حرمة الأموات كحرمة الأحياء
18 مايو، 2025
أخبار العالم الإسلامى

بقلم فضيلة الشيخ : أحمد السيد السعيد
(واعظ عام، وعضو لجنة التحكيم والمصالحات بالأزهر الشريف)
الحمد لله الذي كرَّم الإنسان حيًّا وميتًا، وجعل حفظ الأجساد بعد الرحيل من تمام المروءة، ومن دلائل الإيمان، والصلاة والسلام على من علَّمنا سنَّ للكون خُلق الوفاء حتى مع من غيّبهم الثرى؛ فأبان أن كسر عظم الميت ككسره حيًّا. أما بعد؛ فإن ما وقع في قرية ديبو عوام من هدمٍ للقبور، ونبشٍ للتراب الذي احتضن أجساد موتى المسلمين، وترك الجثامين مكشوفة في العراء هو منكر شنيع، وعدوان صريح على حرمة الموتى، يندى له جبينُ الشريعة، وتقف له النفس المؤمنة حائرة دامعة.
وقد دلَّت النصوص على أن للموتى حرمةً لا تقل عن حرمة الأحياء، بل ربما كانت أعظم؛ إذ لا ذنب لهم ولا يد في دفع الإيذاء، قال سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «كَسْرُ عظم الميت ككسره حيًّا» رواه أبو داود، وابن ماجه. وقال أيضًا: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» رواه مسلم.
وأجمع العلماء أن دفن الميت فرض كفاية، وأن نبش القبر لا يجوز إلا لضرورة ملجئة، وبشروطٍ تحفظ الكرامة وتصون الجسد، وقد قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس: 21]، أي جعله ذا قبر، لا عُرضةً للكلاب، ولا مأوىً للريح والتراب. وكفى بقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، حجةً على أن الكرامة تمتد لما بعد الموت، وأن القبر دار لها حرمتها كما للبيوت حرمتها.
إن قبور موتانا ليست حجارة تُنقل، بل تاريخٌ مسطور في تراب الأرض، وأمانةٌ في أعناق الأحياء، وسؤالٌ في صحائفهم يوم العرض على الله، فلا تقفوا على القبور كأنكم تقفون على أطلالٍ مهجورة، بل قفوا عليها كما يقف الابن على ثرى أبيه، والجندي على علم بلاده.
وصيتي للمتعدين على حرمة القبور: اتقوا الله فيمن لا يملكون الدفاع عن أنفسهم، فدعوة مظلومٍ حيٍّ قد تُمهل، أما صرخة ميت من تحت التراب، فربما يهتز لها عرش الرحمن، وما يُدريك؟!.
ووصيتي للعائلتين الكريمتين: امضوا في طريق المطالبة بحقوق موتاكم بالحكمة والموعظة الحسنة، واثبتوا على الطريق المشروع، فأنتم في موقف الكرامة لا الخصومة.
ووصيتي لأهل القرية جميعًا: اجعلوا من هذا الحدث نداء يقظة، تعيدون به الاعتبار لمقابركم، وتستردون به سكينة أرض احتضنت أحبابكم، فإن إكرام الميت حق حيٌّ لا يسقط بالتقادم.
ختامًا: القبور ليست حجارةً تُهدم، بل هي بيوت الصمت، وسكنى الأرواح، ومواعظ قائمة بيننا على الدوام. فليتق الله كل من سوَّلت له نفسه النيل من حرمتها، ولينظر كل امرئٍ ماذا قدم لغدٍ… فإن الغدَ قريب.