وتلك الأيام نداولها بين الناس


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

 

لم يكن التاريخ يوماً ثابتاً ولا المجد حكراً على أحد، بل هي سنن كونية وسيرورة زمانية، كما قال الحق تعالى: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”. فللأمم أيام عز ورفعة، كما لها أيام هوان وانكسار. وإذا تأملنا حال العالم الإسلامي اليوم، وقارناه بماضيه التليد، فإننا نقف أمام لوحة مؤلمة رسمها التدهور والانقسام، وطمست ألوانها أيادي التخاذل والتبعية.

في الماضي ، كان العالم الإسلامي في طليعة الحضارات. قاد المسلمون العالم في ميادين العلم والفكر والسياسة. في بغداد الأندلسية ودمشق العباسية والقاهرة الفاطمية، بزغت أسماء كالخوارزمي وابن سينا وابن رشد، وصدّرت الأمة علومها إلى الغرب. كانت الخلافة الإسلامية مظلة للعدل والحضارة، ووُصف المسلم بأنه رسول للعلم والأخلاق والتسامح.

أما اليوم ، فالأمة ممزقة بين نزاعات طائفية، وانقلابات سياسية، وتبعية اقتصادية. تحوّل الجسد الإسلامي إلى شظايا تتناحر فيما بينها، بينما العدو المشترك يعبث بالثروات والعقول والأرض. يكفي أن ننظر إلى ما يحدث في فلسطين وسوريا واليمن وليبيا، لنرصد كيف تحوّل الدم المسلم إلى خبر عابر، والمقدسات إلى صفقات، والهوية إلى عبء في نظر البعض.

إن أسباب هذا التدهور عديدة ومتشابكة، من أبرزها غياب الوحدة، وانتشار الجهل، واستفحال الاستبداد، والتبعية العمياء للغرب، وسيطرة أنظمة تصنع العدو الداخلي من كل فكرة حرة أو دعوة إصلاح. نعيش عصر التغريب لا التقدم، نستهلك أكثر مما ننتج، ونتبع أكثر مما نُبدع. وضاعت البوصلة بين فكر متشدد يغتال الجمال، وعلمانية مبتورة تمزق الهوية.

وسط هذا المشهد المعتم، يقف الشباب العربي المسلم في مفترق طرق، تائهاً حائراً، يبحث عن ذاته بين ثقافات دخيلة وصراعات داخلية. كثير من شبابنا اليوم يلهثون خلف نجوم الغرب، يقلدون سلوكهم، لغتهم، ملابسهم، بل وحتى أفكارهم عن الحياة والموت والدين. لم يعد الشاب المسلم يرى في هويته تميزاً، بل في بعض الأحيان يراها عبئاً يود التخلص منه، بفعل غياب القدوة، وتضليل الإعلام، ومؤسسات تربية فقدت دورها.

لقد سُلِبت عقول الشباب عبر شاشات تصور الحياة على أنها رقص ولهو وخيانة، وغُيّبت الرموز الحقيقية من عقولهم، فلا يعرفون شيئاً عن عمر بن الخطاب أو خديجة بنت خويلد، ولكنهم يحفظون أسماء نجوم الفن والموضة. أين الجوامع من احتضان فكرهم؟ أين المدارس من ترسيخ القيم؟ أين الإعلام من صناعة الوعي؟ لقد تُرك الشباب لفراغ روحي قاتل، ولصراعات يومية أرهقت أرواحهم، في ظل واقع لا يمنحهم أملاً ولا يحفزهم لصناعة مستقبل مشرق.

لكن رغم كل هذا، فإن نوراً لا يزال يسكن تحت الركام. فلو عدنا لمبادئ الأجيال الأولى من الدعوة الإسلامية، لوجدنا طريق الخلاص. فقد انتشر الإسلام في قلوب الناس قبل أن ينتشر في جغرافيا الأرض، وكان أقوى سلاحه هو الأخلاق. لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يملك سيفاً يقاتل به إلا في ميادين الضرورة، لكن سلاحه الدائم كان الصدق، الأمانة، الوفاء، العدل، الرحمة. لم يدخل الإسلام إلى أندونيسيا وماليزيا بالسيوف، بل دخل بتعامل التجار المسلمين الذين جسدوا الإسلام في أخلاقهم قبل أقوالهم.

لو عاد شبابنا إلى هذا النبع الصافي، لعرفوا أن القوة ليست في تقليد الغرب، بل في الثقة بالهوية، والاعتزاز بالانتماء، والعمل الجاد لتطوير الذات والمجتمع. ولو اقتدى حكامنا وخطباؤنا وساستنا بالجيل الأول، لعرفوا أن الإسلام لم يكن دين كراهية أو تسلط، بل دين حضارة وإنسانية وعدالة شاملة.

إن تلك الأيام التي نداولها بين الناس ما هي إلا عبرة لنا جميعاً، بأن النصر لا يُهدى، وإنما يُنتزع بالعمل والتضحية والصبر، وأن الهزيمة لا تعني النهاية، بل قد تكون بداية يقظة جديدة. فهل نعي الدرس قبل أن تدور الأيام علينا دورة لا رجعة فيها؟

اترك تعليقاً