آيات الحج (9)


بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى

قال تعالى في ختام منسك الحج: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} يتموا نُسَكَهم بإزالة الاتساخ والأذى الذي لحقهم في حال الإحرام؛ حتى يكونوا جميعا سواسية أمام اللَّه تعالى وفي ضيافة بيته، كما ولدتهم أمهاتهم، ويرجعون من الحج كما ولدتهم أمهاتهم، فالمقصود التسوية بين الجميع فينزِل كلُّ الأغنياء لمنزلة الفقراء، في حين لا يقوى الفقراء على الارتقاء لمنزلة الأغنياء{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}التي أوجبوها على أنفسهم من الحج، والعمرة والهدايا، وشُرِع الوفاء بالنذر بعد التحلل من الإحرام، حتى لا تختلط عبادتان ببعضهما، وليكون الإحرام بالحج خالصا للحج
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} القديم، أو المعتق من تسلط الجبابرة عليه، وخُص الطواف بالذكر؛ لأنه النسك المقصود بالبيت، وما قبله وسائل إليه، ولأن الطواف مشروع في كل وقت، سواء أكان تابعا لنسك أم مستقلا بنفسه، وشُدد لفظ (الطواف) وجاء بصيغة الافتعال، تأكيدا على ركنيته، والمراد هنا طواف الإفاضة وهو ركن الحج ولا يصح إلا بعد الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة صباح يوم العيد

{ذَلِكَ}خبرا لمبتدأ محذوف تقديره الحج هو ذلك، الذي علمتم من قضاء التفث وإتمام النسك{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ}كل ماله حرمة في الحج، كالمناسك كلها، والكعبة، والمسجد، والبلد، والشهر الحرام، وسائر العبادات، وحرمة الأشخاص والأموال والأعراض، وتعظيمها: إجلالها بالقلب، وتكميل العبودية لله فيها، بلا تهاون ولا تثاقل ولا تكاسل{فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}خير عظيم له في دينه، ودنياه وأخراه.

ثم ذكر الله تعالى منته وإحسانه بما أحله لعباده:{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} من إبل وبقر وغنم وشرعها من جملة المناسك، التي يتقرب بها إليه
{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ…}[المائدة: 3]، فالتحريم والتحليل بغير إذن الله تقول على الله وجحود بنعمته، وهذا التحريم من رحمة الله بعباده، أن حرم عليهم، ومنعهم مما هو شر لهم، تزكية لهم، وتطهيرا من الشرك وقول الزور، ولهذا قال:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} خبث وقذر الأنداد والأصنام التي جعلتموها آلهة مع الله، فإنها أكبر أنواع الرجس{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}جميع الأقوال المحرمات كالكذب وشهادة الزور، ومن قول الزور ما أحله المشركون ما حرم اللَّه فأكلوا ما أهلّ به لغير اللَّه من أوثانهم، وحرموا ما أحل اللَّه تعالى في تحريم السائبة والوصيلة والحام، وينسبون التحريم إلى اللَّه كاذبين مفتريين.

{حُنَفَاءَ لِلَّهِ}مقبلين عليه وعلى عبادته، معرضين عما سواه{غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}شيئاً{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} لا رجاء في نجاته كما لا رجاء في حياة الساقط من ارتفاع شاهق{فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} فالمشرك قد انحدر من سماء الإيمان وصفاء الروح والعقل والفكر، وهوى في براثن الشرك فقطعته الأهواء، وقسمته الضلالات، وفرقته الأوهام الفاسدة؛ حتى أضحى بلا فكر جامع، فهو في هبوطه تخطفه الطير، فقطعت أعضاءه، ومزقت أشلاءه، والتهمت أجزاءه.

والتشبيه الثاني: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فحال المشرك أيضاً كحال مَن خر من السماء، وصار كالريشة في مهب رياح الشك والأوهام، وصار ينتقل من ضلال إلى ضلال لَا إرادة له، حتى تحمله ريح عاصف، وتقذفه في مكان سحيق عن الحق والرشاد، فهو في كلا التشبيهين خاسر وهالك لا محالة.

اترك تعليقاً