مصر ورايتها الإسلامية: الأشاعرة والماتريدية، ودور الأزهر والتصوف في صياغة الهوية السنية

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )

مصر ورايتها الإسلامية: الأشاعرة والماتريدية، ودور الأزهر والتصوف في صياغة الهوية السنية

لطالما كانت مصر قلب العالم الإسلامي النابض، مهد الحضارات، ومنارة العلوم والمعارف التي أضاءت طريق الإنسانية. منذ دخول الإسلام إليها في عام 20هـ/641م على يد عمرو بن العاص، أصبحت مصر مركزًا للإشعاع الديني والفكري، حاملة لواء العقيدة السنية على منهج الأشاعرة والماتريدية، ومعقلًا للحفاظ على روح الإسلام الوسطية من خلال الأزهر الشريف، ورائدة في نشر التصوف الإسلامي باعتباره منهجًا تربويًا يزكي النفس ويؤسس لمجتمع الفضيلة.

مصر والعقيدة السنية: الأشاعرة والماتريدية

مع ظهور الأشاعرة على يد الإمام أبي الحسن الأشعري (260هـ – 324هـ) والماتريدية على يد الإمام أبي منصور الماتريدي (ت. 333هـ)، وُجدت العقيدة السنية العقلانية التي جمعت بين النقل والعقل لترد على الفرق الضالة التي انحرفت عن منهج أهل السنة والجماعة. مصر، بسبب موقعها الجغرافي وثقلها الثقافي، كانت دائمًا في طليعة الشعوب التي تبنت هذا النهج.

انتشار العقيدة الأشعرية في مصر

مع دخول الدولة الأيوبية إلى مصر في القرن السادس الهجري، تم تعزيز العقيدة الأشعرية كمذهب رسمي. سعى صلاح الدين الأيوبي (ت. 589هـ) إلى تخليص مصر من الموروث الفاطمي الشيعي، فدعم الأزهر الشريف ليكون مركزًا لنشر المذهب السني والعقيدة الأشعرية.

الأزهر الشريف، الذي تأسس في الأصل كمؤسسة شيعية فاطمية، تحول على يد الأيوبيين إلى قلعة سنية. عمل العلماء المصريون على إثراء العقيدة الأشعرية، مثل الإمام الشاطبي الذي قدم منهجًا متميزًا في أصول الفقه، والإمام السيوطي الذي كان من أبرز المدافعين عن الوسطية الإسلامية.

الماتريدية في مصر

رغم أن الماتريدية ارتبطت بالمذهب الحنفي الذي كان أكثر انتشارًا في بلاد المشرق والهند، إلا أن مصر احتضنتها أيضًا عبر المدارس الحنفية التي كانت منتشرة في عهد الدولة العثمانية. علماء الماتريدية في مصر، مثل الإمام الكمال بن الهمام (ت. 861هـ)، أثروا الفكر الإسلامي، لا سيما في القضايا المتعلقة بالاعتقاد والتفسير.

فلسفة الأشاعرة والماتريدية

أبرز ما يميز هذين المنهجين هو المزج بين النقل والعقل. الأشاعرة، على سبيل المثال، اعتمدوا على تأويل النصوص المتشابهة بما يتوافق مع العقل. فحين يقول الله تعالى: “الرحمن على العرش استوى” (طه: 5)، فسرها الأشاعرة بأنها تعني العلو والسيطرة دون إثبات كيفية، مما ينزه الله عن مشابهة المخلوقات. الماتريدية بدورهم ركزوا على تعزيز الإيمان عبر استخدام العقل لتثبيت أصول الدين، خصوصًا في مواجهة الملاحدة وأهل البدع.

الأزهر الشريف: منارة العالم الإسلامي

منذ أن تحول الأزهر الشريف إلى معقل للسنة في العهد الأيوبي، لعب دورًا محوريًا في الحفاظ على الهوية السنية. الأزهر لم يكن مجرد مدرسة للعلوم الشرعية، بل كان مؤسسة حضارية شاملة تجمع بين مختلف العلوم الإسلامية والعقلية.

الأزهر ومقاومة الأفكار المنحرفة

على مدار التاريخ، كان الأزهر قلعة صامدة في مواجهة الأفكار الهدامة التي استهدفت الإسلام. تصدى الأزهر للحركات الباطنية، ووقف في وجه التيارات العقلانية المتطرفة التي أرادت تقويض النصوص الشرعية لصالح العقل المجرد. في العصر الحديث، لعب الأزهر دورًا بارزًا في محاربة الغلو والتطرف، ودعا إلى الوسطية التي تمثل جوهر الإسلام.

الأزهر مركزًا عالميًا للعلماء

الأزهر لم يكن محصورًا بمصر، بل كان مقصدًا للطلاب من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. أسماء لامعة مثل الإمام ابن حجر العسقلاني (ت. 852هـ)، مؤلف “فتح الباري”، والإمام جلال الدين السيوطي (ت. 911هـ)، صاحب التصانيف الموسوعية، هم نتاج هذه المدرسة العريقة.

التصوف في مصر: الإحسان كروح الإسلام

إذا كان الفقه يمثل جسد الإسلام، والعقيدة تمثل قلبه، فإن التصوف يمثل روحه. التصوف في مصر كان امتدادًا طبيعيًا لفهم الإسلام في أبعاده الروحية. التصوف لم يكن بدعة دخيلة، بل كان تجسيدًا لما ورد في الحديث النبوي: “أن تعبد الله كأنك تراه” (رواه البخاري).

أبرز أعلام التصوف في مصر

1. الإمام الشاذلي:
أبو الحسن الشاذلي، صاحب الطريقة الشاذلية، كان من أبرز أعلام التصوف. قدم الشاذلي مفهومًا متوازنًا للتصوف، حيث دعا إلى الجمع بين العمل والذكر، وبين العبادة الفردية وخدمة المجتمع.

2. السيد البدوي:
أحمد البدوي، الذي استقر في طنطا، كان من أبرز الأولياء الذين أثروا في التصوف المصري. الطريقة البدوية التي أسسها أصبحت رمزًا للزهد والخدمة الاجتماعية.

3. عبد الوهاب الشعراني:
أحد أبرز فقهاء التصوف في مصر، حيث سعى إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة. كان يرى أن التصوف لا يمكن أن يكون بعيدًا عن الالتزام بالكتاب والسنة.

4. ذي النون المصري:
ذو النون المصري (ت. 245هـ)، العارف بالله وأحد أقطاب التصوف الإسلامي، كان شخصية فريدة أثرت في الفكر الصوفي. وُلد في أخميم بصعيد مصر، وكان متمكنًا في علوم القرآن والحديث واللغة، لكنه اشتهر بعمق تأملاته الروحية. يُنسب إليه أول استخدام لمصطلح “الحال” في التصوف، وكان يقول: “من عرف الله عاش، ومن أحب الله هان عليه كل شيء”.

التصوف ودوره الحضاري

التصوف في مصر كان له دور حضاري عميق. الطرق الصوفية لم تكن مجرد مدارس للذكر والعبادة، بل كانت مراكز تعليمية وخيرية. التصوف ساهم في نشر الإسلام في إفريقيا وآسيا من خلال الدعاة الذين كانوا يحملون معهم القيم الأخلاقية للإسلام.

الإمام الشعراوي: العالم الرباني

الإمام محمد متولي الشعراوي (1911-1998م)، أحد أبرز علماء الأزهر الشريف في القرن العشرين، كان منارة للعلم والدعوة. اشتهر بتفسيره البسيط والعميق للقرآن الكريم، مما جعله قريبًا من قلوب عامة الناس.

فضل الشعراوي

كان الشعراوي نموذجًا للعالم العامل، حيث ركز على تقريب معاني القرآن للناس بلغة سهلة ومفهومة، مستخدمًا الأمثلة الحياتية. اعتبر أن القرآن هو كتاب الحياة، وكان يقول: “القرآن لا يُعطي سره إلا لمن يتدبره”. أسهم الشعراوي في محاربة الإلحاد والأفكار المغلوطة، وكان من أبرز المدافعين عن التصوف الشرعي.

فضل مصر على العالم الإسلامي

مصر كانت وما زالت منارة للعلم والثقافة الإسلامية. الأزهر الشريف نشر الفكر السني المعتدل، وخرّج علماء أثروا في كل بقاع الأرض. التصوف المصري، بروحه السنية، كان عامل استقرار روحي في العالم الإسلامي.

مصر لم تكن مجرد متلقية للفكر الإسلامي، بل كانت منتجة له. علماؤها، مثل الشافعي، السيوطي، وابن حجر، تركوا بصمات لا تمحى في الفكر الإسلامي. الطرق الصوفية المصرية مثل الشاذلية والرفاعية ساهمت في نشر الإسلام الوسطي في إفريقيا وأوروبا.

مصر، بحضارتها العريقة، وعلمائها الأفذاذ، ومؤسساتها الإسلامية كالأزهر الشريف، كانت ولا تزال حاملة لواء الإسلام السني. دفاعها عن العقيدة الأشعرية والماتريدية، ونشرها لروح التصوف، جعلها منارة للإسلام المعتدل في كل العصور. إنها بحق مركز إشعاع حضاري وديني، وإرثها الفكري والروحي هو هدية للعالم الإسلامي.

اترك تعليقاً