حُجِّية عمل أهل السعودية

بقلم الدكتور / الفاتح محمد

هناك فكرة مترسخة عند كثير من الناس، من الممكن أن نسمِّيَها “حُجِّية عمل أهل السعودية”؛ فكثير من الناس يقتنعون بالآراء الفقهية أو المنهج الفقهى لا لشيء إلا لأنه عمل أهل السعودية!! ويرون -بلسان الحال- فى هذا أصلا شرعيا ودليلا قائما بذاته.

فى التراث الفقهى قام المذهب المالكى على أصول منها “حُجِّيَّة عمل أهل المدينة”؛ فاجتماع أهل المدينة على عمل ما دليل شرعى له حُجِّيَّته.

ولكن هناك اختلاف شاسع بين الأمرين من حيث البُعدان الزمنى والمكانى؛ أما من حيث البعد الزمنى فالإمام مالك وُلد عام ٩٣ من الهجرة؛ أى بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بثمانين عاما تقريبا؛ أى بينه وبين صاحب الرسالة جيلان أو ثلاثة أجيال فقط؛ فاجتماع هؤلاء على عمل معين فيه دلالة على شرعيته للصوق عهدهم بعهد الرسالة.
لكن من يحتج بعمل أهل السعودية الآن بينه وبين عهد الرسالة ألف وأربعمائة سنة أو يزيدون؛ فأين هذا من ذلك؟!

أما من حيث البعد المكانى فإن المدينة المنورة محدودة المكان، وهى المكان الذى استقر به النبى صلى الله عليه وسلم والسادة الأنصار وبعض كبار الصحابة، ثم جاء من بعدهم شيوخ التابعين وتابعيهم؛ فكان العلم الشرعى وقتها غضًّا طريًّا.
فى المقابل ففى الحالة السعودية أنت تتعامل مع كيان سياسى لم يكن موجودا أيام النبوة، بل إنه قبل مائة سنة لم يكن له وجود.. هذا الكيان الجغرافى الذى اكتسب قدسية لا هو يقتصر على مكة المكرمة والمدينة المنورة حيث البعد الروحى والنورانى. ولا هو يقتصر على إقليم الحجاز الذى يشتمل على هاتين البقعتين الطاهرتين.. وكذلك فهو لا يتسع ليشمل كل جزيرة العرب من اليمن وعمان وإمارات الخليج؛ فيمثل كيانا جغرافيا له شخصيته التاريخية.

أنت أمام كيان سياسى يشتمل على نجد وقبائل الأعراب الذين لم يكن كثير منهم على وفاق مع الدعوة الإسلامية فى مهدها ووردت الآيات والأحاديث فى ذمِّ كثير منهم والتحذير من الفتن التى ستأتى من هذه المنطقة. وكذلك أنت تهمل اليمن التى وردت الأحاديث فى الثناء عليها وعلى أهلها والدعاء لها. إذن فالحالة السعودية تختلف تمام الاختلاف عن الحالة المدنية التى كانت على عهد الإمام مالك رضى الله عنه.

والمتترسون وراء فكرة عمل أهل السعودية لديهم مشكلة لا يستطيعون أن يجدوا لها حلًّا.. وهذه المشكلة تكمن فى أن بلاد السعودية لم تكن على مر التاريخ على حال واحد، بل إنها ظلت قرونا كثيرة على أمور هى فى رأى أكثر مشايخ السعودية المعاصرين تعد من الشركيات والكفر، بل إن الدعوة الوهابية حينما ظهرت قبل ٢٥٠ سنة تقريبا قامت على فكرة أن الأصل فى المجتمع المحيط هو الكفر ووجود شخص يعرف التوحيد الحقيقى هو الاستثناء.. وقد نالت الدعوة الوهابية هزائم متتالية؛ حتى انتصرت أخيرا مع الدولة السعودية الثالثة بتحالفها مع بريطانيا قبل مائة سنة تقريبا من الآن.

وقد يقول قائل منهم: ولكن العبرة بالخواتيم، وما يهمنا أن المنهج الصحيح هو الذى انتصر أخيرا..
وهذا أيضا غير مسلم به من وجهين؛ الأول أن كلمة أخيرا هذه نسبية؛ فما تراه أنت “أخيرا، سيأتى جيل بعدك يراه حلقة من مسلسل فى الماضى، وما كان يراه الصوفية الخواتيم عند هزيمة الدعوة الوهابية على يد القائد المظفر إبراهيم باشا أصبح بالنسبة لنا جزءا من الماضى. والثانى أن الخواتيم هذه ليست بالضرورة هى الجيدة ففى الحديث الشريف: لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس”.

ومما سبق يتبين أن هذا الرأى بالغ التهافت والوهن ولا يستند إلى أساس علمى بل استناده على أسس عاطفية تقاطعت مع عقود عمل لعشرات الملايين عادوا بطرق تفكير وأمزجة وثياب وكتب تشترى ولا تباع؛ مما شكل فتنة بكل ما هو سعودى.
ولا ندرى مع السياسة السعودية الجديدة والتغييرات الحاصلة فى المملكة هل سيظل المفتونون يبنون استدلالاتهم على عمل أهل المملكة أم لا؟!
ونسأل الله أن يرشدنا ويرشد إخواننا فى المملكة إلى الحق والاعتدال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *