مكانة الأسرة في الإسلام

بقلم الشيخ : علاء جمال زكريا من علماء وزارة الأوقاف

لمَّا كانت الأُسرة هي النَّواة التي من خلالها يكون صلاح أو فساد المجتمع أحاطها الإسلام بسياج من الأسس والقوانين لبناء أسرة متماسكة غير هشَّةٍ , وما اختل توازن الأسرة إلا إذا اختلت هذه الأسس, وتلك القوانين, وبخلل الأسرة يكون خلل المجتمع, وبتماسكها يكون تماسك المجتمع ومن هذه الأسس

1- جعل سبحانه تكوين الأسرة من خلال علاقة مشروعة بين الرجل والمرأة وهو الزواج.

ذلك لأن ميل الرجل للمرأة, والمرأة للرجل أمر فطري لذا صاغه الإسلام بوسيلة مشروعة تحتوي على حقوق وواجبات مكلف كل منهما بها تجاه الآخر وهو الزواج.

يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية: «لما أراد مبدع الكون بقاء أنواع المخلوقات جعل من نظام كونها ناموس التولد. وجعل من ذلك الناموس داعية جبلية تدفع أفراد النوع إلى تحصيله بدائع من أنفسها غير محتاج إلى حدوٍ إليه أو إكراه عليه، ليكون تحصيل ذلك الناموس مضموناً، وإن اختلفت الأزمان والأحوال. وتلك الداعية هي داعية ميل ذكور النوع إلى إناثه اهـ .»

قال الله تعالى “وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ يَكۡفُرُونَ ” [النحل: 72]
بل إنه سبحانه وتعالى عده من النعم فقال في نهاية الآية الكريمة وبنعمت الله هم يكفرون

قال ابن كثير في تفسيره: «يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى عَبِيدِهِ، بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَزْوَاجًا مِنْ جِنْسِهِمْ وَشِكْلِهِمْ [وَزِيِّهِمْ] ، وَلَوْ جَعَلَ الْأَزْوَاجَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ لَمَا حَصَلَ ائْتِلَافٌ وَمَوَدَّةٌ وَرَحْمَةٌ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَتِهِ خَلَقَ مِنْ بَنِي آدَمَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَجَعَلَ الْإِنَاثَ أَزْوَاجًا لِلذُّكُور اهـ.»

وقال سبحانه “وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ ” [النور: 32]

وفي الآية التي تليها حذر ولي المرأة من أن يكرهها على البغاء فقال سبحانه “وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ “[النور: 33]

وإن من يتأمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم يرى أنه كان يشجع شباب الصحابة على الزواج ويحثهم عليه وذلك لما فيه من تزكية للنفوس وتحصين للفروج وتطهير للمجتمعات فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: « كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللهِ بِمِنًى، فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ فَقَامَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ‌أَلَا ‌نُزَوِّجُكَ ‌جَارِيَةً ‌شَابَّةً، لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَاكَ، لَقَدْ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ».

2- أمر الإسلامُ بحسنِ اختيارِ كلا الزوجين للآخر.
لم يأمر الإسلام أن يختار كل من الزوجين للآخر بمعيار الوجاهة الاجتماعية ولا القدرة المالية وإنما حدد معياراً واحداً والتقوى والصلاح مع القدرة على مُؤَنة النكاح البدنية والصحية

عن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ”»

يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في تفسيره معقبا على هذا الحديث «ومع ذلك في مجتمعاتنا الكثير من العادات والتقاليد التي تعرقل زواج الشباب أخطرها المغالاة في المهور وفي النفقات والنظر إلى المظاهر. . إلخ

وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لأولياء الأمور: يسِّروا للشباب أمور الالتقاء الحلال ومهَّدوا لهم سبيل الإعفاف.

وقد أعطانا القرآن نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه وليُّ الأمر، فقال تعالى عن سيدنا شعيب عليه السلام: “قَالَ إِنِّيٓ أُرِيدُ أَنۡ أُنكِحَكَ إِحۡدَى ٱبۡنَتَيَّ هَٰتَيۡنِ عَلَىٰٓ أَن تَأۡجُرَنِي ثَمَٰنِيَ حِجَجٖۖ فَإِنۡ أَتۡمَمۡتَ عَشۡرٗا فَمِنۡ عِندِكَۖ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أَشُقَّ عَلَيۡكَۚ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ” [القصص: 27] ذلك لأن موسى عليه السلام سيكون أجيراً عنده، وربما لا يتسامى إلى أن يطلب يد ابنته؛ لذلك عرضها عليه وخطبه لها وشجَّعه على الإقبال على زواجها، فأزال عنه حياء التردد، وهكذا يجب أن يكون أبو الفتاة إنْ وجد لابنته كفؤاً، فلا يتردد في إعفافها اهـ.»

«ويروى عن الحسن بن عليّ رضى الله عنه : أتاه رجل فقال: إن لي بنتًا أحبها، وقد خطبها غير واحد، فمن تُشير علي أن أزوجها؟ قال: “زوّجها رجلًا يتقي اللَّه، فإنه ‌إن ‌أحبها ‌أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.»

وروى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«‌تُنْكَحُ ‌الْمَرْأَةُ ‌لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ.»

وروى ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «‌تخَيرُوا ‌لنُطَفِكُمْ».

3- أمر الإسلام أن تقام العلاقة بين الزوجين على مبدأ السكن والمودة والرحمة.

قال تعالى “وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ” [الروم: 21]
لما كانت العلاقة بين كل منهما علاقة استمرارية ودوام أحاطها الله عز وجل بثلاثة أمور (السكن-المودة-الرحمة) لأن الزواج مأخوذ من الازدواج كأن كلا الزوجين امتزجا حتى صارا جسدا واحدا والرجل يعطي لزوجه مالا يستطيع أن يعطيه لها أبوها وأخوها ويرى منها كذلك مالا يراه من أمه وأخته إذاً فالعلاقة بينهما تنكشف عنها الستائر فينبغي أن تكون محاطة بهذه الأمور الثلاثة التي أمر بها الله عز وجل ثم ختم سبحانه الآية بقوله ﵟإِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ” كأن في هذا إشارة إلى أن من يفعل ذلك أنما يكون عاقلاً لبيباً .

ومن بديع ما ذكرالشيخ الشعراوي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: «فالأولى أنْ يسكن الزوج إلى زوجته، وأنْ يطمئن إليها، ويرتاح بجوارها حين تمسح عنه عرقه، وتحتويه بعد تعب اليوم ومشاق الحياة، فإن امتنع السَّكَن بسبب مُنغِّصات للحياة، فليكُنْ بينهما مودة تجمعهما، ولِمَ لا، وأنت حين تصاحب صديقاًمثلاً مدة طويلة تجد له مودة في قلبك، وتجد أن لهذه المودة ثمناً،فتتحمله إن أخطأ، وتسامحه إنْ أساء، فما بالك بالزوجة، أليست أحق بهذه المودة؟

فإذا ما فُقِدَت المودة أيضاً، فليبْقَ بين الزوجين التراحم، فليرحم كل منهما الآخر إنْ أصابه الكِبَر أو المرض، أو غير ذلك اهـ.»

ومن بديع وبلاغة القرآن الكريم أن عبر عن العلاقة بين الزوج وزوجه باللباس فقال سبحانه ﵟهُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ ﵞ [البقرة: 187] ذلك لأن اللباس مما يستتر به فكأنه يريد أن يقول ينبغي على كلا الزوجين أن يكون كل منهما ساترا للآخر كاللباس الذي يستر الجسد.

4- أحاط الإسلام العلاقة بين كلا الزوجين بسياج من العفة والطهارة.

لما كانت العلاقة بين كلا الزوجين علاقة ازدواج واندماج حرم الإسلام كل ما من شأنه ينغص هذه العلاقة وأمر بكل ما من شأنه أن يحفظ العرض والنسب ومن هنا حذر من الزنا والتبرج والسفور ووضع لذلك حدا لا يجوز للمسلم أن يقترفه فقال سبحانه “ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ * ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ” [النور: 2-3]

وأمر كلا الزوجين بغض البصر وحفظ الفروج وبين سبحانه أن هذا أمر فيه تزكية للنفوس وتطهير للقلوب فقال سبحانه “قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ * وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ” [النور: 30-31]

يقول الطاهر بن عاشور: «إحاطة العلاقة بين الذكر والأنثى بمجموعة من المبادئ والآداب الأخلاقية التي تضمن تحقيق الأهداف السامية لهذه العلاقة وتستبعد الممارسات الفوضوية للعلاقات بين الجنسين، فعن طريق إيجاب غض بصر الذكر عن الأنثى والأنثى عن الذكر يقطع الإسلام الطريق على وسائل الإثارة في النفس البشرية. وبإيجاب اللباس الساتر بمواصفات خاصة يحارب التشريع أسباب الفتنه.

وفي غير حالات الضرورة القصوى يحرم على الرجل الاختلاء بالمرأة الأجنبية حتى وإن كانت ملتزمة باللباس الساتر، إلا بوجود أحد محارمها. وللبيوت في الإسلام حرمة عظيمة حيث لا يجوز دخولها دون استئذان أصحابها والسلام عليهم اهـ .».

وأخيرا ينبغي على كلا الزوجين أن ينظرا في الحقوق والواجبات التي على كل منهما للآخر حتى ينشئا أسرة تكون نافعة في المجتمع ويعملا بوصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري عن عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«كُلُّكُمْ ‌رَاعٍ، ‌وَكُلُّكُمْ ‌مَسْؤُولٌ ‌عَنْ ‌رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.»

إذا فينبغي على كل منهما أن يتق الله فيما استرعاه إياه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *