل الوهابية أو من أطراف أخرى، لا يمكن أن تمحو تاريخه الطيب ومواقفه الإنسانية، بل ستظل راسخة في الأذهان كدليل على أن العلماء الحقيقيين لا يخشون الاتهامات، بل يواصلون مسيرتهم في سبيل الحق والعدالة.
الوهابية: خطر أكبر من الصراع السوري
تعتبر الوهابية، بحكم أيديولوجيتها الضيقة والمفرطة، أكثر من مجرد طائفة دينية أو حركة فكرية متشددة. إن خطر الوهابية يتجاوز الصراع السوري الراهن إلى تهديدات جسيمة تمس الهوية الثقافية والدينية للأمة الإسلامية ككل. من خلال تبني تفسير جامد للإسلام، تسعى الوهابية إلى محو أي تنوع فكري أو ديني داخل المجتمعات العربية والإسلامية، مما يجعلها تهديدًا ليس فقط على حاضر الأمة، بل أيضًا على مستقبلها. قد يبدو الصراع ضد الوهابية وكأنه جزء من أزمة سورية خاصة، لكن في الحقيقة هو معركة أوسع نطاقًا تهدد بقاء التعددية الفكرية والدينية التي طالما تميزت بها الأمة الإسلامية.
الوهابية: تفسيرات ضيقة تهدد التنوع
من أبرز السمات التي تميز الوهابية هو سعيها لإعادة تفسير الإسلام وفقًا لرؤية ضيقة لا تقبل أي تفاوت في الفهم أو الرؤية الدينية. فقد قدمت الوهابية نفسها باعتبارها الحامل الوحيد للإسلام الصحيح، متجاهلة بذلك القرون الطويلة من الفهم العميق والمتنوع للتعاليم الإسلامية.
هذا التفسير السطحي للإسلام الذي ينطلق من رؤية أحادية، يقف ضد التنوع المذهبي والتاريخي الذي شكل الشخصية الإسلامية والعربية عبر العصور.
لقد شكلت الوهابية تهديدًا على هذه التنوعات التي أثرت في الأمة الإسلامية، بدءًا من علمائها وفكرها وصولًا إلى ممارساتها الدينية. فالمجتمعات العربية والإسلامية شهدت على مر التاريخ تنوعًا ثقافيًا وفكريًا، وكان هذا التنوع يشمل تقاليد دينية مختلفة، ممارسات روحية، ومدارس فكرية متعددة. لكن هذا التوجه الوهابي يهدد بمحو هذه الجماليات الفكرية والدينية لصالح تفسير واحد ومتحجر، مما يؤدي إلى تجريد الأمة من ثروتها الثقافية والدينية.
الوهابية وتحدي الهوية الثقافية والدينية
عندما تتبنى الوهابية تفسيرًا ضيقًا للإسلام، فإنها لا تقتصر على تقويض المسائل الدينية فحسب، بل تؤثر أيضًا في الهوية الثقافية للأمة. يتجاهل هذا التوجه التنوع الثقافي الذي شهدته المجتمعات الإسلامية منذ نشأتها، ويقلل من قيمة الأفكار والفنون والآداب التي أنتجتها هذه المجتمعات. على سبيل المثال، لا تتسامح الوهابية مع الكثير من الممارسات الروحية التي تنتمي إلى التقليد الصوفي، التي تعد جزءًا من الذاكرة الثقافية والإيمانية لكثير من الشعوب الإسلامية. وفي هذا السياق، يسعى الوهابيون إلى فرض رؤيتهم المتشددة على المجتمعات العربية، مما يعمق الانقسام بين مختلف الطوائف الإسلامية.
وفي حال لم يتم التصدي لهذا الفكر المتشدد، فإننا قد نجد أنفسنا في المستقبل في صراع دائم على الهوية، ليس فقط في سياق الثورة السورية، بل في مختلف البلدان العربية والإسلامية. هذه المعركة على الهوية ستكون معركة غير متكافئة، حيث ستتواجه القوى التقليدية، التي تحمل تراكمات ثقافية ودينية غنية، مع تيارات فكرية متطرفة تسعى لفرض تفسير واحد للإسلام يناقض التنوع العميق الذي يميز الأمة الإسلامية.
الحرب الفكرية ضد الصوفية: معركة تتجاوز الصراع السوري
يمكن القول إن الصراع الذي خاضته الوهابية ضد الفكر الصوفي ليس مجرد معركة ضد توجه فكري معين، بل هو جزء من معركة أيديولوجية أكبر تهدف إلى محو جزء كبير من التاريخ الثقافي والديني في المنطقة. إذا نظرنا إلى الحرب الفكرية التي شنها الوهابيون ضد الصوفيين، فإننا نرى أن هذه الحرب تجاوزت مجرد نقد مذهبي إلى محاولة لتشويه التاريخ الإسلامي وتصفية التراث الروحي الذي شكل جزءًا من هوية الأمة على مر العصور.
على الرغم من أن الوهابية قد نجحت في نشر فكرها المتطرف في بعض المناطق، إلا أن المقاومة ضد هذا الفكر كانت ولا تزال حاضرة، سواء في شكل محاضرات دينية، أو عبر الكتابات الأدبية والفكرية.
وبينما تواصل الوهابية حملاتها ضد الصوفية في سورية، نجد أن الصوفيين كانوا جزءًا أساسيًا من المقاومة ضد الظلم والاستبداد. وهذه الظاهرة تؤكد أن الوهابية لا تقتصر على كونه تهديدًا للصوفية فقط، بل هي تهديد لكل من يحاول الحفاظ على التعددية الثقافية والفكرية في مجتمعاتنا.
الوهابية: تهديد للسلام الاجتماعي والوحدة الوطنية
إن خطر الوهابية لا يقتصر على الجانب الديني أو الفكري فقط، بل يمتد إلى التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية بين شعوب المنطقة.
في حين كان الصوفيون يدافعون عن قيم التسامح والتعايش السلمي بين جميع الطوائف والأديان، كان الوهابيون يروجون لفكر متشدد يعتمد على التصنيف الحاد بين “الصواب” و”الخطأ”، مما يؤدي إلى تعزيز الصراعات الطائفية والعداوات بين مختلف المجموعات. هذا الفكر الذي يرفض التنوع الديني والثقافي في قلب المجتمعات الإسلامية يهدد بإحداث انقسامات عميقة، وهو ما يعزز بدوره من حالة الفوضى والفتن.
إضافة إلى ذلك، تسعى الوهابية إلى فرض رؤيتها الضيقة على المجتمع السوري من خلال تجاهل تاريخه الطويل من التنوع الثقافي والديني. وإذا استمر هذا الفكر في فرض نفسه، فإننا قد نشهد المزيد من التفكك والانقسامات في المجتمع السوري والعربي بشكل عام.
ضرورة التصدي للفكر الوهابي
في نهاية المطاف، يجب على المجتمعات العربية والإسلامية أن تدرك أن التحدي الذي تشكله الوهابية ليس مجرد معركة فكرية، بل هو تهديد يطال هويتها الثقافية والدينية بشكل أعمق. إن استمرار هذا الفكر المتشدد في الهيمنة على الساحة الفكرية والدينية في العالم الإسلامي سيؤدي إلى التفكك والتمزق داخل المجتمعات الإسلامية. ومن أجل التصدي لهذا الخطر، يتطلب الأمر توحيد الجهود للحفاظ على التعددية الفكرية والدينية التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الأمة الإسلامية.