وصايا الزواج .. بين الأمس واليوم

بقلم الأستاذة: إيمان محمد غنيم كاتبه اسلاميه وواعظه بوزاره الاوقاف المصريه

عرف لنا علماء اللغة الوصية بأنها من وصل الشيء واتصل به وكأنها تصل بيننا وبين حياة من سبقونا تحمل إلينا عصارة أفكارهم لتغيث بها حياتنا عاما بعد عام ولتضيف إلى أعمارنا أعمارهم .

وإن كنا بحاجة إلى النصيحة في كل أمور حياتنا عامة فنحن أحوج إليها ونحن نبني حياتنا الزوجية خاصة. فكيف نبدأ حياتنا ونحن صفر في التجربة والعلم والخبرة وهل حسبنا أن ندخل جنة الدنيا ولم يأتنا مثل من سبقونا لنتعلم منهم مصداقًا لقوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ ﴾ (البقرة:٢١٤)

فالزواج ليس بناء أسرة فحسب بل بناء أمة بأكملها وكأن الأسرة هي عماد تلك الأمة فمن أقامها حق إقامتها فقد أقام الأمة ومن هدمها فقد هدم الأمة .

فما نرى في دنيا الشباب من استعدادهم قبل الزواج فإننا نرى عجبا من اللهث وراء متطلبات مادية وتكاليف باهظة وكماليات تأخذنا بعيدا عن جوهر الزواج ونظل ندور في تلك الدائرة مغمضي العيون.. تائهي الخطى لنفيق في النهاية وقد وجدنا أنفسنا وقد جمعنا بيت واحد مع زوج لا نعرف كيف نتعامل معه أو كيف نعيش معه بضعة أشهر أو سنوات قليلة
ونجد كل ما بنيناه وكأنه هيكل ضعيف تعوي فيه ريح صرصر عاتية ملؤها الجهل والكبر والعناد لتتركنا فيه صرعى … وسرعان ما تنهدم أركانه ونتخذ منه حيطانه مبكى لنا لنبكي عليها دما لا دمعًا.

وكما يقول الرافعي : ” إن الخطأ الأكبر هو أن تحاول تنسيق الحياة من حولك وتنظيمها ثم تترك الفوضى في قلبك

وهذا ما نفعله جميعًا إلا من رحم ربي، وفوضى القلب تلك فاضت علينا لتغرقنا جميعًا في طوفانها ونبحث عن جبل ليعصمنا وتحول بيننا أمواج ومشكلات الحياة… لنكون جميعًا من المغرقين

ولنقف وقفة تأمل مع كلمات ووصايا ما حملتها لنا رياح الزمان إلا لطيب عطرها وقد اتت أكلها أضعافا مضاعفة، ولا زالت تُؤتي أكلها كل حين بإذن ربها

تلك وصية المرأة العربية امامة بنت الحارث لإبنتها عند زفافها

ولتصغى أفئدتنا لصوت الأمومة الحانية والزوجة الواعية الذي يتردد صداه عبر الزمان ولتعيه منا آذان واعية ولنتعلم ونحن نستمع ألا نعجل بالأمر من قبل أن نتدبر الكلمات… وكيف نصبر على ما لم نُحِط به خبرًا

ننظر نظرة إجلال لكلمات تُقطر الحكمة من ثناياها وإعجاب بفصاحة تلك المرأة العربية وفطنتها ووعيها لنرى عقلها وحكمتها من بين كلماتها ونجمع خلال شخصيتها التي نراها قد انعكست على فتياتها حتى تسامع بهن العرب وكل أصحاب الفضل وجاءها الملوك يطلبون ودها

لم تكن كلمات جوفاء أو رجع صدى، وإنما هو اختصار حياة في بضع كلمات، حياة عاشتها الفتاة بين أبويها وشهدت كل فصولها … فلم تكن النصيحة ليلة عرسها فحسب كما قد يظن البعض ولكنها كانت عملية وتطبيقية منذ أن وعت الفتاة وخبرت الحياة فقد عاشت السكينة في بيت ملأته الرحمة والمودة ولمست فيه عمق حكمة أمها وحسن تعاملها مع أبيها لتغرس داخلها تلك المعاني وليشربها قلبها ولتسري حية في دمائها.

فالأم بحكمتها قد جهدت طيلة حياتها لتخلق الوعي داخل نفوس فتياتها بأهمية ذلك الميثاق الغليظ.. وتأتي كلماتها في النهاية هدية لإبنتها ليلة عرسها … وكأنها مسك الختام لتضع أمامها صراطا مستقيما لتتبعه ولا تتبع غيره من السبل فتفرق بها عن سبيله ولتكون كلماتها في النهاية وكأنها تستدعي بها ماض عاشته تلك الفتاه بكل خبراته ليكون واقعا حيًّا أمامها … ولتكن تلك الكلمات جسرًا بين ماض عاشته ومستقبل تتطلع إليه.

وتبدأ الأم ونحن معها في رسم ملامح تلك الحياة لنحاول من خلال الوقوف على بعض كلماتها.. الإلمام بتلك الوصايا ونسلط الضوء على بعض نصائحها. فتبدأ الأم فتقول لإبنتها

(ولو أن امرأة استغنت عن الزواج لغنى أهلها لكنت أغنى الناس ولكن النساء للرجال خُلقن ولهن خُلق الرجال)

فهي تغرس بكلماتها تلك طبيعة ذلك الميثاق الغليظ وأنه فطرة الله في خلقه ولا غنى لرجل أو امرأة عنه فمهما أنزل الله إلينا من خير فنحن فقراء إلى من يؤنس النفس والقلب ومهما اشتد غنى المال فالاحتياج والافتقار للزوج لا يعوضه أموال الأب وغناه وحين تقول لابنتها

(كوني له أمةً يكن لك عبدا)
فلم تكن ابنتها ذات هوان عليها فهي ابنة سيد العرب وذات جمال وشرف تسامع به القاصي والداني حتى خطبها الملوك، ولكنها تذكرها بلين الجانب وليست الندية فالرجل يريد المؤانسة وليس المزاحمة فإن آنست قلبه وملأت روحه بحسن طاعتها له وحسن موافقتها ومرافقتها له كما تفعل الأمة مع سيدها فكأنها ملكت زمام قلبه وسلبت عليه لبه وقدمت لحياتها معه… فجعلته يتلمس رضاها ويبتغي مرضاتها في كل ما تحب وترضى كما يفعل العبد مع سيده.

وتقول الأم: ” والصحبة بالقناعة فأنت أيتها الزوجة الصاحبة والمصاحبة التي أسماك القرآن بذلك في قوله تعالى ( وصاحبته وأخيه) وقال
(والصاحب بالجنب) فأنت الصاحبة والمصاحبة في رحلة الحياة بأكملها ولكي تحلو الصحبة ويبقى أثرها ونعيش نقتطف من ثمارها فقد اختارت الأم لحسن الصحبة أسبابًا منها القناعة وحسن السمع والطاعة والقناعة هي الرضا بما في اليد والرضا هو باب السعادة العظمى فمهما ملك الإنسان إن لم يملأ الرضا قلبه فما ملك شيئًا … فلتنظر الزوجة إلى ما في يدها ولا تمدن عينيها إلى ما متع به غيرها ولتحمد الله على ما في يديها فهو باب الزيادة مصداقًا لقوله تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم
إحص نعما لا يُمكن إحصاؤه .. إرض عن اختيار الله لك في كل أمور حياتك بداية من اختيار زوجك فهو اختيار الله لكِ من قبل اختيارك… أكثري من التسبيح حتى يملأ الرضا قلبكِ ونفسكِ مصداقًا لقوله تعالى (وَمِنْ ءَانَاي الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)

وأذكرك ونفسي بما كانت تفعله المرأة المسلمة حين كانت توصي زوجها وهو خارج إلى عمله بألا يطعمهم من حرام فهم يصبرون على الجوع ولا يصبرون على النار … فلا تُكلفينه ما لا يطيق فيسعى لإرضائك بإغضاب الله فتخسروا جميعًا الدنيا والآخرة، ومن رضي بقدر الله أعطاه الله على قدره. ارض عن الله يرضك الله ويرضى عنك

وتكمل الأم وصيتها فتقول: (وحسن السمع له والطاعة)

و ها قد وصلنا الى نقطة الخلاف الخطيرة و ثالثة الأثافي ..

فأحسب أنني ما أكاد أقول تلك الكلمات حتى تنفض عني الفتيات فإنني أقول قولا عظيمًا… بل قد يحسبني البعض أقول منكرا من القول وزورا
فكيف أطالب المرأة بأن تسمع وتطيع، أأطالبها بالخضوع للرجل… وأين فكرها ورأيها ؟! وأقول أختي الحبيبة.. اعلمي يقينا أن الإسلام رفع قدرك ولم ولن يُرغم أنفك والإسلام الذي حرم وأد جسد المرأة فقد حرم أيضًا وأد أفكارها وآرائها

وقد جاءت تشريعات الإسلام لتعلي من قدر المرأة من ناحية ولتحافظ على سياج الأسرة من ناحية أخرى. وقد جاء وصف الرسول للمرأة الصالحة التي هي من خير النساء فكان مما قال : (إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها برته)

فالطاعة هنا ليست طاعة العبد لسيده، وليس بر القسم هو الإجبار على فعل ما تأباه النفس وإنما هو اتحاد الكلمة واللقاء على الهدف، ففي وجود الدين وفي رحاب النفوس المطمئنة فنحن واحد لا اثنان فللزوجة قلب ينبض في صدر زوجها ويرى هو بعينيها وتسمع هي بأذنه، وهي حين تطيعه فقد حببت إليها الطاعة لأنها تعلم أنها تطيع الله فيه، وبهذا يكتمل الإيمان حين يكون هوى النفس تبعنا لأمر الدين

أقول :
إبدئي فافعلي ما تأباه نفسك حسبة لله ورسوله وطاعة لهما قبل أن تكون طاعة لزوجك

روضي تلك النفس على الطاعة إفعلي بداية ما تأباه نفسك فخير أعمالك ما أكرهت النفس عليه جاهدي في الله بحسن طاعتك لزوجك، أليست طاعة المرأة لزوجها وحسن رعايتها له تعدل الجهاد في سبيل الله ؟ فجاهدي نفسك على الطاعة وذلليها تذل لك وخذي بشارة من ربك بأنه سيهديك بجهادك سواء السبيل مصداقا لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)

قد يكون الأمر عسيرا في البداية و ذلك لأنك بطاعتك تلك ستواجهين نفسا ما أشربت لسنوات طويلة إلا على فكر متمرد على كل شيء، ولذا فإنني أدعوك لوقفة حياد مع النفس لا تأثيرا ولا تأثرًا

وإن نظرنا إلى تلك الوصايا بلا تفريط ولا إفراط لوجدنا أنها كلها أمور يسيرة لا تأخذ من الزوجة كلفة في وقتها أو جهدها ولا يمنعها من القيام بها إلا سوء التدبير والغفلة وسوء التصرف من ناحية، أو الكبر والاستعلاء على الطرف الآخر من ناحية أخرى. وهما معا معولا لهدم تلك الحياة لبنة بعد لبنة، فلا بالبيت سكنا أو سكينة ولا بالنفس رحمة أو مودة

وإن أمرنا بالسباق لنفز بجنة عرضها السماوات والأرض ألا نتسابق لندخل جنة الأرض وليمهد كل من الزوجين الطريق فيها للآخر، فلن تحلو جنة الأرض إلا بحسن الصحبة وكذا جنة السماء ولنقف في النهاية مع من كان خُلُقه القرآن لنراه كم كان مسارعًا في مرضاة زوجاته حتى بلغ به أن حرم على نفسه ما أحله الله له ابتغاء مرضاتهن ولنا وقفة صغيرة مع حديث أنس بن مالك حين كان يصف النبي “”: (خدمت رسول الله عشر سنين فوالله ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا) أخرجه البخاري ومسلم.

كل هذا مع حسن التوكل على الله وتفويض الأمر كله لله فلو شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلن يحدث في كون الله إلا ما أراده الله وكذلك في بيتك فاتركى الأمر لله فعلام الصراع ولم تثار المشكلات لأتفه الأسباب، اعتمدي على اختيار الله لك في كل شيء… إن اختلفتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله، استخيري الله في كل شيء حتى يُخير لك مصداقا لقوله تعالى فَإِن تَنَتَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ (النساء: (٥٩) ولكن قبل ومع الاستخارة قولي نعم لتسمعي أمامها ألف نعم… قولي نعم لينعم الله عليك في الدنيا و الآخرة

وفي النهاية
فقد وقفنا مع تلك الوصايا وقفة من يبحث في الحكمة ولا يضره من أي وعاء خرجت تختلف الأجيال جيلا بعد جيل وتتوالى الأيام والأعوام وتبقى الحكمة ضالة المؤمن.. أينما وجدها فهو أحق الناس بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *