خطبة بعنوان ( نعمة الأمن ) لفضيلة الشيخ عادل توني
23 يناير، 2025
خطب منبرية

إعداد فضيلة الشيخ :عادل عبدالكريم توني إبراهيم
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف
الجمعة 24 من رجــب 1446هـ – الموافق 24 من ينـــــــاير 2025م
عناصر الخطبة :
١- الأمن نعمة من أعظم نعم الله علي عباده.
٢- من سائل تحقيق الأمن ؛ تحقيق الإيمان بالله عز وجل .
٣- من سائل تحقيق الأمن ؛ البعد عن المعاصي .
٤ مصر بلد الأمن والأمان .
الخطبة الأولي..
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم،
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خِيرته من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومَن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، لازِموا تقواه؛ فتقواه سبيل النجاة مِن كل ضائقةٍ وكُرْبَةٍ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ .
(١)- إخوة الإيمان..إن نِعَمُ الله علينا لا تُحصى؛ فإنَّ الله – جل وعلا – يتفضَّل علينا بألوانٍ مِن النِّعم؛ قال جل في علاه: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ فنِعَمُه على عباده تَتْرى، تتتابع صباحًا ومساءً، له –جل وعلا – على كل واحد منا نِعَمٌ مع كل نَفَس، ومع كل لَحْظِ عينٍ، ومع كل نَبْضِ عِرْقٍ، لا ينفكُّ كل واحد منا مِن نِعَمٍ تترى عليه مِن ربه – جلَّ في علاه–.
تلك النعم تستوجب شكره، فله الحمد كثيرًا كثيرًا، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه.
وإنَّ مِن أعظم نِعَم الله تعالى على عباده بعد استقامة الدين ومعرفة غاية الوجود والعمل على توحيد رب العالمين؛ أَنْ يحقق للعبد في نفسه وأهله وماله وبلده الأمن،
فالأمنُ يا عباد الله: ضَرُورَةٌ لا تستقيمُ الحياةُ بدونه.. واسألوا عن قيمةِ الأمنِ من فقدهُ، فالصِحةُ كما يقولون: تاجٌ على رؤوس الاصحاءِ، لا يراهُ إلا المرضى..
الأمن في الأوطان ضرورةٌ من ضروريات الحياة، ولا تستقيم الحياة بدونه؛ ولهذا لما دعا الخليل إبراهيمُ عليه السلام لأهل مكة قال: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 126]، فَبَدَأَ بِالأَمْنِ قَبْـلَ الرِّزْقِ؛ لأَنَّ وُجُودَ الأَمْنِ سَبَبٌ لِلرِّزْقِ، وَلأَنَّهُ لا يَطِيبُ رِزْقٌ إِلاَّ فِي ظِلالِ الأَمْنِ.
وممَّا يدلُّ على حاجة المرء للأمن أنه كان أحد المسائل التي سألها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ربَّه، فعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى الهلال قال: اللهم أَهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والتوفيق لِمَا تُحِبُّ وترضى، ربُّنا وربُّكَ اللهُ”(رواه ابن حبان)، والمعنى: اجعل رؤيتَنا للهلال مقترنةً بالأمن من الآفات والمصائب، وبثبات الإيمان فيه، والسلامة من آفات الدنيا والدين.
عن ابن عمر رضي الله عنه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه حين يمسي وحين يصبح لم يدعه حتى فارق الدنيا وحتى مات : ( اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي ) أخرجه ابن أبى شيبة.
وتأمَّلوا كيفَ يمتنُ اللهُ تعالى على أهل مكةً بالأمن، بينما الناسُ من حولهم محرومونَ منه، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ [العنكبوت:67]، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص:57].. وقال تعالى: ﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش:4]، وفي الحديث الحسن، قال صلى الله عليه وسلم: “مَن أصبحَ آمنًا في سِرْبِه، معافًى في بدنِهِ، عندَهُ قوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَتْ لهُ الدُّنيا بحذافيرِها”.
والأمن -أيها الإخوة- هو الهدف الذي تنشده المجتمعاتُ، وتتسابق إلى تحقيقه الشعوبُ، يقول تعالى مذكِّرًا قومَ سبأ بنعمة الأمن : ﴿ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18]، ويقول سبحانه ممتَنًّا على قريش بنعمة الأمن: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67]، وفي الحديث عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» أخرجه البخاري
وقد فسَّر عبد الله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قول الله – جلَّ في علاه –: ﴿لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ فقال في بيان النِّعَم المسئول عنها: “الأمن والصحة”
فَفِي ظِلِّ الأَمنِ والإيمانِ تُحفَظُ النُّفُوسُ، وَتُصَانُ الأَعرَاضُ، وَتُعمَرُ المَسَاجِدُ وَتُقامُ الصَّلَوَاتُ، وَيُؤمَنُ عَلَى الأَموَالُ والممتلكات، وتنتعشُ الأسواق، وتستقيم الأمور.. فالْأَمْنُ والأمان أيَّها الكرام: أُساسٌ من أساسيات الحياةِ، وضَرُورَةٌ من أهمّ الضَّرُوريّاتِ؛ والضَّرُورِيَّاتُ الْخَمْس الَّتِي اتَّفَقَتْ كُلُّ الشَّرَائِعِ عَلَى حِفْظِهَا، وَهِيَ الدِّينُ وَالنَّفْسُ وَالْعَقْلُ وَالْعِرْضُ وَالمَالُ، لَا تُحْفَظُ إِلَّا بِالْأَمْنِ.. فَإِذَا اخْتَلَّ الْأَمْنُ عياذًا بالله، تعرضت هذه الخمسُ كُلُها للخطر.
وإِذَا اخْتَلَّ الْأَمْنُ لا قدَّر الله، فلا تسل عن إزهاق الأرواحِ بلا ثمن، ولا عن انتشار الْفَوْضَى في كل مكان، ولا عن فساد الأخلاق وتَوْحُشِ الطبِاع، وَلا عن شيوع الظلمِ وتعدِي الأقوياءِ على الضعفاء..
إذا اختلَّ الأمنُ عياذً بالله: فلا هناءةَ بعَيشٍ، وَلا لذةَ بطعامٍ، وَلا راحةَ ولا طُمأنينة.. إِذَا اخْتَلَّ الْأَمْن: توقفت عجلتُ الحياة، بل إنها تتراجعُ الى الوراء.. فيتعطل البناءُ والازدهار، ليحِلُ محلّهُ الدّمارُ والخراب، ويتوقفُ التَّعليمُ، ليحِل محلَّهُ الجهلُ والتَّخلف، ويتوقفُ الإنتاجُ، ليحِلُ محلَّهُ الفقرُ والديون..
إِذَا اخْتَلَّ الْأَمْنُ يا عباد الله: تسلَّطَ اللُّصُوصُ والمجرمونَ عَلَى الْأَعْرَاضِ فَانْتَهَكُوهَا؛ وَعَلَى الْأَمْوَالِ والممتلكات فَانْتَهَبُوهَا؛ وعلى النظام والقوانينِ فخالفوها، وعلى كُلِّ جميلٍ في الحياة فأفسدوه وخربوه..
فالأَمْنُ يا عباد الله: نِعْمَةٌ من أجلِّ النِّعمِ وأعظمِها، وَحَقُّ النِّعَمِ أنْ تُشْكَرَ؛ فالنّعمةُ إذا شُكرت: دامت وقرَّت وحُفظت من الزوال، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد ﴾ [إبراهيم: 7].. وقال تعالى: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء:147].
***
(٢)- عباد الله: يتحقق الأمن بأمور؛
الأمر الأول: بتوحيد الله تعالى والإيمان به وعبادته وطاعته والعمل الصالح؛ قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].
وقال تعالي :((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]
وحين نربّي الأمة على القيم الإيمانية يشيع الأمن ، ويتحقق في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالي :(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ)[الأنعام:82]، ومن هنا نقول: إنَّ حِفْظ أمن المجتمع يكون بحفظ أخلاقه التي تُشَكِّل ضمانةً لعدم الانحراف، أما علبُ الليل ودورُ المجون، وترويجُ المخدراتِ والخمورِ فكل ذلك تعد محاضنَ للجريمة وتشكل عبئًا على أمن المجتمع.
إذا الإيمان ضاع فلا أمان **
ولا دنيا لمـــن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين **
فقد جــعل الفناء لها قرينـا
فإذا تخلى أبناء المجتمع عن دينهم وكفروا نعمة ربهم أحاطت بهم المخاوف ، وانتشرت بينهم الجرائم ، وانهدم جدار الأمن وادلهم ظلام الخوف والقلق وهذه هي سنة الله التي لا تتخلف في خلقه
قال تعالى : ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الخوف والجوع بما كانوا يصنعون).
(٣)- إن من أعظم أسباب فُقدان الأمن وحُدوث الكوارث : الإعراضُ عن طاعة الله جل وعلا، وعن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفُشُوُّ المعاصي والسيئات، يقول ربُّنا جل وعلا: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
فهذه مملكة سبأ أنعم الله عليها بأعظمِ نعمتين: نعمة الرغد في العيش، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15].
والنعمة الأخرى: الأمن في الأوطان، فقال سبحانه: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18].
ومن آثار الذنوب والمعاصي على العباد
جاء في سنن ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: ” يا معشر المهاجرين، خمسُ خصالٍ أعوذ بالله أن تدْركوهن: ما ظهرتِ الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلاّ ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ المكيالَ والميزان إلا ابتُلوا بالسنين وشدَّة المؤنة وجَور السلطان، وما منع قومٌ زكاةَ أموالهم إلاّ مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا، ولا خفَر قومٌ العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تعملْ أئمتُهم بما أنزل الله جل وعلا في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم” ، وفي المسند من حديث أم سلمة: ” إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب من عنده”.
، ومن آثار المعاصي على العباد تسلّطُ الأعداء ، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” والذي نفسي بيده، لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عذاباً من عنده، ثم تدعونَه فلا يُستجاب لكم ” رواه الترمذي وقال: “حديث حسن”، وحسنه المنذري وغيره.
معاشر المسلمين، من عقوبات الذنوب والمعاصي أنها تزيل النعم، وتحلّ النقم، وتقلب الأمنَ مخاوف، والسعادةَ شقاءً والصلاح فساداً، (وَمَا أَصَـابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]
قال علي رضي الله عنه: “ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة” . فمتى غيَّر العبادُ طاعةَ الله جل وعلا بمعصيته، وغيَّروا شكرَه بكفره وأسبابَ رضاه بأسبابِ سخطه غُيِّرت عليهم النعمُ التي هم فيها، ومتى غيَّروا المعاصي بالطاعة غيَّر الله عليهم العقوبة بالعافية والذلَّ بالعز والشقاءَ بالسعادة والراحة والطمأنينة، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد:11]، (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال:53].
وعن السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يومًا فزعًا يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلّق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب، فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» (رواه البخاري ومسلم) . الشاهد من الحديث: “أنهلك وفينا الصالحون”؟ قال: “نعم، إذا كثر الخبث”.
أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيم لي ولكم وللمسلمين، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية..
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً .
أمَّا بَعْدُ ……
(٤)- لقد من الله تعالى علينا بان جعلنا من اهل مصر ارض الكنانه الارض الطيبه منزل الانبياء ،
ذكرها الله تعالى في القران الكريم في مواضع كثيرة منها ما هو صريح ،قد ذكرها الله تعالى في أربعة مواضع صراحة ،
ولم يذكر – عز وجل – في كتابه مدينة بعينها بمدح غير مكة ومصر،
ذكر الله تعالى اسمها صراحة في أربعة مواضع في كتابه تشريفًا لها وتكريمًا، فقال الله -جل وعلا-: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ) [يوسف:21]، وقال -سبحانه-: (ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ) [يوسف:99]، وقال -جل وعلا-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) [يونس:87]،
وحكى -جل وعلا- قول فرعون: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) [الزخرف:51].
وذكرها إشارة وتلميحا في مواضع كثيرة
قال بعضهم: تصل إلى ثلاثين موضعًا،
وذلك نحوقوله تعالى: ﴿ وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50]. قال عبد الرحمٰن بن زيد بن أسلم: “يعني مصر، وإن مصر خزائن الأرضين كلها، وسلطانها سلطان الأرضين كلها، ألا ترى إلى قول يوسف – عليه السلام – لملك مصر: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]. ففعل، فأغاث الله الناس بمصر وخزائنها، وسمى الله تعالى ملك مصر العزيز، بقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [يوسف: 30]. وقالوا ليوسف حين ملك مصر: ﴿ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ﴾ [يوسف: 88]”
وقال تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [القصص: 15].
وقد وصف – سبحانه – أرض مصر بالخيرات والبركات، فقال تعالى: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴾ [الدخان: 25 – 28].
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهلِهَا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا”، أَوْ قَالَ: “ذِمَّةً وَصِهْرًا”].
فأما الرحم، فإن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام من القبط من قرية نحو الفرما يقال لها أم العرب]،
وأما الذمة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم تسرى من القبط مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من قرية نحو الصعيد يقال لها حفن من كورة أنصنا .
وروى الطبراني في معجمه الكبير من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند وفاته، فقال: “اللَّهَ اللَّهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عِدَّةً، وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ”
مَن شاهَدَ الأرْضَ وأَقْطَارَها ***
والنَّاسَ أنـواعًا وأجناسًا
ولا رأى مصْـرًا ولا أهلها ***
فما رأى الدنيا ولا الناسَ
في أرض مصر يجري نهر النيل الذي ينبع من الجنة، فقد جاء في الصحيحين في قصة الإسراء والمعراج، قال صلى الله عليه وسلم: “…وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا كَأَنَّهُ قِلَالُ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا كَأَنَّهُ آذَانُ الْفُيُولِ، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ؛ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: أَمَا البَاطِنَانِ فَفِي الجَنَّةِ، وَأَمَا الظَّاهِرَانِ النَّيلُ والْفُرَاتُ” ].
و فيها الوادي المقدس طوى، والوادي المقدس هو الذي كلم الله فيه نبيه موسى – عليه السلام – أثناء خروجه من مدين عائدًا إلى مصر وكان معه أهله[10]، قال تعالى: ﴿ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾ [طه: 12].
وفيها: جبل الطور الذي ذكره الله في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَطُورِ سِينِينَ ﴾ [التين: 2]. قال كعب الأحبار وغير واحد: هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى. ورجح ذلك ابن القيم – رحمه الله – ].
قَارَنْتُ مِصْـرَ بِغَيْـرِهَا فَتَـدَلَّلَتْ *** وَعَجَزْتُ أَنْ أَحْظَـىَ لَهَـا بِمَثِيْلِ
هَذِيْ الْحَضَارَةُ مُعْجِزَاتٌ فيِ الوَرَىَ *** عَقِمَ الزَّمَـانُ بِمِثْلِهَـا كَبَدِيْـلِ
رَفَعَ الإِلَـهُ مَقَـامَهـَا وَأَجَـلَّـهُ *** فِيْ الذِّكْرِ وَالتَّـوْرَاةِ وَالإِنْجِـيْلِ
جَاؤوا بِيُوْسُفَ مِنْ غَيَـاهِبِ ظُلْمَةٍ *** أَرْضَ العَزِيْزِ فَكَانَ خَيْـرَ نَزِيْـلِ
والنِّيلُ يَتْبَـعُ وَحْـيَ مُنْشِئِ قَطْـرِهِ *** كَالطَّيْرِ حِيْنَ الوَحْيِ عَامَ الفِيْـلِ
فـيِ طُـوْرِ سَيْنَاءٍ تَجَلَّـىَ رَبّـُنَا *** فـوْقَ الكَلِيْـمِ بِـأَوَّلِ التَّنْزِيـلِ
وَكَذَا البَتُـولُ أَتَـتْ لِمِصْرٍ بِابْنِهَا *** تَبْغِي الأَمَـانَ وَتَحْتَـمِي بِمَقِـيلِ
يَكْفِيْكِ يَـا أَرْضَ الـكِنَانةِ هَاجَرٌ *** مِيلِى بِتـِيهٍ يَــا كِنَانَـةُ مِيلـِي
يا (أُمَّ إِسْمَاعِيْلَ) وَصْلُـكِ وَاجِبٌ *** مَنْ عَقَّ مِصْـرَ فَقَـدْ أَتَـىَ بِجَلِيلِ
هَـذِيْ عِنَايَةُ قَـادِرٍ خُصَّـتْ بِهَا *** مِصْرٌ لِتَبْقَـى مَوْضِـعَ التَّفْضِـيلِ
بُـوْرِكْـتِ مِصْـرُ فَلاَ أَرَانِيَ بَالِغًا *** حَقَّ الْمَدِيحِ وَإِنْ جَهَدْتُ سَبِيلِي
يَا مِصْرُ يَرْعَاكِ الإِلَـهُ كَمـَا رَعَىَ *** تَنْـزِيلَهُ مِـنْ عَـابِثٍ وَدَخِـيْلِ
قال سعيد بن هلال: “إن مصر أم البلاد، وغوث العباد، إن مصر مصورة في كتب الأوائل، وقد مدّت إليها سائر المدن يدها تستطعمها؛ وذلك لأن خيراتها كانت تفيض على تلك البلدان”.
وقال الجاحظ: “إن أهل مصر يستغنون بما فيها من خيرات عن كل بلد، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا بسور ما ضرها”.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يحفظ جميع بلدان المسلمين عامة، وأن يحفظ مصر خاصة، وأسأل الله -تعالى- أن يجمع شملنا وان يوحد صفنا.