خطبة الجمعة القادمة: ﴿ كلمةُ ((أنا )) نوُر ونارٌ ﴾
لفضيلة الدكتور : د محمد حرز
بتاريخ 12 شوال 1446 هـ ، الموافق 11 أبريل 2025 م.
لتحميل الخطبة pdf اضغط على الرابط أدناه
ana nor wanar
الحمدُ للهِ الأول والآخر، والظاهر والباطن، خلق كل شيءٍ بعلمه فقدَّره تقديرًا، له الحمدُ في الأولى والآخرة، (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103]، الحمد لله الذي خَلَقَ النفوس وسوَّاها، وألهمها فجورَها وتقواها، وكتب الفَلَاح لمن زكاها، والخيبةَ على مَنْ دسَّاها وأتبعها هواها، نعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلي الصالحين، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصفيُّهُ مِن خلقِهِ وخَلِيلُهُ ، سيدُ الأولين والآخرين، وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين) القائلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاءَ ». ، فاللهم صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ الأطهارِ الأخيارِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَسَلِّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. أمّا بعدُ …..فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الأخيارُ بما وصَّى الله به الأولين والآخرين؛ حيث قال – جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18]..ألا فاتقوا الله – عبادَ اللهِ: -، وراقِبوه في الخَلوة والجَلوة، والغضبِ والرِّضا، واعبُدوه واشكرُوا له، إليه تُرجَعون.
عبادَ اللهِ: ﴿ كلمةُ ((أنا ))نورُ ونارٌ ﴾ بل إن شئت فقل( الأنا خيرها وشرها)
عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا.
أولًا: الأنانيةٌ مرضٌ خطيرٌ وشرٌّ مستطيرٌ،.
ثانيـًـــا :شتان شتان بين أنا وأنا !!!
ثالثًا وأخيرًا: هل أنت راضٍ عن نفسِك؟
أيُّها السادةُ : بدايةً ما أحوجَنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ إلى أنْ يكونَ حديثُنَا عن ﴿ كلمة ((أنا ))نور ونار ﴾ بل إن شئت فقل( الأنا خيرها وشرها) وخاصةً ونحن نعيشُ زمانًا انتشرَت فيهِ الأنانيةُ بصورةٍ مُخزيةٍ ولم يسلمْ منهَا أحدٌ والأنانيةٌ مرضٌ عضالٌ، وشرٌّ ووبالٌ، داءٌ يفرِّقُ القلوبَ، ويوغرُ الصدورَ، ويُذكِّي نارَ الفتنِ ، وخاصة كلمة “أنا” في مقام الإصلاح بينها وبين كلمة “أنا” في مقام الإفساد والكِبر والغُرور كما بين الثَّرى والثُّريَّا وخاصة والأنا قد تكون هلاكا ودمارا ونارًا لصاحبها وهي الأكثرية وقد تكون نورا وهدية وتوفيقا لصاحبها ، وخاصة والأنا كم أفسدت من أعمال الصالحين وكم جلبت من سخطِ ربِّ العالمين فهي فاكهةُ الأرزلين وسلاحُ العاجزين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .. يارب
رضاك خيرٌ من الدنيا وما فيها 

يا مالكَ النفسِ قاصيها ودانيها
فنظرةٌ منك يا سـؤلي ويا أملي 

خيرٌ إلى من الدنيـا وما فيها
فليـس للنـفسِ آمـالٌ تحققـها 

سوى رضاك فذا أقصى أمانيها
أولًا: الأنانيةٌ مرضٌ خطيرٌ وشرٌّ مستطيرٌ،.
أيُّها السادةُ : الأثَرَة والأنانية بمعنى واحد وهي: حبُّ النفس المُفضِي إلى تقديم رغَبَاتها وشهواتها دون اعتِدادِ حقوق الآخرين العامَّة والخاصَّة.
والأنانيةُ داءٌ اجتماعيٌّ خطيرٌ ، ووباءٌ خُلقيٌّ كبيرٌ ما فشا في أمةٍ إلَّا كان نذيرًا لهلاكِهَا، وما دبَّ في أسرةٍ إلَّا كان سببًا لفنائِهَا، فهو مصدرٌ لكلِّ عداءٍ وينبوعُ كلِّ شرٍ وتعاسةٍ، والأنانيةٌ آفةٌ من آفاتِ الإنسانِ، مدخلٌ كبيرٌ للشيطانِ، مدمرٌ للقلبِ والأركانِ، تفرقُ بين الأحبةِ والإخوةِ، تحرمُ صاحبهُ: الأمنَ والأمانَ ،وتدخلُه النيرانَ، وتبعدُه عن الجنانِ، فالبعدُ عنها خيرٌ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. والأنانيةُ ظاهرةٌ سلبيةٌ مدمرةٌ للأفرادِ والدولِ ويُعَدُّ طمعُ النفسِ وغيابُ الوعيِ وضعفُ الوازعِ الدينيِّ، وعدمُ مراقبةِ المولىَ جلّ وعلا من أهمِّ أسبابِ الانانيةِ، ولا حولَ ولا قوةَ الّا باللهِ.
إنه حبُّ الذَّات الذي يُعمِي ويُصِمُّ ليجعلَ المُصابَ به لا ينظرُ إلا من زاويةٍ واحدةٍ ضيِّقةٍ داكِنة، لا يرى فيها إلا نفسَه ومصلحتَه، ضارِبًا بهما ما للمسلمين من مصالِح عُرضَ الحائِط. فليس لمصلحة الأُسرة أو المُجتمع مقامٌ في معجم أخلاقِه، يرى في الحياة كلِّها معنى نفسِه لا معنى الناس، وكيف لا ؟ وبالأَثَرَةِ تحلُّ النِقَم وتذهب النِعَم، وهي دليلٌ على دناءةِ النفسِ وخِسَّتِها، وهي مِعْوَلٌ هدَّامٌ للمجتمع الإنساني، وتُؤدي إلى نفيِ الإيمانِ الكامل عن صاحبها، لأنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يقول: كما في حديث أنس رضي الله عنه (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) متفق عليه ، فبالأَثَرَةِ يضيع العدل، وتذهب الأخلاق، وتنتفي الأسوة الحسنة، وتصير المنفعةُ الشخصيةُ باعثَ الحركة في الحياة.
وكيف لا ؟
والأنانيةُ شِيمَة المجرِمين، وطبيعة المخرِّبين، داءٌ مُمتدٌّ لا تحُدُّه حدودٌ، ولا تمنعُه فواصِلُ.
وكيف لا ؟
((وكلمةُ أنا ))” تُقال غالبًا في سياق الكِبْرِ والفخر، والتعالي والغرور، وتضخيم ِالذات، والإعجاب بالنفس، والثناء عليها، وهذه كلها صفات قبيحة وآفات خطيرة، ويكفي في ذم “الأنا” كونها شعار الطغاة والمتكبرين والمغرورين، وبسببها باؤوا بسوء العاقبة: فهذا هو إبليس: وذلك لما عصى أمر ربه بالسجود لآدم عليه السلام استكبارًا؛ فقال: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]، ويقول الملكُ جل وعلا: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 71 – 76]. فكان الجزاء بأن أصبح شيطانا رجيما بكلمة ألأنا قال جل وعلا: ﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [ص: 77، 78]، وقال: ﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الحجر: 34، 35).
((وكلمةُ أنا ))قالها النمروذُ بن كنعان : وقد كان ملكًا متجبرًا طاغية يدَّعي الربوبية؛ لما دعاه إبراهيم عليه السلام إلى توحيد الله، مبيِّنًا له أنه هو وحده الأحق بالعبادة؛ لأنه هو الذي يحيي ويميت، قال النمروذ، وقد تملَّكه الكبر والغرور: أنا أحيي وأميت؛ قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]. فكان الجزاء بأن أهلكه الله بأضْأَلِ مخلوقاته؛ إذ أرسل عليه وعلى جنوده بابًا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا بادية. فقد دخلتْ بعوضةٌ في أذنِهِ فكان لا يهدأُ بالُهُ ولا يستقرُّ ضميرُهُ إلَّا إذا ضُرِبَ بالنعالِ علي أمِّ رأسِهِ.. وصدقَ ربُّنَا إذ يقولُ: { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
((وكلمةُ أنا ))قالها فرعونُ: لما دعاه نبي الله موسى عليه السلام إلى الإسلام، فتكبَّر وتعظَّم في نفسه، معلنًا أنه خيرٌ منه؛ لأنه يملك جنات وأنهارًا ومُلكًا واسعًا، وأما موسى وأتباعه فقوم فقراءُ ضعفاء لا يملكون شيئًا؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴾ [الزخرف: 51، 52].فقوله: ﴿ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾: أي: أفلا تَرَون ما أنا فيه من العظمة والملك؛ يعني: وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء وقوله: ﴿ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ﴾ [الزخرف: 52]: قال السدي: “يقول: بل أنا خير من هذا الذي هو مهين”، وقال الشيخ السعدي رحمه الله: “يعني قبحه الله بالْمَهين موسى بن عمران، كليم الرحمن الوجيه عند الله؛ أي: أنا العزيز وهو الذليل المهان المحتَقَر، فأيُّنا خير؟!”.وأعظم من ذلك ادعاؤه الربوبية والألوهية؛ قال الله تعالى: ﴿ فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 23، 24]، وتطاوَلَ على الذات الإلهية العَلِيَّة؛ فقال كما حكى عنه القرآن: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38]. فكان الجزاء أغرقَهُ اللهُ في البحرِ ومَن معهُ مِن الطغاةِ، (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ))سورة الإسراء (103(فقد أخرجه الله هو وجنوده من جناتهم وقصورهم وأموالهم، وأغرقهم في اليمِّ ليكونوا عِبرة لكل ظالم؛ قال الملك سبحانه: ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 39، 40].
((وكلمةُ أنا)) قالها قارونُ الذي أُعجب بكسبه ومهارته، وأنكر فضل الله عليه (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص: 78].عندما سعى في الأرض ليفسد فيها وتكبر وتجبر على عباد الله الناصحين له ، الذين قالوا له)) لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين) [القصص: 76، 77 فكانت النهاية المؤلمة،، والعقوبة الإلهية التي تنتظر الأفاكين المفسدين ((فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ))
((وكلمةُ أنا ))قالها صاحب الجنتين: وهو يحاور صاحبه مفتخرًا متكبرًا مغرورًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 34 – 36].فكان الجزاء أرسل الله على جنتيه مطرًا عظيمًا مزعجًا، أقلع زرعها وشجرها، وصارت صعيدًا زَلَقًا؛ أي: ترابًا أملس لا يثبت فيه قدم، وذهب ماؤها غائرًا في أعماق الأرض، فأصبح يقلب كفَّيه حزنًا وأسفًا على أمواله الكثيرة التي أنفقها على جنَّتيه؛ حيث اضمحلَّت وتلاشت وتَلِفَتْ، ولم ينفعه حينئذٍ ما كان يفتخر به من ولد وعشيرة وأتباع، في دفع ما نزل به؛ قال الملك الجبار جل وعلا: ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ﴾ [الكهف: 37 – 44]. فالانانية هلاك ودمار , وخزي وعار ,وخراب وضياع
يَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّنَا يَعْلَمُ بِأَنَّ النَّارَ خُصَّتْ بِالمُتَكَبِّرِينَ، وَأَنَّ الجَنَّةَ للمُسْتَضْعَفِينَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ.
فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ. قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي. وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي. وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ: فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدَاً، وَأَمَّا الجَنَّةُ: فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقَاً». فالغرورُ وإعجابُ المرءِ بنفسِهِ هلاك وخزي وعاركما وصفَهُ النبيّ ﷺ، كما في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللهُ عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ( ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: هَوًى مُتَّبَعٌ وَشُحٌّ مُطَاعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ وَهِيَ أَشَدُّهُنَّ )، و قالَ ابنُ مسعودٍ -رضي اللهُ عنه- : الهلاكُ في شيئينِ: العجبِ والقنوطِ. وقال الأحنفُ بنُ قيسٍ: عجبتُ لِمَن جرَى في مجرَى البولِ مرتينِ كيفَ يتكبرُ؟!
يا مظهرَ الكبرِ إعجابًا بصورتِهِ *** انظرْ خَلاك فإنَّ النتنَ تثريبُ
لو فكّرَ الناسُ فيمَا في بطونِهِم *** ما استشعرَ الكبرَ شبانٌ ولا شيبُ
ثانيـًـــا :شتان شتان بين أنا وأنا !!!
أيُّها السادةُ : شتان شتان بين كلمة “أنا” في مقام الإصلاح كلمة “أنا” في مقام الإفساد والكِبر والغُرور كما بين الثَّرى والثُّريَّا.
(( كلمةُ أنا)) قالها عفريت من الجن لسليمان عليه السلام (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل: 40] فامتدحها الرحمن استجابةً لأمر نبيٍّ من الأنبياء. وحسنٌ قولُ من قال: (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) [النمل: 39] استِحضارًا للأمانة والمصلحة العامَّة؛ لأن شيئًا من تلكُم الأمورِ لم يكُن لمصلحةٍ شخصيَّة تُقدَّم فيها مصلحةُ النفسِ على المصلَحةِ الأعمِّ.
كلمةُ أنا قالها صاحبُ يوسفَ عليه السلام في السجنِ (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) [يوسف: 45] سعيًا منه في تفسير مُعضِلةٍ أحلَّت بهم فكانت سببا في خروج يوسفَ عليه السلام من غيابات السجن .
وهذا هو ما يُسمَّى بالإيثارِ الذي امتدَحَه الله بقولِه: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9]، فربما تنازلَ المرءُ عن مصلحَته لتحقيقِ المصلحة الأعمِّ، وتلك خصلةٌ لا يُوفَّقُ لها إلا من رحِمَ الله وأسبغَ عليه نِعَمَه ظاهرةً وباطنةً، وذلك فضلُ الله يُؤتيه من يشاءُ، والله ذو الفضلِ العظيمِ. ففي “صحيح البخاري” أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال للحسن بن عليٍّ – رضي الله تعالى عنهما -: «إن ابنِي هذا سيِّدٌ، ولعلَّ الله أن يُصلِحَ به بين فِئتَين من المُسلمين عظيمَتَين».
كلمة ُ”أنا” قالها نبينُّا صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن شيء من خصائصِه وكراماتِه التي أكرمه بها اللهُ بها جل وعلا ، فإنه قالها بأدبٍ جمٍّ، وبتواضعٍ، وامتنانٍ، وشكٍر لربه الكريم، وأعلن أنه لا يريد بها فخرًا؛ ففي الحديث الذي رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر وأنا أولُ من تنشقُّ الأرضُ عنه يومَ القيامةِ ولا فخر وأنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ ولا فخر ولواءُ الحمدِ بيدي يومَ القيامةِ ولا فخرَ)). فذِكرُ خصائصِ ومناقبِ النفس إنما يكون غالبًا في سياق الافتخار؛ لذلك فإن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: ((ولا فخر))؛ ليقطع ويدفع وهْمَ مَن يتوهم أنه يذكر ذلك افتخارًا، والسعيدُ من تأدَّب بأدب نبينا الكريم محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم. ليس كل من قال: أنا، فهو بالضرورة قد وقع في داء الأنانية أو الغرور، فليس كل من قال: أنا، فهو متعالٍ على الغير متكبر، كلا، قد قال خيرُ البشرِ -صلى الله عليه وسلم- يومَ حنينٍ: “أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب”، فقد يتحدث المرء عن نفسه لحاجة، لا كبرًا ولا مفاخرة، وإنما من باب الاقتداء به، أو للتحدث بنعمة الله عليه: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11]، والميزان في ذلك مقصد القلب، وما يكنه الصدر لا يعلمه إلا علام الغيوب، وفي محكم التنزيل: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235].فشتان شتان بين أنا في الباطلِ، وأنا في الحقِّ، بين أنا نكرانُ النعمةِ وجحدُهَا، وأنا إظهارُ النعمةِ والتحدثُ بهَا.
وَرَحِمَ اللهُ تعالى الإِمَامَ الشَّافِعِيَّ عِنْدَمَا قَالَ:
إِذَا شِـئْـتَ أَنْ تَحْيَـا سَـلِـيمَاً مِنَ الأَذَى *** وَحَظُّكَ مَوْفُورٌ وَعِرْضُكَ صَـيِّنُ
لِـسَانَكَ لَا تَـذْكرْ بهِ عَـوْرَةَ امْـــرِىءٍ *** فَكُـلُّكَ عَـوْرَاتٌ وَلِلنَّـاسِ أَلْسُنُ
وَعَـيْنُكَ إنْ أَبْـدَت إِليْكَ مَعَايِـــــبـاً *** فَصَنْها وَقُـلْ يَـا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُنُ
وَعَاشِرْ بِمَعْروفٍ وَسَامِحْ مَنِ اعْتَدَى *** وَفَـارِقْ وَلَـكِـْن بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
وأرجئُ الحديثَ عنها إلى ما بعدَ جلسةِ الاستراحةِ أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ لِي ولكُم
الخطبةُ الثانيةُ
الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلّا لهُ وبسمِ اللهِ ولا يُستعانُ إلّا بهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………. وبعدُ
ثالثًا وأخيرًا: هل أنت راض عن نفسك؟