خطبةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةُ ( اَلْبِيئَةُ هِيَ الرَّحِمُ الثَّانِي وَالْأُمُّ الْكُبْرَ ) للدكتور محمد حرز


خطبةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةُ: اَلْبِيئَةُ هِيَ الرَّحِمُ الثَّانِي وَالْأُمُّ الْكُبْرَى

للدكتور / مُحَمَّدٌ حَرْزٌ

 

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه

albeaa he alrahem

بِتَارِيخِ 2 جُمَادَى الأُولَى 1447هـ ، المُوَافِقَةُ 24 أُكْتُوبَرَ 2025م.

الحَمْدُ لِلَّهِ الْواحِدِ الأَحَدِ، الفَرْدِ الصَّمَدِ، تَعَالَى عَنْ الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ وَالنِّدِّ وَالْوَلَدِ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ جَاءَ بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَأَمَرَ بِبَذْلِ الْمَعْرُوفِ، وَكَفِّ الْأَذَى، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أُولِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، وَعَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ اهْتَدَى، أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ حَقَّ التَّقْوَى وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مِّمَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ).وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) الحشر: [18].
عِبَادَ اللّهِ: (((اَلْبِيئَةُ هِيَ الرَّحِمُ الثَّانِي وَالْأُمُّ الْكُبْرَى))) عُنْوَانُ وَزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.
عَـنَـاصِـرُ اللِّقَاءِ:
أَوَّلًا: البِيئَةَ البِيئَةَ عِبَادُ اللَّه.
ثَانِيًا: فَلْنُحَافِظْ جَمِيعًا عَلَى بِيئَتِنَا.
ثَالِثًا وَأَخِيرًا: العُنْفُ ضِدَّ الْأَطْفَالِ كَارِثَةٌ كُبْرَى.
أَيُّهَا السَّادَةُ: بَدَايَةً مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْمَعْدُودَةِ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ البِيئَةِ وَكَيْفِيَّةِ المُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَالْبِيئَةُ هِيَ الأَرْضُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالشَّجَرُ وَالْحَجَرُ وَالْأَنسَانُ وَالْحَيَوَانُ وَجَمِيعُ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ وَخَاصَّةً وَالْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ لَا يُحَافِظَ عَلَى الْمِيَاهِ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْهَوَاءِ النَّقِيِّ سَوَاءً بِالدُّخَانِ وَحَرْقِ الْقَشِّ وَدُخَانِ السَّيَّارَاتِ الْمُلوِّثِ لِلْبِيئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ التَّلَوُّثِ الَّتِي انْتَشَرَتْ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ بِصُورَةٍ مُخْزِيَةٍ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ، وَخَاصَّةً وَمِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبِيئَةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَتَجَنُّبُ تَلْوِيثِ الْحَدَائِقِ وَالْمُنْتَزَهَاتِ، بِبَقَايَا الأَطْعِمَةِ وَالنُّفَايَاتِ، وَالْمُخَلَّفَاتِ الْبِلاسْتِيكِيَّةِ وَالزُّجَاجِيَّةِ الَّتِي تَضُرُّ بِالْإِنْسَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ
مَتى يَبلُغُ البُنيانُ يَوماً تَمامَهُ****إِذا كُنتَ تَبنيهِ وَغَيرُكَ يَهدِمُ

أَوَّلًا: البِيئَةَ البِيئَةَ عِبَادُ اللَّه.

أَیُّهَا السَّادَةُ: الإِسْلَامُ دِينُ الإِيمَانِ وَالْقِيمِ الْإِنْسَانِيَّةِ الرَّفِيعَةِ وَالْمَبَادِئِ السَّامِيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْبِيئَةِ، وَعَدَمُ تَلْوِيثِ مُحِيطِهَا الْحَسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِأَيِّ آثَارٍ ضَارَّةٍ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْبِيئَةِ جُزْءٌ مِنْ إِيمَانِ الْفَرْدِ الْمُسْلِمِ؛ وَبَانْتِفَائِهَا لَا يَكْمَلُ الإِيْمَانُ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الإِيمَانُ بُضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بُضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَىٰ عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، بَلْ جَعَلَ ذَلكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَاتِ؛
قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَتُمِيطُ الْأَذَىٰ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَجَعَلَهَا الإِسْلَامُ الْعَظِيمُ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ، لَا تُدْفَنُ» [رَوَاهُ مُسْلِم].
وقد أفاءَ اللهُ عزّ وجلّ عَلى عبادِهِ بآلاء الطبيعةِ وبَهَائِهَا، والبَرَارِي ونَقَائِهَا، قالَ سُبْحَانَهُ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ)فاطر: [27] وقال عزَّ شَأْنُهُ: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) ق: [7-8] .

وَكَيْفَ لَا؟
وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا سَخَّرَ مَكَوِّنَاتِ الْبِيئَةِ الَّتِي صَنَعَهَا فَأَتْقَنَ صُنْعَهَا لِمَخْلُقِهِ الَّذِي كَرَّمَهُ وَفَضَّلَهُ، وَجَعَلَهَا مُهَيَّأَةً لَهُ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾ [إبراهيم: ٣٢، ٣٤. قَالَ جَلَّ وَعَلَا:: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ((النحل: ١٢

وَكَيْفَ لَا؟
واللَّهُ جلَّ وعلا جَعَلَ عَناصرَ تَكوينِ البِيئةِ حَقًّا مُشترَكًا بَيْنَ البَشَرِ جَميعًا كَيْ يَستَفيدوا مِنها؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ثَلاثٌ لَا يُمنَعْنَ: الْمَاءُ، وَالْكَلَأُ، وَالنَّارُ» [رواه ابنُ ماجه(( وعَنْ أَبِي خِدَاشٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ» [رواه أحمدٌ].لِذَا أَوْجَبَ الإِسلامُ عَلَيْنَا ضَرُورَةَ المُحَافَظَةِ عَلَى تِلْكَ العَناصِرِ الَّتِي خَلَقَهَا؛ لِاسْتِدامَةِ الحَيَاةِ؛ وَإِبْقاءِ التَّوازُنِ عَلَى الْأَرْضِ، دُونَ أَنْ يُعَرِّضَهَا لِلضَّرَرِ الَّذِي يَترُكُ تَأثِيرًا مُبَاشِرًا عَلَى الإِنْسانِ، وَالكَائِناتِ الحَيَّةِ؛ فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ” رواه ابنُ ماجه).

وإنّ السَّعْيَ في إفسادِ البيئةِ، وإلحاقَ الضَّرَرِ بالأماكنِ العَامَّةِ والحدائِقِ وغيرِهَا من المرَافِقِ، دَاءٌ عُضَالٌ، لا يَتَلَبَّسُ بهِ إلا مَنْ فَسَدَ ذَوْقُهُ، وسَاءَتْ سَرِيرَتُهُ وتَجرّدَ مِنْ أَبْسَطِ قَوَاعِدِ الذَّوْقِ العَامِ، ذَكَرَ الطبريُّ في تفسيرِهِ أنّ الأخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ وكان رجلاً حُلوَ الكلامِ، حُلْوَ المنْظَرِ، أتَى النبيَّ ﷺ مُظْهِرًا الإسلامَ، وَمَحَبَّةَ النَّبِيِّ ﷺ فَأَدْنَاهُ النبيُّ مِنْ مَجْلِسِهِ، ولمَّا خرجَ مِنْ عِنْدِهِ ﷺ مَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ المسلمينَ وُحُمُرٍ، فأَحْرَقَ الزَّرْعَ، وَعَقَرَ الحُمُرَ، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)البقرة: [204-205] فكانَ مِنْ مَظَاهِرِ نِفَاقِهِ، وسُوءِ طَوِيَّتِهِ، إِفْسَادُهُ للبيئةِ، بِإِهْلاكِ الحرث والنَّسْل، فَسَمَّاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ فَسَادًا، واللهُ لا يُحِبُّ المفْسِدِينَ، ودِينُنا حَرَّمَ الإفسَادَ فِي الأَرْضِ، ونَهَى عَنْ التَّخْرِيبِ الَّذِي يَتَسَبَّبُ فِيهِ الإنسَانُ لِلبيئَةِ السَّليْمَةِ كُلًّا، وبَيَّنَ مَوْقِفَهُ مِنَ المُفْسِدِينَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [البَقَرَةِ: 60]،

وقَالَ جَلَّ اسْمُهُ: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ﴾ [الأعْرَافِ: 56]. فَأَيْنَ نَحْنُ أَيُّهَا الْأَخْيَارُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ؟ وَأَيْنَ مُجْتَمَعُنَا الْإِسْلَامِيُّ مِنْ أَمْرِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبِيئَةِ وَنَحْنُ نَرَى الْقُمَامَةَ وَالْقَاذُورَاتِ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ مُتَنَاثِرَةً فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَعِندَ كُلٍّ بَيْتٍ، حَتَّى أَصْبَحَ هَوَاؤُنَا مُلَوَّثًا، وَمَاؤُنَا مُلَوَّثًا، وَمَنَاخُنَا مُتَغَيِّرًا، وَالنَّتْنُ وَالْأَوْسَاخُ فِي بِيئَتِنَا ظَاهِرَةٌ وَبِكَثْرَةٍ، وَالْحَرَارَةُ تَزْدَادُ ارْتِفَاعًا وَسُخُونَةً مِنْ عَامٍ إِلَى عَامٍ بِسَبَبِ فَسادِ الْبِيئَةِ. حَتَّى خَضْرَوَاتُنَا وَفَوَاكِهُنَا، وَطَيِّبَاتُنَا لُوِّثَتْ بِالْمَسْمَدَاتِ وَالْمَوَادِ الْكِيْمَاوِيَّةِ، وَالْهُرْمُونَاتِ وَالْمَوَادِ الْمُسَرْطِنَةِ، وَالْمُبِيدَاتِ الَّتِي يُسْتَخْدِمُهَا مَن يَعْرِفُ وَمَن لَا يَعْرِفُ، وَصَدَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذْ يَقُولُ: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾.

ثَانِيًا: فَلْنُحَافِظْ جَمِيعًا عَلَى بِيئَتِنَا.
أَیُّهَا السَّادَةُ: الْإنْسَانُ مُسْتَخْلَفٌ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 30]. وَهَذِهِ الْخِلَافَةُ فِي الْأَرْضِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَسْئُولِيَّةٌ جَسِيمَةٌ، قَالَ صلى الله عليه وَسَلَّمَ: “إِنَّ الدُّنْيَا حَلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَنَاظِرُوا مَاذَا تَعْمَلُونَ”. فَمَفْهُومُ الاسْتِخْلاَفِ لِلْإِنْسَانِ خَيْرُ رَابِطٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِيئَتِهِ، فَخَالِقُ الْإِنْسَانِ وَصَانِعُ الْبِيئَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِن طِينٍ)(السَّجْدَة: 7)

لَّذَا يَجِبُ عَلَيْنَا جَمِيعًا الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْبِيئَةِ وَجَمِيعِ مَكُونَاتِهَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا:{ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة: 60]. وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) لَذَا أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ الْحِرْصَ عَلَى عُمَارَةِ الْأَرْضِ لِلنَّفْعِ الْعَامِّ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا، فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ» [رواه مسلم) وعَنْ أَنَسِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا» [رواه البخاري في الأدب المفرد].

وَمِنْ صُورِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبِيْئَةِ :

الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا مِنَ التَّلَوُّثِ بِجَمِيعِ صُوْرِهِ وَأَلْوَانِهِ: وَخَاصَّةً وَالتَّلَوُّثُ خَطَرُهُ جَسِيمٌ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ وَعَلَى الْكَوْنِ بِأَسْرِهِ، وَخَاصَّةً وَنَحْنُ فِي مَوْسِمِ حَصَادِ الْإِرْزِ، وَالْكَثِيرُونَ مِنَ الْفَلَّاحِينَ إِلَّا مَا رَحِمَ يَقُومُ بِحَرْقِ الْقَشِّ مِمَّا يَحْدُثُ تَلَوُّثًا لِلَّهَوَاءِ، وَخَاصَّةً وَفِي الْأَفْرَاحِ نَرَى وَنُشَاهِدُ إِزْعَاجَ وَتَلَوُّثًا سَمْعِيًّا مِنْ سَيَّارَاتٍ وَمُوتُسِيكلاتٍ وَتَفْحِيرٍ بِهُمَا وَدُخَانٍ مِنَ الْإِطَارَاتِ، وَكُلُّ هَذَا إِضْرَارٌ وَإِفْسَادٌ وَتَلَوُّثٌ بِالْبِيئَةِ وَيَضُرُّ بِصِحَّةِ الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُؤَثِّرُ عَلَى الْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. والتَّلَوُّثُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ دَاءٌ اجْتِمَاعِيٌّ خَطِيرٌ، وَوَبَاءٌ خُلْقِيٌّ كَبِيرٌ، وَظَاهِرَةٌ سَلْبِيَّةٌ مُدَمِّرَةٌ لِلْأَفْرَادِ وَالدُّولِ، وَيُعَدُّ طَمَعُ النَّفْسِ وَغِيَابُ الْوَعْيِ وَضُعْفُ الْوَازِعِ الدِّيْنِيِّ، وَعَدَمُ مُرَاقَبَةِ الْمَوْلى جلَّ وعَلا، وَالتَّلَوُّثُ خَطَرُهُ جَسِيمٌ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ.

