ذو القرنين (٢)

بقلم الشيخ / أحمد عزت

ابتدأ ذو القرنين فتوحاته غربًا، حتى وصل منتهى يابسة العالم القديم مما يلي الغرب، يقول تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغرِبَ الشَّمسِ وجَدَهَا تَغرُبُ فِي عَينٍ حَمِئَةٍ ووَجَدَ عِندَهَا قَومًا) وتوجهه غربًا يتسق مع موقعه الأقرب للغرب، وكون الغرب أسهل سبلاً، وأكثر خصوبة، وأكثر ثراء؛ ولعل ذلك يتسق تاريخيًا مع فتوحات المسلمين نحو الغرب أكثر منها نحو الشرق، فالغرب أسهل نيلاً، وأقرب فطرة وطبيعة.

ومغرب الشمس هو أقصى مكان في العالم القديم تغرب الشمس فيه، وأقصى مكان لمغيبها عن الوجود الإنساني في ذلك الحين المحيط الأطلسي، أو ما كان يطلق عليه قديماً بـ(بحر الظلمات) وهي تسمية تشير إلى بعض ما فسَّر به المفسرون لفظة (حَمِئَة) من أنها الطينة السوداء أو الماء المكدر، أو الهائج، وهذا لا يمنع من أن المراد بالعين المحيط والبحر؛

يقول ابن كثير: “(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغرِبَ الشَّمسِ) يَعني: مِن الأَرضِ، انتَهَى إِلى حَيثُ لا يُمكِنُ أَحَدًا أَن يُجَاوِزَهُ، ووَقَفَ على حَافَّةِ البَحرِ المـُحِيطِ الغَربِيِّ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: (أُوقيَانُوسُ) الَّذِي فِيهِ الجَزَائِرُ المـُسَمَّاةُ بِالخَالِدَاتِ الَّتِي هِي مَبدَأُ الأَطوَالِ -على أَحَدِ قَولَي أَربَابِ الهَيئَةِ، والثَّانِي مِن سَاحِلِ هَذَا البَحرِ -كمَا قَدَّمنَا.

وعِندَهُ شَاهَدَ مَغِيبَ الشَّمسِ، فِيمَا رَآهُ بالنِّسبَةِ إلى مشاهدته: (تَغرُبُ فِي عَينٍ حَمِئَةٍ) والمـُرَادُ بِهَا البَحرُ فِي نَظَرِهِ، فَإِنَّ مَن كَانَ فِي البَحرِ أَو على سَاحِلِهِ يَرَى الشَّمسَ كَأَنَّهَا تَطلُعُ مِن البَحر،ِ وتَغرُبُ فِيهِ؛ ولِهَذَا قَالَ: (وَجَدَهَا) أَي: فِي نَظَرِهِ، ولَم يَقُل: فَإِذَا هِيَ تَغرُبُ فِي عَينٍ حَمِئَةٍ، أي ذات حمأة”.

وقد اتجه إلى أقصى الغرب، وهناك وجد الشمس تغرب في عين ماء حارة، وربما عنى بالحمأ: الطين الأسود الناتج عن تحلل الصخور البركانية، وأما الشمس حقيقة فهي في السماء، ولا تغرب على الحقيقة في شيء على الأرض، وإنما هذا الغروب هو حسب رؤية الرائي لها، وإلا فإن قُطر الشمس أكبر من قُطر الأرض بمائة وتسع مرات، فكيف تغرب الشمس في عين حمئة من عيون الأرض؟

فهذا لا ينبغي إلا أن يكون بحسب رؤية الرائي لها، كما لو رأيناها تغرب خلف الجبل أو في البحر، ﴿وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا﴾، فانطلق إلى المكان عند العين الحمئة الحارة فوجد عندها قومًا يقيمون حولها، ولعلهم من خلال البيئة التي تضمهم نتوقع أنهم كانوا أهل زراعة وفلاحة ومن ذوي البلاد الحارة التي لا يحتاجون فيها إلى ملابس غليظة تقيهم البرد، ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾

وهؤلاء القوم لم يكونوا على دين حق؛ لذلك خيره الله بين أن يأخذهم بالقتل والعذاب وبين أن يدعوهم بالحسنى إلى الإسلام، ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾، وهذا بعد دعوته إلى الحق وبيان الطريق السوي وعبادة الله الخالق الواحد، فإذا أبى المدعوُّ تلبية الدعوة يكون قد ظلم نفسه بالبقاء على الشرك ورفضه الإيمان، ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]،

واستحق العذاب من قِبَلِ ذي القرنين، ويكون قد أعذر في ذلك، ﴿ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا﴾، وهذا سيكون يوم القيامة؛ حيث يهوي الملحدون والمشركون في النار، ويكون عذابهم أليمًا شديدًا، ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾، أما الذين آمنوا واتبعوا طريق الهدى فهم بحقٍّ الراشدون العاملون في الخير والإصلاح والإعمار، فلا يقترفون منكرًا، ولا يصرون على معصية؛ فلهم الجنة في الآخرة جزاء لما قدموا، ولهم في الدنيا التيسير والعيش الهنيء والمعاملة الحسنة من قِبَل ذي القرنين، فهم الذين يتحقق فيهم قول الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] في الخير والتقوى والعمل الصالح، فيجعل الأرض مهدًا وسلامًا، فلا يقترف فيها المنكَرات ولا القتل، أو التدمير والتخريب، طائع لله عز وجل، عامل بتعاليمه التي تقضي بالمحبة والسلام ونشر الخير والمودة وصلة الأرحام، وهنا يمكن أن نستشف بأن هذا الفتح تمكن من جهة الغرب، حتى أصبح ذو القرنين الحاكم فيه: (ووَجَدَ عِندَهَا قَومًا ..). ولا نبعد إذا قلنا: إنَّ احتمال بلوغ ذي القرنين إلى بلاد شمال غرب أفريقيا أو أرض الأسبان والبرتغال (الأندلس) احتمال مقطوع به أمام هذه القوة الإسلامية المجاهدة الآخذة بأسباب العلم والقوة، والحاملة لواء العدل والإحسان.

 عزز “ذو القرنين” ملكه في الغرب بنشر الإسلام، وإنفاذ شريعته في مجتمعاته، وإقامة العدل، ثمَّ عاد بعد هذا التمكين لتوسيع مملكته من جهة الشرق؛ لكنه كما جاء في القرآن الكريم لم يبلغ (مشرق الشمس) ولكنه بلغ مطلعها؛ وبين المصطلحين فرق كبير، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطلِعَ الشَّمسِ وجَدَهَا تَطلُعُ على قَومٍ لَّم نَجعَل لهُم مِن دُونِهَا سِتْراً). والآيات تشير إلى أنَّ ذو القرنين سار إلى بلاد عالية جدًا، حتى إنها لتشرق عليهم الشمس من علو (تطلع على..).

وهذه البلاد التي هي في أعالي الجبال، جرداء من الشجر. فلا يمكن للزارع والراعي فيها، أو الساعي على معاشه فيها، أو المتنقل بين قراها، أن يجد له من دون الشمس الطالعة سترًا، يخفف عليه من شعاعها وحرها، والستر هنا لا يقصد به بيوتهم التي تكنهم، فهذا لا بد لهم منه، لكنه الستر الذي يمكنهم من العمل وطلب العيش والسير في الأرض زراعة ورعيًا

وإذا ما ذهبنا نبحث عن هذه المنطقة لوجدناها أقرب ما تكون إلى “هضبة التبت” الكائنة على مرتفعات جبال الهملايا وما وراءها، وهي توصف بأنها “سقف العالم” لقربها من الشمس، فارتفاعها يصل إلى ٤٠٠٠م فوق سطح البحر، وبها قمم تتجاوز في ارتفاعها ٧٠٠٠م، وهو ما يجعلها شحيحة في الأكسجين، وباردة جدًا، وهذه الخصائص الطبيعية حالت دون استيطان الإنسان لها بكثرة، ولا تزال نسبة السكان فيها حتى اليوم قليلة. وهذا يعني أنَّ ذو القرنين تمكَّن من إخضاع فارس وبلاد السند والهند لسلطانه، وأنه توجه باتجاه الصين، لكنه لم يتمكن من إتمام مسيره وقطع تلك المفاوز الجرداء الباردة الخالية من الوجود الإنساني الكبير، حيث لا شجر يستظل به، ولا أنعام تكفي لتغذية جيش جرار! وقد فسر أهل التأويل قوله تعالى: (كذلك) على أنه إشارة إلى أنه سار في أهل تلك البلدان التي تطلع عليها الشمس سُنَّةَ أهل المغرب، فنشر فيهم الإسلام وأقام فيهم شريعة الله وعدل بينهم.

هذا التمدد حقق له قوة خيالية، يعجز المرء عن الإحاطة بها، إلا الله (وقد أحطنا بما لديه خبرًا): أي “بما لَدَيهِ مِن الجنود والآلات والعدد والأسباب”.

إنَّ شخصية “ذو القرنين” وظفت الطاقات والقدرات والإمكانات في إقامة دولة مستقرة آمنة مستقلة بمواردها، تمتلك نواصي العلم والصناعة والقوة والجغرافيا بما فيها من ثروات طبيعية وطرق تجارة عالمية.

﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾، فغادرهم في اتجاه آخر وإلى جهة أخرى بعد أن أصلحها واطمأن على نشر الإسلام فيها متخذًا ما سخر الله له من الأسباب في الخير وتعميمه فوق الأرض،

﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾، فعاد أدراجه من جهة الغرب ليطلع على أحوال الناس في الشرق، ﴿وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾، وجد القوم عراة لا يلبَسون ما يسترهم، وهذا دليل على بدائيتهم الموغلة في الجهل؛ فهم والبهائم سواء، فلا يملِكون أدنى حضارة، ولا شيئًا من المعرفة، وإلا لكان لهم من الشمس ستر، ولو بما يجدونه من المواد المتوفرة لديهم من ورق وعشب، فهم أشبه الناس بأقزام إفريقيا في الغابات، وشعب أسترالية البدائي؛ فقد وجدوا على هذه الحالة عند اكتشاف بلدانهم، ﴿كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا﴾، فكان عنده علم بمن في المغرب كما عنده علم بمن في المشرق، ويكون بهذا قد طاف المشرق والمغرب، ووضع للجميع القوانين العادلة والدعوة الراشدة للالتزام بها، فمن أخذ بها عامله المعاملة الحسنة، ومن أبى وتنكر كان العقاب رادعًا له، وبهذا جدد الدعوة في كافة المعمورة، وعمم الإسلام، وبلغ كافة الخلق ما أعطاه الله من المكنة وتسخير الأسباب له،

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *