إلى كلِّ قارئٍ مَلُول (٢)

بقلم : الشيخ سيد الشاعر الشافعي الأزهري

وبعد انتظار طال لمدّة أسبوع كامل ؛ قابلتُه مرَّة أخرى بفُضُول انتابني فأرَّقَنِي وأزعجني ، أتطلع باشتياق إلى صَوَلاته وجَوَلاته في واحة الأدب والشعر كما أخبرني بنفسه في اللقاء الأخير ، حيث قال : الأدب وما أدراك ما الأدب !!

أراد أن يُخبرني أن الأدب واحة الأنس ، فيه تأنس الرُّوح بتَوْأَمِها من الأرواح ، وهي كما تعلم ـ جنود مُجَنَّدة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ـ وهذه قاعدةٌ روحيةٌ جليلة إذا سافرت بين ـ الكتب ـ ستجد ما يُبهِرك من المعاني الرائقة الصافية ويُكسِبُك دُرْبَةً في علم النُّفوس البشرية ، فلا تحط رحالك إلا عند من يُشبِهُكَ ، فكأنك هو! ، رغم اختلاف الزمان وتغير المكان ، متشابهان في رِقَّةِ النَّفس ، في الشعور والحِسّ ، في الفرح والتَّرح والغضب والرِّضا ، إذا عشق فأنت العاشق ، وإذا حزن فأنت الباكي ، أنتَ الذي امْتَطَيْتَ حصانه تَمْخُرُ به عُبَاب الصحراء بين الجبال وعلى الرمال ؛ تبحث عن خلوة بينك وبين من تُحِبّ ، فإذا جَنَّ عليك الليل قابلت محبوبك فأوقدتَ جمر الغَضَا وألقيت بظهرك على رمل أصفر صافٍ كالذهب الخالص ، تنظر إلى السماء والصفاء.

فطوراً تُنَاجي القمر ويناجيك ، تَبُثُّهُ أشواقك وتُسِرُّ إليه بمكنون صدرك ، ثم تُعَاهِده على الكِتمان ـ وأنت تعلم أنه لن يُفْشِي لك سِرَّاً ـ وهذا كله لا يكون بينك وبينه إلا إذا صفا!

فإذا صفا اسْتَنَارَ وجهه واسْتَدَار ، أما إذا تكَدَّر ، وحزن وتغير ، عَلَتْه ظُلْمَة تلتهم صفائه رويداً رويداً ، فلا تبرح إلا وهو ضعيف وحيد وهزيل كشعرة بيضاء في لحية سوداء ، فلا يجد ما يتَسَلَّى به ويخفف عنه إلا تلك المسامرات التي كانت بينكما ، ويقول في نفسه ـ وإياك يعني ـ : لعلَّها أيامٌ تَمُر! فيأتي الصفاء فيُبَدِّد نورُهُ ظلمةَ الكدر!

وطوراً تُدَاعِبُ النجوم وتتأمل بريقها ، وكأن السماء ادَّهَنَت بها فلمعت ، وصارت بينك وبين النجوم أُلفة حتى إنك لتعرف مواقعها وإن اكْتَظَّت بهم السماء ، تنظر إليها كل ليلة وكأنك تبحث عن نجم بعينه إذا رأيته استبشرت وفرحت ، فكأنه يخفف عنك شدة القيظ ويرطب على قلبك الذي احترق بنيران الشوق ؛ وآنسك بنوره الساطع ـ فهو ألمعهم ـ ، تحتمي به النجوم لجسارته وضخامته ؛ إنه ” سُهَيْل ” الذي ذَوَّب قلوب العشاق وخطف أنظارهم إليه لوسامته وحلاوته ونُبْلِه ، فأطلقوا عنان الخيال في وصفه ، ونسجوا الأساطير من أجله ، وزَوَّجُوه من نجم الشِّعْرَى! فهامت بحبه على وجهها تبحث عنه حتى عبرت المَجَرَّة كلها بطولها وعرضها بحثاً عن الحبيب وشوقاً إليه ، إذ كان في هذا الوقت قد انحدر إلى اليمن فصار ” سهيل اليماني ” .

التفَّ حوله الشعراء تماماً كما تفعل أنت في هذه الليلة ، سامروه كما تُسَامره ، فترى مثلاً شاعراً فحلاً وفارساً مغواراً لا يرجو من الدنيا وهو يحتضر ويجود بنفسه إلا أن يرى سُهَيْلاً! إنه حبيب القلب ” مالك بن الريب ” فيقول :
أقول لأصحابي ارفعوني فإنه يَقِرُّ بعيني أن سُهَيْلٌ بدا ليا!!

وشاعرٌ آخر فخور بنفسه صاحب عزة وأنفه ، كبير النفس عالي الهمة ، يعتز بنفسه وإن جالس الملوك! إذا أنشد الشعراء أشعارهم بين يدي ملكهم قاموا على سوقهم ينشدون ، إلا هو! فلا ينشد إلا جالساً ولسان حاله يقول : لست أقل منك أيها الملك حتى أقوم فأنشدك وأنت جالس تسمعني! ، هو أبو الطيب المتنبي لما أراد أن يتباهى بنفسه ويرفعها أعلى المقامات ويتعالى على خصمه ، شَبَّه نفسَه بـ ” سُهَيْل ” فقال :
وتنكر موتَهم وأنا سُهَيْلٌ طلعت بموت أولاد الـ…

إنه سُهَيْل!!
فتبيتُ على حالك هذا إلى أن تشرق الشمس ، وقد أخرجت ما في نفسك ، وفرَّغْت ( شُحْنَتَك ) واستبدلتها بطاقة رُوحية عجيبة ولذيذة!

أين كنتَ ستجد هذا الجمال إن لم تسافر إليه ( عبر كتاب )!

وإن تقابلنا مرة أخرى لأخبرنك بشيء من التفصيل ـ عن أخبارهم وأحوالهم ـ أكثر مما سمعته الآن مني فإني على عَجَلة من أمري ، أتركك الآن في حفظ الله وأمنه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *