وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ، إِلهٌ رحيمٌ كثيرُ الإِنعَام، ورَبٌ قديرٌ شديدُ الانتقام، قدَّر الأمورَ فأجْراها على أحسنِ نظام، وشَرَع الشرائعَ فأحْكمَها أيَّما إحْكام، بقدرته تهبُّ الرياحُ ويسير الْغمام، وبحكمته ورحمته تتعاقب الليالِي والأيَّام، أحمدُهُ على جليلِ الصفاتِ وجميل الإِنعام، وأشكرُه شكرَ منْ طلب المزيدَ وَرَام، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أفضَلُ الأنام، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ السابق إلى الإِسلام، وعلى عمَرَ الَّذِي إذا رآه الشيطانُ هَام، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ بمالِه جيشَ العُسْرةِ وأقام، وعلى عليٍّ الْبَحْرِ الخِضَمِّ والأسَدِ الضِّرْغَام، وعلى سائر آلِهِ وأصحابِه والتابعين لهم بإِحسانٍ على الدوام، وسلَّم تسليماً.
وبعد : فإن الليالي في سيرهن مسرعات، والأيام في انقضائهن ذاهبات، والأعمار في سيرهن منتهيات، أيام تمر نقطعها مرحلةً مرحلةً، وكل يوم يمر يقربنا إلى الله والدار الآخرة..
فهلا اعتبرنا بسرعة مرور الأيام؟! هلا اعتبرنا بما مضى كيف مضى؟! هلا اعتبرنا كم ودعنا في الأيام الماضية من حبيب وقريب وصاحب؟! هلا اعتبرنا بمن رحلوا للدار الآخرة؟!
أيها الأحبة: إنها حقيقة الدنيا، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26،27].
فاعتبروا -رحمكم الله- واتعظوا بمرور الأيام، وتزودوا منها لوقوفكم بين يدي الكبير المتعال.
يا إخوة الإسلام لقد مرت بأمة الإسلام على مر التاريخ والزمان مراحل عصيبة، ومحن وبلايا شديدة، بدأت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحتى أيامنا هذه، ولا زالت المحن والابتلاءات والنكبات تتوالى على المسلمين ، هذا بوجه عام ،
وعلى نحو خاص تجبر بني صهيون ، يحرقون ويهدمون المساجد والمشافي ، لا يرحمون صغيرا ولا كبيرا ، وتمدد هذا السرطان في كثير من بلاد العرب والإسلام ، وظنّ هؤلاء الظالمون أنهم تحكِّموا في الأرض وملكوا نفوس العباد.. وأصبح حال أمة الإسلام كالعِيْسِ في البيداءِ يَقتلها الظَّما. والماءُ فوقَ ظهورِها محمولُ.
والمراد بالعيس: الإبل والبيداء: الصحراء الواسعة، والظمأ: العطش الشديد ..
ورغم كل هذا نرى من خلال هذه الأحوال شعاعاً يبث في النفوس روحاً من الأمل الصادق بنصر الله للدين الحق، وظهوره على الدين كله ولو كره المشركون ..
فرب الأرباب ومصرف الأمور ومسبب الأسباب ناصرٌ دينَه ومعزٌ أولياءه، وإن من تمسك بهذا الدين لابد له من النصر والتمكين ، ولو بعد حين .
العنصر الأول: الأمل روح الحياة..
الأمل : هو انشراح الصدر،
و توقع حدوث شيء طيب في المستقبل ربما يستبعد حصوله .
والأمل للأمة كالروح للجسد ، بل روح الحياة بأسرها ،فلولا الأمل ما بني بان بعمد ، ولا غرس غارس ولا حصد ، وما ذاكر طالب ولا اجتهد ..
ولولا الأمل لما تحققت كل الإنجازات التي وصلت إليها البشرية .
إنَّ الذي يُغْرِي التاجرَ بالأسفارِ والمخاطرةِ: أَمَلُهُ في الأرباحِ، والذي يَبْعثُ الطالبَ إلى الجدِّ والمثُابرةِ: أملُهُ في النجاحِ، والذي يحفِّزُ الجنديَّ إلى الاستبسالِ في أرضِ المعركةِ أملُهُ في النصرِ، والذي يُحبِّبُ إلى المريضِ الدواءَ المُرَّ: أملُهُ في الشِّفاءِ والطُّهْرِ، والذي يدعو المؤمنَ أنْ يُخالِفَ هَواهُ ويُطيعَ مَوْلاهُ: أملُه في الفوزِ بجنَّتِهِ ورِضاهُ، فهوَ يُلاقِي شدائِدَها بقلبٍ مُطْمَئِنٍ، ووجْهٍ مُسْتبشرٍ، وثَغْرٍ باسمٍ، وأمَلٍ عَريضٍ، فإذا حارَبَ كانَ واثِقًا بالنصرِ، وإذا أعْسَرَ لم يَنقطِعْ أملُهُ في تبدُّلِ العُسْرِ إلى يُسْرٍ، وإذا اقترفَ ذنبًا لم يَيْئَسْ مِنْ رحمةِ اللهِ ومغفرَتِهِ تَعلُّقًا وأملًا بقولِ اللهِ تعالىَ: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
وقد قيل كذلك: “إذا فقدت مالك فقد ضاع منك شيء له قيمة، وإذا فقدت شرفك فقد ضاع منك شيء لا يقدر بقيمة، وإذا فقدت الأمل فقد ضاع منك كل شيء”
فالأمل إذًا هو إكسير الحياة، ودافع نشاطها، ومُخفف وَيْلاتها، وباعث البهجة والسرور فيها.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! والأمل – قبل ذلك كله – شيء حلو المذاق، جميل المحيَّا في ذاته، تحقق أو لم يتحقق..
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ
أَبْشِرْ بخيرٍ فإنَّ الفارجَ اللهُ
اليأسُ يَقْطَعُ أحيانًا بصاحِبِهِ
لا تَيْأسَنَّ فإنَّ الكافيَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بعدَ العُسرِ مَيْسَرَةً
لا تَجْزَعَنَّ فإنَّ القاسمَ اللهُ
إذا بُلِيتَ فثقْ باللهِ، وارْضَ بهِ
إنَّ الذي يَكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ مِن أحدٍ
فحَسْبُك اللهُ في كلٍّ لكَ اللهُ ..
لقد وعد الله تعالى عباده بالنصر والتمكين ، وآيات القرآن الكريم وأحاديث السنة المطهرة عن هذا المعنى أكثر من أن تحصى ، ومن ذلك :
وقَدْ بشَّرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بانتصارِ الإسلامِ وظُهورِهِ مَهْما تكالبَتْ عليهِ الأعداءُ وتألَّبَتْ عليهِ الخُصومُ؛ فعن تَمِيمِ الدَّارِيِّ رضي الله عنه، قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((لَيَبْلُغَنَّ هَذا الأمرُ ما بَلَغَ الليلُ والنَّهارُ، ولا يَتْركُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ أدخَلَهُ اللهُ هذا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أوْ بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلامَ، وذُلًا يُذِلُّ اللهُ بهِ الكفرَ))؛ أخرجَه الإمام أحمدُ وسنده صحيح.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿تكونُ النُّبُوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ – تعالى -، ثم تكونُ خلافةٌ على مِنهاجِ النُّبُوَّةِ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ – تعالى -، ثم تكونُ مُلْكًا عاضًّا، فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ – تعالى -، ثم تكونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فيكونُ ما شاء اللهُ أن يكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ – تعالى -، ثم تكونُ خلافةً على مِنهاجِ نُبُوَّةٍ . ثم سكت﴾ . . .
يعني خلافة واتحاد إسلامي على منهاج النبوة في آخر الزمان .. والحديث أورده صاحب هداية الرواة ، وسنده حسن..
تلازم الأمل بالإيمان ، واليأس مع الكفر والضلال . .
وأجمع العلماء أنهما من الكبائر، بل أشد تحريمًا، وجعلهما القرطبي في الكبائر بعد الشرك من حيث الترتيب .
إن اليأس والقنوط من كبائر الخطايا والذنوب، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-: “أكبرُ الكبائرِ الإشراكُ بالله، والأمنُ من مكرِ اللهِ، والقنوطُ من رحمة الله، واليأس من روح الله”،
واليأْس فيه سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا ﴾ [الإسراء: 83].
واليأس سبب لفساد القلب؛ قال ابن القيم وهو يعدِّد الكبائر: (الكبائر:.. القنوط من رحمة الله، واليأْس من َروح الله..، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنا، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن).
(الإيمان والحياة).
والمسلم لا ييأس من رحمة الله؛ لأن الأمل في عفوه هو الذي يدفعه إلى التوبة مهما بلغت ذنوبه ..
الأمل لا بد منه لتقدُّم العلوم، فلو وقف عباقرة العلم والاختراع عند مقررات زمنهم، ولم ينظروا إلا إلى مواضع أقدامهم، ولم يمدهم الأمل بروحه في كشف المجهول، واكتساب الجديد من الحقائق والمعارف، ما خطا العلم خطواته الرائعة إلى الأمام، ووصل بالإنسان إلى القمر ..
والأمل لا بد منه لنجاح الرسالات والنهضات، وإذا فقد المصلح أمله، فقد دخل المعركة بلا سلاح !!. أديسون بعدما أخطأ 999 مرة نجح في صنع أول مصباح كهربائي ..
ومثل ذلك ما حدث من الإسكندر الأكبر المقدوني عند انهزامه في إحدى المعارك اختلى بنفسه ؛ ليفكر في أمره، فأثار انتباهه نملة تجر حبة قمح وتحاول الصعود بها، لكنها كانت تسقط منها، فحاولت مرات عديدة، حتى نجحت في مُهمتها، فتعلم منها درسا عظيما، ألا هو: الأمل للبقاء، والعزيمة التي لا تكل ولا تنهزِم، فكان ذلك سببا في انتصاراته ونجاحاته كُلها..
العنصر الثاني :نماذج من حياة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ..
وموسى حين سرى بقومه لينجو بهم من فرعون وجنوده، فحشد له الحشود ليدركوه: ﴿ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء:60، 61].
وأي إدراك أكثر من هذا؟ البحر من أمامهم والعدو من ورائهم! بيد أن موسى لم يفزع ولم يَيْئَس، بل قال: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].
واختلف من بطل هذه القصة التي ذكرها القرآن الكريم فقيل سيدنا عزير أو رجل آخر من بني إسرائيل…
وأما القرية : فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها . ( وهي خاوية ) أي : ليس فيها أحد من قولهم : خوت الدار تخوي خواء وخويا .
وقوله : ( على عروشها ) أي : ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها ، فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه . قال الله تعالى : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) قال : وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجعت بنو إسرائيل إليها . فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه ؟ فلما استقل سويا قال الله له أي بواسطة الملك : ( كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ) قالوا : وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر نهار ، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال : ( أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) وذلك : أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما فقده لم يتغير منه شيء ، لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب تعفن ( وانظر إلى حمارك ) أي : كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر ( ولنجعلك آية للناس ) أي : دليلا على المعاد ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) أي : نرفعها فتركب بعضها على بعض …
وقرئ : ( ننشرها ) أي : نحييها قاله مجاهد ( ثم نكسوها لحما ) .
وقال السدي وغيره : تفرقت عظام حماره حوله يمينا ويسارا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة ، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارا قائما من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحما وعصبا وعروقا وجلدا ، وبعث الله ملكا فنفخ في منخري الحمار فنهق ، كله بإذن الله عز وجل وذلك كله بمرأى من العزير ، فعند ذلك لما تبين له هذا كله ( قال أعلم أن الله على كل شيء قدير )..
تفسير الحافظ ابن كثير…
وهي درس عظيم لإحياء شعاع الأمل في نفوس عباده ..
أما إمام الأنبياء فقد لاقى ما لاقى من أذى واضطهاد فلم يفقد الأمل يوما ، ففي مكة و المدينة عاش رحلة كفاح دائم مرير مع طواغيت الشرك، وأعوان الضلال، وتسير الحرب – كما هي سنة الله – سجالاً .
إلى أن جاءت غزوة الأحزاب، فيتألَّب الشرك الوثني بكل عناصره، والغدر اليهودي بكل تاريخه، ويشتد الأمر على النبي وأصحابه: قريش وغطفان، ومن في حلفهما من خارج المدينة، واليهود والمنافقون من الداخل، موقف عصيب صوَّره القرآن بقوله: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].
ففي هذه الساعات الرهيبة التي يذوي فيها عود الأمل، ويخبو شعاع الرجاء، ولا يفكر المرء إلا في الخلاص والنجاة … وفي هذه اللحظات والنبي يسهم مع أصحابه في حفر الخندق حول المدينة يصدون بحفره الغزاة، ويعوقون الطامعين العتاة، يُحدِّث النبي ﷺ أصحابه عن الغد المأمول، والمستقبل المرجو حين يفتح الله عليهم بلاد كسرى بفارس، وبلاد قيصر بالشام، وبلاد اليمن بالجزيرة، حديث الواثق المطمئن الذي أثار أرباب النفاق، فقالوا في ضيق وحنق: إن محمدًا يعدنا كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء وحده! أو كما قال القرآن: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12].
والصحابة رضوان الله كم ضٌربوا ، وعُذِّبوا ، وأُوذوا، وضُيِّق عليهم في أرزاقهم، وحُوصروا في شعب أبي طالب ، حتى أكلوا أوارق الأشجار ، وتقيّحت شفاههم ، وضاقت عليهم الأرض بما رحب ، حتى شكا بعضهم استبطاء النصر، فأوصاهم النبي ﷺ بالصبر وعدم الاستعجال، والأمل في نصر الله .
يجب أن نتعلم من قدوتنا وأسوتنا صلى الله عليه وسلّم كيف نصنعُ الأمل، ونترقب ولادةَ النورِ وانبثاقَ الفرج من رحم الظلمة، وخروجَ الخير من قلب الشر
ولقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم على الذين ينفِّرون الناس، ويضعون الناس في موقع الدونية والهزيمة النفسية، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((إذا قال الرجل: هلَك الناس، فهو أهلكهم)).
يعني : هو أشدهم هلاكا ، أو هو من أسباب هلاكهم ..
العنصر الثالث : مشاهد من التاريخ .
إن شهادة التاريخ تُحيي فينا الأمل ، وإن مشاهد التاريخ رسالة من الماضي للحاضر والمستقبل ، فدوام الحال من المحال..
هذه بعض نصوص القرآن، وغيرها كثير ، فالتاريخ بعده خير مصدق لأحوال الأمم ..
إقرإ التاريخَ إذ فيه العبر *** ضاع قومٌ ليس يدرون الخبرْ. (أحمد شوقي).
فهل يستطيع مَن لا يؤمن به أن يكذب التاريخ العالمي الذي يؤكد حقائق القرآن؟ أين أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان؟ أين عمالقة الهند والصين؟ أين هولاكو ولويس التاسع؟ أين نابليون بونابرت؟ أين كارل ماركس ولينين ، وإسحاق رابين وشيمون بيريز؟.
فما أشبه الليلة بالبارحة
إن التاريخ يُكرِّر نفسَه ، وإنْ كان على صُوَر متجدِّدة، ومآسي الماضي هي عِبَرُ المستقبَل، وسُنن اللهِ لا تتغيَّر ولا تتبدَّل ..
قال جل في علاه:﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ *
وإن التاريخ خير مُصدِّقٍ لهذه الأنباء، وإن المسلمين قد مرت بهم أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، لا تقل عما يحل بهم اليوم، ألم تسمع عن جيوش التتار الغازية البربرية الوحشية المدمرة الفتَّاكة التي ما تركت أخضر ولا يابسًا، والتي أتت على كل معنى من معاني الإنسانية، ودمرت كل معلم من معالم الحضارة البشرية، ألا ترى تلك الأحوال؟ ألم تقرأ عن دخول التتار بغداد سنة ست وخمسين وستمائة للهجرة؟
بعض الروايات التاريخية تذكر أن عدد من قتلوا يزيدون عن ألف ألف
(مليون) قُتِلوا حتى هربوا إلى بيوتهم، ثم دخلوا عليهم في بيوتهم حتى صعدوا إلى أسطح منازلهم، ثم قتلوا حتى صبت ميازيب بيوتهم من دمائهم، وبقوا أربعين يومًا يستحر فيهم القتل من أولئك التتار الكفرة الهمجيين، ثم ماذا بعد ذلك أيها الإخوة؟! بعد عامين اثنين فقط، في الخامس والعشرين من شهر رمضان، في يوم جمعة أغر للعام الثامن والخمسين وستمائة للهجرة، كانت معركة عين جالوت، عندما عادت الأمة إلى ربها وتوحَّدت في بعض صفوفها، وأخلصت في كثير من المعاني لربها، جاءت عين جالوت، لتكون نصرًا عظيمًا للإسلام والمسلمين، ودحرًا وكسرًا للتتار المعتدين.
(البداية والنهاية).
ثم بعد ذلك دخل التتار في دين الله أفواجًا وصاروا مسلمين، وبمقياس العقل والمادة لا يمكن لأمة هُزِمت مثل هذه الهزيمة، وحلَّت بها مثل هذه المصيبة أن تقوم لها قائمة، أو أن ينشط لها أبناؤها في هذه الفترة الوجيزة من الزمان ..
ومن نماذج التاريخ أيضا الشهيد نور الدين محمود وكان ذا همة عالية، كان حلمه فتح بيت المقدس وتطهيره من المحتلين، وصنع منبرا عظيما ، يأمل وضعه في بيت المقدس حينما يفتحه، وكان الناس عندما يمرون عليه يسخرون منه ، فلم يلتفت إليهم، وحاله كحال نبي الله نوح يوم يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ سخروا منه، كان يريد بذلك المنبر بث الروح ، وبعث الهمم، وتبديد اليأس المخيم على القلوب، ولقد حقق الله له أمنيته، وفُتح بيت المقدس ونُصب فيها منبره بعد وفاته، ونصب المنبر على يديْ تلميذه صلاح الدين، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين عاما ، فالله أكبر الله أكبر ، فاللهم عودة قريبة إلى بشائر نصر الأمة ..
العنصر الرابع : تحقيق الأمل بالاجتهاد والمثابرة في العمل ..
بعد هذا العرض لقضية الأمل، يبقى لنا أن ننتقل من الأماني الفارغة إلى العمل الجاد، فالأماني الفارغة لا تُغير من الواقع شيئًا، فلا بد من العمل والأخذ بالأسباب ، مع التوكل على الله تعالى وليس علينا تحقيق النتائج،
إن نصر الله تعالى لا يعطى مجانا للمتكاسلين ، والنائمين ، وإن أمة الإسلام أمة نائمة بارك الله فيمن يوقظها ، أو يساهم في إيقاظها ، وايقاظ الأمة ليس بالدعاء للمجاهدين والمسلمين المستضعفين فقط على الرغم من ضرورته وأهميته ، بل بكل ما يملكه الإنسان المسلم من مقاطعة لمنتجات الأعداء ، ودعم مادي ومعنوى بكل يملك من قدرة ..
قالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : مَن جَهَّزَ غَازِيًا في سَبيلِ اللَّهِ فقَدْ غَزَا، وَمَن خَلَفَ غَازِيًا في سَبيلِ اللَّهِ بخَيْرٍ فقَدْ غَزَا. أخرجه الإمام البخاري ..
وأنكر القرآن الكريم على أهل الكتاب تعلُّقهم بالأماني في دخول الجنة ، بغير أسبابها ومُوجباتها من العمل والإيمان؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 111، 112].
وكان الإنكار على المسلمين أيضًا! فلا التسمي بالإسلام أو مجرد الانتساب إليه، يُنجِّي المسلم عند الله! قال تعالى: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 123، 124].
وختاما :
إن الفرج بعد الكرب سنة إلهية..
فيا أخا الإسلام ڪلما ضاقت تذڪر : ڪيف أبحر نوح بالسفينة في موج ڪالجبال ؟!وڪيف نجى الله إبراهيم من النار؟!
توكل على الله وفوض أمرك إليه ، وتمسك بحبل الله المتين ،يفتح لك أبواب الخير والسعادة والرضا ..
وعلينا أن نعتبر بمرور الأعوام ، وتصرم الأيام ، فما مر لا يعود ، جدوا -رحمكم الله-، فأمامنا يوم ثقيل تذهل فيه المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد..
فنحن -أيها الأحبة- في مطلع شهر رجب ، وعندما يهل علينا هلال هذا الشهر المبارك تفرح قلوب عباد الله ؛ لأنه يبشّر باقتراب شهرٍ حبيبٍ على القلوب، ألا وهو شهر رمضان المبارك؛ فلذلك هو شهر مفضل مكرم ومن الأشهر الحُرُم المعظّمة التي قال الله –عز وجل-فيها : (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)، (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ): ظلم النفس بالوقوع فيما لا يرضي الله –عز وجل-، بالتجرؤ على معصية الكبير المتعالي، محرم في سائر العام، ولكنه في هذه الأشهر أشد تحريمًا وأشد تعظيمًا، وأشد تجريمًا، أشد جرمًا وإثمًا.
(فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ): ظلم النفس بالتعدي على حق الكبير المتعالي ، ظلم وأي ظلم، ظلم النفس بالتعدي على حقوق عباد الله ظلم وأي ظلم. فعلى المرء المسلم أن يتقي الله –عز وجل-، وأن يراقب الله -تبارك وتعالى- في نفسه في هذه الأشهر، فهو أمام حرمة من حرمات الله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30]..
ثم علينا الاجتهاد في الطاعة والإقبال على ما يُرضي الله –عز وجل-، رغبة في ثواب الله وطمعًا في كرم الله، فربي -جل وعلا- إذا غلّظ العقوبة ضاعف الحسنات، والنبي -صلى الله عليه وسلم-: أوصى الباهلي أحد صحابته الكرام بقوله : “صُمْ من الحرم واترك ، صم من الحرم واترك ، صم من الحرم واترك ، وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها”. أخرجه أبو داود وسنده حسن..
فكن أيها الموفق لهذا الشهر معظماً، ولفضله مغتنِماً، وتب فيه إلى ربك، وأقْلع بلا رجعه عن خطأك، وأصلح فيه من شانك ، وليكن لسان حالك كما قيل في نصحك من أحد السلف :
يا عبدُ أَقْبِلْ مُنِيباً وَاغْتَنِمْ رَجَبًا * فإنّ عَفْوِيَ عمّن تاب قد وَجَبَا
(لطائف المعارف)..
علينا أن نفيق من غفلتنا فها هي دماء المسلمين ما زالت تنزف في كل مكان ، وعلى أرض فلسطين المباركة نشاهد أعتى أنواع الظلم والتجبر، و أشد ألوان العذاب ، ولا مجيب !!.
مؤامرات وانتهاكات كلها تصب في مجرى واحد، وهو الحفاظ على الصياهنة إخوان القردة والخنازير، ولا فرق بين النتنياهو وشارون، وبايدن وترامب.
لا شك أن حالة الضعف والوهن التي تعيشها الأمة الإسلامية في هذه الأيام، والتي أصبحت فيها دماء المسلمين أرخص من دماء الحشرات والكلاب، بسبب تخاذلها وبعدها عن كتاب ربها وسنة نبيها-صلى الله عليه وسلم-.
إن ما يقع بالأمس واليوم في ديار المسلمين على أيدي اليهود والأمريكان وأعوانهم من أعداء الأمة المتربصين بها وسط تقاعس وتخاذل من الجميع، ليدفع الإنسان دفعًا إلى مراجعة فورية مع النفس وذلك باللجوء إلى الله في السراء والضراء والسعة والضيق فما خاب من اتقاه، ولا أيس من رجاه، وما ذل من اعتصم بحماه
إن المسلمين إن لم يجمعهم الحق والقرآن و عبادة الرحمن ، شعَّبهم الباطل ، و فرقَّتَهْم غِواية الشيطان..
فهذه الأشهر الحرم فيها تقرب من الله –عز وجل- بالطاعات، ولا سيما عبادة الصيام، والقيام وذكر الله وقراءة القرآن ، وكل اعمال الصالحات..
أمامنا ..-أيها الأحبة- موسم جديد للمتاجرة مع الله، فأين الرابحون في هذه الأيام المباركات ؟! أين من أقبلوا على الواحد الديان؟!..
فعزنا في القرآن العظيم وسنة النبي الكريم..
اللهم انصر الإسلام و أعز المسلمين، وأذل الشرك والصهاينة والمشركين، وارفع بعزتك كلمة الحق و الدين، ،
واللهم إنا نسألك أن تحفظ بلدنا مصر وسائر بلاد المسلمين من كيد الكائدين ، وعبث العابثين، وأن تمن علينا وعلى المسلمين بعز الإسلام ونصر المسلمين ..