وَمِنْ صُورِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبِيْئَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى نِعْمَةِ الْمَاءِ: الْمَاءُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْمَاءُ؟ مَصْدَرُ الْحَيَاةِ، وَأَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا وَمِنْ أَوَّلِهَا فِي الْوُجُودِ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ أَسَاسَ الْحَيَاةِ وَعُنْصُرَهَا، الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ وَتَبْدَأُ مِنْهُ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: 30].

فَلْنُحَافِظْ عَلَى نِعْمَةِ الْمَاءِ بِحُسْنِ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَحُسْنِ اسْتِغْلَالِهِ، وَالاقْتِصَادِ وَالتَّرْشِيدِ فِي اسْتِعْمَالِهِ، فَأَيُّ إِسْرَافٍ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ هُوَ تَصَرُّفٌ سَيِّءٌ وَسُلُوكٌ غَيْرُ حَمِيدٍ، جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ صَرِيحًا فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: ٣١] وَإِذَا كَانَ الإِسْرَافُ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَمَمْنُوعًا مِنْهُ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ بِإِسْرَافٍ فِي مَجَالَاتٍ أُخْرَى أَكْثَرُ مَنْعًا وَأَشَدُّ خَطَرًا.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: “مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟” قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: “نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ”. فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْمَاءِ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ، وَوَاجِبٌ وَطَنِيٌّ، وَمَسْؤُولِيَّةٌ وَوَفَاءٌ تَقَعُ عَلَى عَاتِقِ الْجَمِيعِ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَاءِ، اللَّهَ اللَّهَ فِي عَدَمِ الإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ.

وَجَاءَ النَّهْيُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلْوِيثِ الْمَاءِ، كَأَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَهَذَا السُّلُوكُ الشَّنِيعُ يَجْعَلُ الْمَاءِ الرَّاكِدَ مُسْتَنْقَعًا وَمَوْطِنًا لِانْتِشَارِ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» [متفق عليه].
وَمِنْ صُورِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبِيْئَةِ : الْمُحَافَظَةُ عَلَى الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ؛ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)) وقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي الحَدِيثِ: التَّحْذِيرُ مِنْ الأَفْعَالِ الَّتِي يَلْعَنُ مِنْ خِلَالِهَا النَّاسُ فَاعِلِيهَا، كَمَنْ يُلَوِّثُ قَارِعَةَ الطَّرِيقِ، أَوْ ظِلَّ الشَّجَرَةِ، أَوْ ضِفَاف الأَنْهَارِ، وَمَجَامِعَ السُّيُولِ بِفَضَلَاِتِه؛ مِمَّا يَحْرِمُهُمْ الجُلُوسَ فِيهَا وَالاِسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَيُقَاسُ عَلَيْهَا مَنْ يُلَوِّثُهَا بِفَضَلَاتِ طَعَامِهِ.

وَمِنْ صُورِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبِيْئَةِ : الْمُحَافَظَةُ عَلَى الدَّوَابِّ النَّافِعَةِ فعَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ، فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً» [رواه أبو داود.وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ» رواه البخاري. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، إِلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْهَا»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: «يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا، وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا»[رواه النسائي].

فحَافِظُوا عَلَى بِيئَتِكُمْ وَمَرافِقِهَا الْعَامَّةَ، فَفِي نَظَافَتِهَا وَنَقَائِهَا طَيْبَةُ النُّفُوسِ، وَسَلَامَةُ الْأَجْسَادِ مِنَ الْعَلَلِ، وَالْغَرْسُ وَالزَّرْعُ يَزِيدُ الْبِيئَةَ نَضَارَةً وَجَمَالًا، وَيُخَفِّفُ مِنْ غُلَاءِ التَّلَوُّثِ؛ كَمَا أَرْشَدَ نَبِيُّكُمْ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ منه طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ؛ إِلَّا كانَ له به صَدَقَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَهَلْ شَكَرْنَا اللهَ عَلَى هذِهِ النِّعْم الْعَظِيمَةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَبِالْبُعْدِ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَالْآثَامِ؟ إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا … فَإِنَّ الْمَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَم وَحَافِظْ عَلَيْهَا بِتَقْوَى الإِلَهِ … فَإِنَّ الإِلَهَ سَرِيعُ النِّقَم فَسُبْحَانَكَ رَبَّنَا مَا أَعْظَمَكَ، فَلَا قُدْرَةَ فَوْقَ قُدْرَتِكَ، وَلَا قُوَّةَ فَوْقَ قُوَّتِكَ، تَخْلُقُ مَا تَشَاءُ، وَتَأْمُرُ بِمَا تَشَاءُ، وَتُمْسِكُ مَا تَشَاءُ عَمَّنْ تَشَاءُ، وَتُرْسِلُ مَا تَشَاءُ إِلَى مَنْ تَشَاءُ، سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَكَ! هَوَاءٌ، وَمَاءٌ، وَأَرْضٌ، وَسَمَاءٌ، وَبَرٌّ، وَبَحْرٌ، وَنُجُومٌ، وَكَوَاكِبُ، وَإِنْسٌ، وَجِنٌّ، وَمَخْلُوقَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَا لَا نَعْلَمُهُ مِنْهَا أَكْثَرُ مِمَّا نَعْلَمُهُ، وَمَا لَا نَرَاهُ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنَ الَّذِي نَرَاهُ، وَكُلُّهُمْ جُنُودٌ لِلَّهِ، خَاضِعُونَ لِعَظَمَةِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هذَا كُلِّهِ عَلِمَ وَأَيْقَنَ كَمَالَ قُدْرَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَرَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ، وَعَظَمَتَهُ سُبْحَانَهُ، وَإِبْدَاعَهُ فِي خَلْقِهِ.

وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
بِكَ أَسْتَجِيرُ وَمَنْ يُجِيرُ سِوَاكَا … فَأَجِرْ ضَعِيفًا يَحْتَمِي بِحِمَاكَا
إِنِّي ضَعِيفٌ أَسْتَعِينُ عَلَى قُوَى … ذَنْبِي وَمَعْصِيَتِي بِبَعْضِ قُوَاكَا
أَذْنَبْتُ يَا رَبِّي وَآذَتْنِي ذُنُوبٌ … مَا لَهَا مِنْ غَافِرٍ إِلَّا كَا
دُنْيَايَ غَرَّتْنِي وَعَفْوُكَ غَرَّنِي … مَا حِيلَتِي فِي هذِهِ أَوْ ذَاكَا
يَا غَافِرَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ وَقَابِلًا … لِلتَّوْبِ قَلْبٌ تَائِبٌ نَاجَاكَا
أَتَرُدَّهُ وَتَرُدَّ صَادِقَ تَوْبَتِي * حَاشَاكَ تَرْفُضُ تَائِبًا حَاشَاك
فَلْيَرْضَ عَنِّي النَّاسُ أَوْ فَلْيَسْخَطُوا * أَنَا لَمْ أَعُدْ أَسْعَى لِغَيْرِ رِضَاكَا

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ للهِ وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ، وَبِسْمِ اللهِ وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ……… أَمَّا بَعْدُ

ثَالِثًا وَأَخِيرًا: العُنْفُ ضِدَّ الْأَطْفَالِ كَارِثَةٌ كُبْرَى.

أَیُّهَا السَّادَةُ: يُعَدُّ العُنْفُ ضِدَّ الأَطْفَالِ مِنَ الظَّواهِرِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي تُهَدِّدُ صِحَّةَ وَنُمُوَّ الأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ، وَتُؤَثِّرُ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ، وَيَتَّخِذُ العُنْفُ أَشْكَالًا مُتَعَدِّدَةً تَشْمَلُ الإِيذَاءِ الْجَسَدِيِّ وَالنَّفْسِيِّ وَالْجِنْسِيِّ، وَالإِهْمَالَ؛ مِمَّا يَتْرُكُ أَثَرًا عَمِيقًا عَلَى الأَطْفَالِ مِنَ النَّاحِيَةِ النَّفْسِيَّةِ وَالسُّلُوكِيَّةِ؛ وأُطفالُنَا ثِمارُ قُلُوبِنَا، وعِمَادُ ظُهُورِنَا، وَفَلاَذَاتُ أَكْبَادِنَا، وأَحْشَاءُ أَفْئِدَتِنَا، وَزِينَةُ حَيَاتِنَا، أَوْلَادُنَا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنَّةٌ كَبِيرَةٌ وَمِنْحَةٌ جَلِيلَةٌ، أَوْلَادُنَا زِينَةُ الحَاضِرِ وَأَمَلُ المُسْتَقْبَلِ، هُمْ حَبَّاتُ القُلُوبِ سَمَّاهُمُ اللَّهُ زِينَةٌ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]،

قَالَ جَلَّ وعَلَا: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، أَوْلَادُنَا قُرَّةُ الْأَعْيُنِ، وَبَهْجَةُ الْحَيَاةِ، وَأُنسُ الْعَيْشِ، بِهِمْ يَحْلُو الْعُمْرُ، وَعَلَيْهِمْ تَعَلَّقُ الْآمَالُ، وَبِبَرَكَةِ تَرْبِيَتِهِمْ يَسْتَجْلِبُ الرِّزْقُ، وَتَنْزِلُ الرَّحْمَةُ، وَيُضَاعَفُ الْأَجْرُ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي تَقدِيرِ هَذَا النِّعْمَةِ تَفَاوُتًا كَبِيرًا، وَلَا غَضَاضَةَ فِي ذَٰلِكَ شَأْنُهَا شَأْنُ كُلِّ النِّعَمِ يُقَدِّرُهَا وَيَعْرِفُ حَقَّهَا مَن حَرَمَ مِنْهَا، وَيَتَجَاهَلُهَا وَيُقْصِيهَا مِن رِزْقِهَا أَوْ كَانَ مِنْهَا فِي كَفَافٍ، وَلَكِنَّ الْمُشْكِلَةَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَعْضُ هَـؤُلاءِ الْأَطْفَالِ الْأَبْرِيَاءِ حُقُولًا لِلْتَّعْذِيبِ وَمُمَارَسَةِ الْعُنْفِ بِكُلِّ أَلْوَانِهِ وَأَشْكَالهِ.

إنَّهَا مُصِيبَةٌ وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أَنْ يَتَحَوَّلَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى الطِّفْلِ إِلَى وَحْشٍ كَاسِرٍ، لَا يَرْحَمُ وَلَا يُشْفِقُ، وَلَا تَجِدُ الرَّحْمَةَ فِي قَلْبِهِ مَكَانًا. وَيَا لِلْعَجَبِ كَيْفَ يَتَحَوَّلُ قَلْبُ الْوَالِدِ أَوْ الْوَالِدَةِ إِلَى حَجَرٍ بَلْ أَشَدُّ مِنَ الْحَجَرِ تَجَاهَ مَنْ؟ تَجَاهَ هَـؤُلاءِ الْأَطْفَالِ الصِّغَارِ الَّذِينَ لَا حَوْلَ لَهُمْ وَلَا قُوَّةَ.

وَصَدَقَ النَّبِيُّ ﷺ إِذْ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا». [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ].
وَصَدَقَ نَبِيُّنَا ﷺ إِذْ يَقُولُ: «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ».

فَالتَّرْبِيَةُ – يَا سَادَةُ – لِينٌ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، وَشِدَّةٌ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ.
لَكِنْ مَا نَرَاهُ وَنُشَاهِدُهُ مِنْ تَكْتِيفٍ بِالسَّلَاسِلِ، وَحَرْقٍ لِبَعْضِ الْمَنَاطِقِ بِالْأَطْفَالِ، وَالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ، هَذَا جُرْمٌ خَطِيرٌ يُؤَدِّي إِلَى الِاكْتِئَابِ، وَإِلَى تَدَهْوُرِ الْحَالَةِ الصِّحِّيَّةِ لِلْأَطْفَالِ، وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إِلَى الْوَفَاةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

«وَكُلُّ رَاعٍ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
وَفِي حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ:
«مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ عِبَادَ اللَّهِ مِنَ الْعُنْفِ ضِدَّ الْأَطْفَالِ،
الْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْأَطْفَالِ،
الْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنِ انْتِزَاعِ الرَّحْمَةِ مِنَ الْقُلُوبِ،
الْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ مَعَ الْأَطْفَالِ،
فَهُمْ فَلَذَاتُ الْأَكْبَادِ، وَنُورُ الْعُيُونِ، وَهُمْ أَمَلُ الْأُمَّةِ فِي الْغَدِ الْقَرِيبِ

حَفِظَ اللهُ مِصْرَ قِيَادَةً وَشَعْبًا، مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَحِقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ.