خطبة بعنوان ( التحذير من خطورة التكفير ) لفضيلة الشيخ ثروت سويف

خطبة الجمعة القادمة : التحذير من خطورة التكفير ، بتاريخ 17 رجب 1446 هـ ، الموافق 17 يناير 2025 م

جمع وترتيب فضيلة الشيخ : ثروت سويف – امام وخطيب ومدرس بالأوقاف المصري

اقرأ في هذه الخطبة
اولا : التكفير وخطورته ثانيا : من اسباب ظاهرة التكفير ثالثا : النهى عن السب واللعن رابعا : من غشنا فليس منا

الخطبة الاولي
الحمد لله الذي فتح أبواب المشاهدات على أرباب المجاهدات. بمفتاح لا إله إلا الله وأحيا نفوس العارفين وملأ كؤوس الذاكرين من أقداح لا إله إلا الله. أبدع المصنوعات وأوجد المخلوقات ووسمها بميسم لا إله إلا الله. خلق الجنين من ماء مهين ليعبده بلا إله إلا الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها إذ خاب أهل الشرك ونجا أهل لا إله إلا الله. أرسل الرسل لأجلها مبشرين وعن ضدها محذرين فدعوا الناس كلهم إلى العمل بلا إله إلا الله. فهي رأس الملة والدين، وهي حبل الله المتين، فما خاب من تعلق بحبل لا إله إلا الله. غوِيتْ أحلام الجاهلين وضلّت أفئدة المعاندين حيث جعلوا إلهين اثنين بعدما طلع بدر لا إله إلا الله. أحمده سبحانه وأشكره إذ جعلنا من أهل لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي جدد الله به ما درس من معالم لا إله إلا الله. ومع ذلك قال له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] فصدع بها ونادى، ووالى عليها وعادى، وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق لا إله إلا الله
فدعا إلى الله سرًا وجهارًا ليلًا ونهارًا حتى انكشف الغطاء عن وجه لا إله إلا الله.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين حموا بمرهفاتهم حوزة لا إله إلا الله. وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى، وجددوا إيمانكم في المساء والصباح بتأمل معنى لا إله إلا الله، فيا ذوي العقول الصحاح ويا ذوي البصائر والفلاح، نادوا بالفلاح فلا فلاح إلا لأهل لا إله إلا الله. فكلمة الإسلام ومفتاح دار السلام لا إله إلا الله
فلا قامت السموات والأرض ولا صحت السنة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله
اولا : الفكر التكفيري خطورته وأثره
ان التكفيري هو مصطلح يطلق على المسلم الذي يتهم مسلمًا آخر بالردة وربما انحرف اكثر فكفر الامة كلها جهلا منه وتنطعا

ولا يجوز تكفير المسلم، فهو من كبائر الذنوب؛ لما في ذلك من استحلال لدماء وأموال وأعراض المسلمين التي أوجب الشرع الحفاظ عليها وصونها وعصمتها، كذلك ما يوجبه التكفير من إحلال الفساد في الأرض.

وقد تضافرت الأدلة في الشرع على وجوب الاحتياط في تكفير المسلم
قال الشوكاني رحمه الله مبينا خطورة فتنة التكفير: ” ها هنا تسكب العبرات، ويناحُ على الإسلامِ وأهلهِ بما جناه التعصبُ في الدينِ على غالبِ المسلمينَ، من الترامي بالكفر، لا لسنة ولا لقرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لما غلت مراجلُ العصبيةِ في الدين، وتمكنَ الشيطانُ الرجيمُ من تفريقِ كلمةِ المسلمين، لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء، والسراب بقيعة، فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزي بمثلها سبيل المؤمنين”
عباد الله : ولأجل خطورة التكفير بلا موجب شرعي صحيح حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق لفظ الكفر على المسلم في أحاديث متضافرة متوافرة ، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابْن عُمَرَ-رضي الله عنهما- قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ ) وفي رواية ( إذا كفر الرجل أخاهُ فقد باءَ بها أحَدُهُما ) أي احتملها أو رجعت عليه
وما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ – رضي الله عنه – أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ “

بل قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم تكفير المؤمن كقتله، فعند البخاري ومسلم من حديث ثَابِت بْن الضَّحَّاكِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ )

وقد عاتب الله الصحابة في قتل الرجل الذي سلَّم عليهم فقتلوه بحجة أنه قالها تعوذاً؛ وأنزل في ذلك قرآناً يتلى إلى يوم القيامة؛ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:” مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَسُوقُ غَنَمًا لَهُ؛ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ؛ فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنْكُمْ؛ فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غَنَمَهُ!! فَأَتَوْا بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا }إِلَى آخِرِ الْآيَةَ”. البخاري والترمذي وأحمد واللفظ له

يقول الإمام الشوكاني : ” ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير “

ولقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم خطورة التكفير المبني على الأهواء والعصبيات فنفروا عنه وحذروا منه، فَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: (هَلْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَيْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: كَافِرٌ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَكُنْتُمْ تَقُولُونَ: مُشْرِكٌ؟ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ) المعجم الأوسط للطبراني

وقد قال جماعةمن أهل العلم في قول الله عز وجل ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان هو قول الرجل لأخيه يا كافر يا فاسق وهذا موافق لهذا الحديث فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه

و حذر العلماء من تكفير المسلمين وبينوا عظيم الأمر وآثاره السيئة على الأفراد والجماعات، قال ابن أبي العز الحنفي : ” إنه لمن أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار فإن هذا حكم الكافر بعد الموت ” وقال القرطبي في المفهم : وباب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئا “
والحكم على مسلم بالكفر يتضمن الحكم عليه بالعظائم والموبقات، كوجوب اللعنة والغضب وحبوط الأعمال وعدم المغفرة، والخلود في النار، مع وجوب مفارقة الزوجات، واستحقاق القتل ، وعدم الميراث، وتحريم الصلاة عليه وعدم دفنه في مقابر المسلمين إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالكافر الأصلي والمرتد، ولأجل خطورة هذه الآثار قال أبو حامد الغزالي : “والذي ينبغي الاحتراز منه التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم “

أيها المسلمون:ينبغي أن يعلم المسلم أن التكفير حق لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لا يطلق في مسألة أو على معين إلا بدليل من الكتاب أو السنة، فلا مجال للاجتهاد فيه والرأي، وقال ابن تيمية : ” فإن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما”
وقد يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الأمر بأنه كفر، ولكن لا يكفر فاعل ذلك الشيء حتى تتحقق فيه الشروط التي استنبطها العلماء من الكتاب والسنة، وتنتفي الموانع
ومن المتقرّر عندَ أهل السنّة والجماعة أنّ الكفرَ شعَبٌ متعدِّدة، وله مراتبُ، منها ما يخرِج من الملّة، ومنها ما لا يخرِج من الملّة، ولا يلزَم من قيام شعبةٍ من شعبِ الكفرِ بالعبدِ أن يصيرَ كافرًا الكفرَ المطلَق، حتّى تقومَ به حقيقةُ الكفر، فإذا تقرر هذا فإن الذي يستطيع أن يقرر ذلك هم العلماء ممن لهم قدرة على استنباط الأحكام وتنزيلها على المعينين، وللقضاة وولاة الأمر وليس لغيرهم.

روي الشيخان البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اليمن بذُهَيْبة في أَدِيم مَقْرُوظ، لم تُحصَّل من ترابها، فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن حِصْن، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل؛ فقال رجل من أصحابه: «كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء»، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟!»، فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمَّر الإزار، فقال: «يا رسول الله، اتق الله»، فقال: «ويلك! أو لستُ أحق أهل الأرض أن يتقى الله؟!»، ثم ولَّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: «يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟»، فقال: «لا، لعله أن يكون يصلي»، فقال خالد: «وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه»، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إني لم أومر أن أنقِّب قلوب الناس ولا أشق بطونهم»، ثم نظر إليه وهو مُقَفٍّ، فقال: «إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية- أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود»

هكذا جاء ذلكم الموقف، الذي يمثل أول ظهور للخوارج في هذه الأمة
وقد كان ذلك الموقف بعد بعث علي -رضي الله عنه- إلى اليمن، في العام التاسع من الهجرة قوله: «ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟!» يأتمنه رب العزة -سبحانه وتعالى- على الوحي والرسالة، ثم لا يأتمنه الناس؟! فأي طعن بعد هذا فيه -صلوات الله وسلامه عليه-؟!

قوله -مبيِّنا هذه القاعدة-: «إني لم أومر أن أنقِّب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم»، أي: ليس لنا إلا الظاهر، ولا يجوز لنا أن نتعامل مع إنسان إلا بما أظهره لنا.

ولنا في موقف أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عبرة، إذ قتل رجلا بعدما قال: «لا إله إلا الله»، وظن أنه قالها خيفة القتل، فأنكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: «هلا شققت عن قلبه؟»، فليس لنا إلا الظاهر، وليس لنا إلا ما يبديه الناس إلينا، وأما ما يسرونه في أنفسهم؛ فليس لنا عليه من سبيل

فتأملوا –رحمكم الله – إلى هذا تطبيق هذا الأمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ف روى البخاري عَنْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ – رضى الله عنهما – قَالَ:بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ: فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِىُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا، بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَقَالَ لِي:”يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟! “.قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ:”أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟! ” قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ
اما عن أثر الفكر التكفيري

أيها المسلمون : إن للفكر التكفيري أثار سيئة جدا على الأفراد والمجتمعات، ومن ذلك
أن خطر هذا الفكر يتعدى إجمالا إلى مقاصد الإسلام الخمسة : الدين والنفس والعقل و النسل و المال
فيكفر أصحاب هذا الفكر الأفراد والمجتمعات ولا يخرجون من دائرة التكفير إلا جماعتهم، وأول من يكفرون من المسلمين حكامهم، ثم يستبيحون قتل الأنفس بحجة أنها كافرة مرتدة كحال الخوارج الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: ” يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد
إن قضية تكفير أفراد المسلمين أو مجموعهم ومجتمعاتهم سبب كل فتنة واختلاف وشر، فبالتكفير قامت الثورات، وسفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، واعتدي على الدين وثوابته
ومن أثار الفكر التكفيري إحداث التفجيرات في بلاد المسلمين وما تؤدي إليه من ترويع الناس وسفك دمائهم وخراب أموالهم ، وقد نهى الله تعالى عن الإفساد في الأرض، قال الله تعالى: { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } . بل قد يتقرب التكفيري إلى الله بقتل نفسه بالتفجير أو بغيره بحجة أنه في جهاد ضد العدو الكافر.

ومن آثار الفكر التكفيري الخروج على الحكام والسلاطين ، لأنهم كفار في نظرهم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع قاعدة عظيمة في الحكم على الإمام بالكفر والخروج عليه وهي قوله “وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ قَالَ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ “

فلنحذر من التكفير فإن عاقبته أليمة
اخوة الإيمان ان هؤلاء هم شر دواب الأرض كما في حديث أبي ذر -رضي الله عنه-، وقد انفرد به مسلم
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن بعدي من أمتي (أو سيكون بعدي من أمتي) قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم»، والحلاقيم: جمع حلقوم، وهو معروف؛ قال: «يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه؛ هم شر الخلق والخليقة».
فهذه صفة زائدة في هذا الحديث: «هم شر الخلق والخليقة»، والفرق بين الخلق والخليقة قال فيه بعض العلماء: الخلق: الناس، والخليقة: الدواب؛ أي إن هؤلاء القوم شر الناس والدواب؛ لأن الدواب تقوم بوظيفتها: من تسبيح الله -تعالى-، والقيام بطاعته التي تناسبها؛ كما قال -عز وجل-: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]، فالدواب لها وظيفة تؤديها -كما قدره لها ربها -سبحانه وتعالى-، وأما هؤلاء؛ فيخرجون عن وظيفتهم، التي هي العبودية، وإقامة دين الله -تبارك وتعالى- على الحقيقة، وتنفيذ أحكامه على الحقيقة؛ يخرجون من كل هذا، ويعيثون في الأرض بالفساد، والدواب لا تصنع هذا، والدواب إنما يقتل بعضها بعضا، لا تصول على الناس فتقتلهم وتسفك دماءهم
أيها المسلم: إن للتكفير أخطاراً عظيمة، وتترتَّبُ عليه أمورٌ عظيمة، فقِفْ عند حَدِّك أيها المسلم! ولا تحكم إلا بحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، فإنَّ أثرَ التكفير يضر بالفرد، والجماعة المسلمة، وبالإسلام عموماً، فضرره على الفرد إذا حكمت عليه بالكفر فمعناه أنك حكمت برِدَّتِه، وحكمتَ عليه بالخلود في النار، وفرَّقْتَ بينه وبين امرأته، ولم تجعل له ولاية على أولاده؛ ولا ميراثَ له، ولا صلاةَ عليه، ولا تدفنه في مقابر المسلمين، ولا يجوز التوارث بينه وبين أبنائه وزوجته؛ لأنك حكمت عليه بالكفر، فيترتب على هذا الحكم أمور كثيرة، فكيف ترضاها أيها المسلم بلا دليل ولا روية؟ إن ذلك خطر عظيم؛ ثم إنك إذا واجهته بالكفر من قبل أن تدعوه إلى الله تقنطه من رحمة الله، وتجعله يصر ويعاند ولا يقبل منك ما تدعوه إليه
وأما خطره على الجماعة المسلمة فإنه يشتت، الكلمة ويفرق الصف، ويغرس العداوة والبغضاء في النفوس، ويخالف ما دعت الشريعة إليه من التعاون والتآلف والتناصر، وإصلاح الأخطاء، وتقويم ما اعوجَّ من السلوك؛ ويُغلق باب التناصح والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، إذ الداعي إلى الله لا يهمه التكفير، وإنما مبدأه الإصلاح والتأصيل، والترغيب في الإسلام، وبيان محاسنه وفضائله، ودعوة الناس إليه هذا، هو المطلوب منه أولا، أما أن يواجه الناس بالتكفير من قبل أن يبلِّغ حجة الله ويقيم عليهم الحجة فهذا أمر خطير تترتب عليه مفاسد عظيمة.

وأما خطره على الإسلام عموما فإن هؤلاء الذي يكفِّرون الناس بلا حجة يشوِّهون سمعة الإسلام، ويُظهرون أن دين الإسلام دين الإرهاب، وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، ونهب الأموال، ويشوهون صورة الإسلام بما يحدثونه من هذا؛ إذ هذه الكلمة تسبب لهم عدم احترام الدماء والأموال والأعراض حيث حكموا بالكفر، فرتبوا على هذا الكفر ما يقصدون وما يريدون، وهذا أمر خطير

ثانيا من أسباب ظهور التكفير ……
إن أسباب نشأة ظاهرة التكفير وفشوها وانتشارها في القديم والحديث يرجع إلى مجموعة من الأسباب المتشابكة، عملت جنباً إلى جنب في نشر هذه الظاهرة وتأمين البيئة الملائمة لنموها واستمرارها، ومنها

أولاً: الجهل المركب بمسألة التكفير: والتي هي من المسائل الدقيقة التي لا يحسنها إلا العلماء، فهم بجهلهم يكفرون من شاءوا ولا يفرقون بين كفر أصغر أو أكبر
أو كبيرة وصغيرة؛ ولعل الجهل بأحكام الشريعة من أهم صفات الخوارج الذين كانوا أول من تولى وزر التكفير في هذه الأمة، حين كفروا أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم
وكثيرمن الشباب الطائش الذين تشبعوا بالفكر التكفيري المتطرف؛ لا علم لهم سوي قراءة كتاب ومن كان شيخه كتابه غلب خطأه صوابه
وهؤلاء عن علي بن أبي طالب قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حُدَّاثُ الْأَسْنَانِ ‌سُفَهَاءُ ‌الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ” (البخاري)

قال السندي: ” قوله: (أحداث الأسنان) أي صغار الأسنان، فإنّ حداثة السّنّ محلٌّ للفساد عادة. (سفهاء الأحلام): ضعاف العقول”. حاشية السندي

يقول الإمام القرطبي مندداً بضلالة الخوارج وقلة فهمهم وتكفيرهم الناس: “ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله بصحة إيمانه وبأنه من أهل الجنة”. وهل هناك جهل مركب بعد هذا الجهل ؟
وهذا أدى إلى اتباعهم للمتشابه من النصوص فعمدوا إلى نصوص الوعيد فأجروها على ظاهرها فكفروا بها المسلمين ، قال تعالى : ” فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ” ال عمران آية 7 “

ثانياً : ومن أسباب ظهور الفكر التكفيري عدم إتباعهم لمنهج السلف رحمهم الله في فهم النصوص ، فإن نصوص الكتاب والسنة إنما تفهم بفهم السلف، عدم رجوعهم إلى العلماء الربانيين في النوازل والمستجدات كما أمر الله تبارك وتعالى فقال : وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ” النساء آية 83

ثالثاً: الانتماء إلى جماعة أو حزب معين
مع الاقتناع بأفكارهم وجعل التكفير وسيلة في الانتقام من المخالفين، وإشهاره سيفاً مسلطاً على رقابهم، وهو ما اشتهر في هذا الزمان من أن كل فرقة أو جماعة تكفر مخالفيها فمن ادعى دعوى وأطلق فيها عنان الجهل مخالفاً فيها لجميع أهل العلم، ثم مع مخالفتهم يريد أن يكفر ويضلل من لم يوافقه، فهذا من أعظم ما يفعله كل جهول مغياق ومعنى المغياق المختلط المتحير في الرأي فلم يثبت على رأيٍ واحدٍ، فهو يموج وهذا ما نراه في وقعنا المعاصر من تفرق الأمة إلى أحزاب وفرق وجماعات؛ وكل حزب بما لديهم فرحون

رابعاً: اتباع الفتاوى المضللة

عباد الله : يعظم الخطب عندما يصدر التكفير ممن تزيى بزي العلم وأهله، وذاع صيته وأمره، فيقلده من لا علم به ولا بصيره، وهذا مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن حبان عن حُذَيْفَةَ بن اليمان قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “‌إن ‌مَا ‌أَتَخَوَّفُ ‌عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ رِدْئًا لِلْإِسْلَامِ غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ قَالَ قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي الرَّامِي؟ قَالَ: «بَلِ الرَّامِي )) أخرجه البزار

هذه الفتاوي التي تدعو إلى تكفير بعض الأشخاص واستباحة دمائهم روى الإمام ابن المبارك في الزهد بسند صحيح عن عبدالرحمن بن أبي ليلي قال: “أدركتُ عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – أراه قال: في هذا المسجد – فما كان منهم محدِّث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفْتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا”.

وورد عن أبي حصين عثمان بن عاصم ـ رحمه الله تعالى ـ قوله: “إن أحدَكم ليُفتي في المسألة، ولو وردَتْ على عمر رضي الله عنه لجمَع لها أهل بدرٍ”
وذكر الحافظ أبو عمر بن عبدالبر الأندلسي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهم: أن رجلًا جاءه ليسأله عن مسألة، فقال القاسم: لا أُحسِنه، فقال الرجل: إني لا أعرف أحدًا غيرك، فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أُحسِنه، فقال شيخ من قريش كان جالسًا: يا بنَ أخي، الزَمْها؛ فوالله ما رأيتك في مجلس أنبلَ منك اليوم، قال القاسم: والله لأن يُقطَعَ لساني أحبُّ إليَّ مِن أتكلم بما لا علم لي به

ورُوي عن الشافعي ـ رحمه الله ـ أنه سئل عن مسألة فسكَت، فقيل له: ألا تُجيب رحمك الله؟، فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أم في الجواب!، وكان الإمام أحمدُ بن حنبل ـ رحمه الله ـ على غزارة علمه يستفتى، فيُكثر مِن قول: لا أدري. ( إعلام الموقعين عن رب العالمين )

وهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أَهْلٌ لذلك؛ يعني سبعين من أهل العلم!! ومع ذلك لا يفتي في كل ما يُسأل عنه؛ وكان إذا سُئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، وجاءه رجل مسافر فسأله عن أربعين مسألة، فأجابه عن خمس مسائل، وقال عن البقية: لا أدري! فقال الرجل: جئتك من كذا وكذا، وتقول: لا أدري!! قال: نعم، اركب راحلتك، وقل للناس: سألت مالكًا؟ وقال: لا أدري!! ( سير أعلام النبلاء ).

وهذا ابـن عمر – رضي الله عنهما – يُسْأَلُ عن عشر مسائل فَيُجِيبُ عن واحدةٍ ويَسْكُتُ عَن تِسْعٍ!!

وعن عقبةَ بن مسلم قال: صحبتُ ابن عمر رضي الله عنهما أربعةً وثلاثين شهرًا، فكثيرًا ما كان يُسأَل فيقول: لا أدري، ثم يلتَفتُ إليَّ فيقول: تَدري ما يريدُ هؤلاء؟! يريدون أن يجعلوا ظهورَنا جِسرًا إلى جهنّم!!

وسئل الشعبي مرة عن مسألة فقال: لا عِلْمَ لي بها، فقيل له: ألا تستحي، فقال: ولم أستحي مما لم تستحِ الملائكة منه حين قالت: { لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}. [البقرة

الأمر الخامس : الغلو في إصدار الأحكام، وهو مجاوزة الحدّ والتعنت في التعامل مع أصول الدين وقواعده
قال المناويّ: ‌الغلوّ: مجاوزة الحدّ، والغلوّ في الدّين التّصلّب والتّشدّد فيه حتّى مجاوزة الحدّ
ودين الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال، وهو بين الغالي فيه والجافي عنه، وهو وسط بين طرفين، وكل جنوح عن جادة الكتاب والسنة وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو ميل عن الصواب وبعد عن الجادة

روي الحاكم عن أبي هريرة؛ وعبد الله بن عمر- رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )

فلا تسرعوا يا عباد الله في تكفير إنسان بعينه لفعل من الأفعال، ولا لقول من الأقوال، واجعلوا مردَّ ذلك لأهل الذكر، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون }

وقد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ( أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ ) سنن ابن ماجة

عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ” صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي ‌لَا ‌تَنَالُهُمَا ‌شَفَاعَتِي: سُلْطَانٌ غَشُومٌ ظَالِمٌ، وَغَالٍ فِي الدِّينِ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ وَيَبْرَأُ مِنْهُمْ ” السنة لابن أبي عاصم

ثالثا : النهي عن التكفير واللعن
عباد الله المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، المسلم يسمع قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في أيام الفتن عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ، ‌أَمْسِكْ ‌عَلَيْكَ ‌لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» رواه الترمذي وقال: حديث حسن

قال تعالي {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}الحجرات: 11] قال جماعة من المفسرين: (هو قول الرّجل لأخيه المسلم: يا فاسق، يا كافر)، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصّحيح: (سِباب المسلم فُسوق، وقِتاله كفر )

إن شريعة الإسلام تعتمِد على إقامةِ الحجّة وقطعِ المعذِرة لم تكتفِ نصوصُها بتلك التّوجيهات العامّة، بل جاءت الأدلّة الخاصّةُ الصّريحةُ في توجيهاتها تُحَذِّر من التعجُّل في التكفير والتسارع في ذلك بلا تأصيل شرعيٍّ ولا منهج نبويّ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‌مَنْ ‌حَلَفَ ‌بِمِلَّةٍ ‌غَيْرِ ‌الْإِسْلَامِ، كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ. وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، عُذِّبَ بها فِي نَارِ جَهَنَّمَ). رواه البخاري.

قال ابن عبد البرّ رحمه الله: (فالواجبُ في النّظر أن لا يكفَّر إلاّ من اتّفق الجميعُ على تكفيرِه، أو قامَ على تكفيره دليلٌ لا مدفعَ له من كتابٍ أو سنّة) انتهى

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلا حَارَ عَلَيْهِ) رواه مسلم
وما أيسر ما يقال: فلان عدوُّ الله تعالى، وخاصة في الأزمات، وخاصة في أيام الفتن، أيام الهرج والمرج
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «‌كُفُّوا ‌عَنْ ‌أَهْلِ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌اللهُ لَا تُكَفِّرُوهُمْ بِذَنْبٍ، فَمَنْ أَكْفَرَ أَهْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَهُوَ إِلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ» رواه الطبراني في الكبير والأوسط

فيا عباد الله: لنا الظاهر، والله يتولى السرائر، صونوا ألسنتكم عن كلام يحبط العمل لا قدر الله تعالى، صونوا ألسنتكم عن تكفير أهل لا إله إلا الله.
احذروا يا عباد الله من تكفير مؤمن، لأن تكفيره يُخرج زوجته عن عصمته، ويرفع عنه ولايته على أولاده، ويُحرِّم الإرث بينه وبين ورثته، ويُهدر دمه وماله حتى لو لم تكن فتيا بل علي سبيل الشجار.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ: ‌يَا ‌كَافِرُ، ‌فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا). رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم. قال ابن حجر رحمه الله: (إنّ المقول له إن كان كافرًا كُفرًا شرعيًّا فقد صدَق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن كذلك رجعَت للقائل معرّةُ ذلك القولِ وإثمُه

ومِن هنا – عبادَ الله – مضى العلماءُ من السّلف والخلف يحذّرون من التعجّل في التكفير والمسارعةِ في الوقوع في حكمٍ بذلك على أحدٍ من المسلمين، فكلامهم في خطرِ ذلك مِن الكثرة بمكان بحيثُ يتعذّر استقصاؤه أو الوقوفُ عند نهايته، بل مِن الخطأ العظيم والإثم المُبين أن يتجاسَر على المسارعة إلى مثل هذه القضايَا الخطيرةِ من لا يبلغ عُشرَ مِعشار عِلمِ هؤلاء الأئمّةِ المتقدّمين

قال أبو حامدٍ الغزاليّ رحمه الله: (والذي ينبغي الاحترازُ منه التكفيرُ ما وُجد إليه سبيلاً، فإنّ استباحةَ الدماء والأموالِ من المصلّين إلى القبلة المصرِّحين بقول: لا إله إلا الله محمّد رسول الله، كلّ ذلك خطأ، والخطأ في تركِ ألفِ كافر في الحياةِ أهونُ من الخطأ في دمٍ لمسلم) انتهى

حتى مجرد اللعن لا يجوزلا تقل فلان لعنه الله ولا تلعن دابة عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: بَيْنَمَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ – وَامْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ، فَلَعَنْتُهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا، فَإِنَّهَا ‌مَلْعُونَةٌ» . قَالَ عِمْرَانُ: «فَكَأَنِّي أَرَاهَا وَهِيَ تَجُولُ فِي السُّوقِ وَمَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ ” الأدب – ابن أبي شيبة

وقال ابن ناصر الدّين الدِّمَشقيّ رحمه الله: فلَعنُ المسلم المعيَّن حرام، وأشدّ منه رميُه بالكفرِ وخروجِه عن الإسلام
: “وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟ فإن ذلك أعظم من قتله”.

ومن كفَّر مسلماً فإن من لوازمه أن يلعنه؛ لأن لعن المسلم لا يجوز، فإذا لعنه وهو لا يستحق اللعن عادت اللعنة عليه؛ كما روى أبو داود بسند جيد عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ ‌شَيْئًا ‌صَعِدَتِ ‌اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لَعَنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا ))

قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: “فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له: أنَّ كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنباً، أو تأول تأويلاً، فاختلفوا بعْدُ في خروجه من الإسلام؛ لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر، أو سنةٍ ثابتة لا معارض لها

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وخير داعٍ إلى الصراط المستقيم محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد

رابعا : من غشنا فليس منا
اعْلَموا وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكم وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابُهُ وَالتَّحْذِيرِ عَنْهُ وَإِنْكَارُهُ، ‌الغِشُّ وَالخِدَاعُ فِي المُعَامَلاتِ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ « أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى ‌صُبْرَةِ ‌طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ، يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي ». صحيح مسلم

الأمانةُ من مَحاسِنِ الأخلاقِ، والتَّعاملُ في التِّجارةِ والأمورِ المادِّيَّةِ يَستلزِمُ الأمانةَ؛ حتَّى تَتِمَّ الأمورُ والتَّعاملاتُ بين النَّاسِ بلا مُنازَعاتٍ، وبلا إثارةِ شُرورٍ في المُجتمَعِ، وعلى العكسِ من ذلك؛ فإنِّ الغِشَّ والخِداعَ يَجلِبُ على المجتمَعِ الوَيْلاتِ والبَغضاءَ والتَّشاحُنَ بين النَّاسِ.

وهذا الحديثُ يُوضِّحُ أنَّ الغِشَّ ليس مِنَ الإسلامِ، وأنَّ الغشَّاشَ على خَطرٍ عَظيمٍ، فيَروي أبو هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ على صُبْرَةِ طَعامٍ، والصُّبرَةُ: هي الكَومةُ مِنَ الطَّعامِ، مِثلُ القمحِ أوِ الشَّعيرِ، يَعرِضُها التَّاجِرُ ليَبيعَها، فأدخَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدَه في جَوفِها، فوَجَد بَللًا في أسفلِ الطَّعامِ، فكانَ إدخالُ يدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَحيٍ منَ اللهِ سُبحانَه، فسألَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ فأخبَرَه التَّاجرُ أنَّه قد سقَطَ عليه المطرُ فبَلَّلَه، وهذا يَعني أنَّه جَعَل الجافَّ الصَّحيحَ ظاهرًا، والمبلولَ الرَّديءَ في الأسفلِ، فقَبِلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عُذرَه، ونبَّهَه إلى ما يَنبغي أن يَعمَلَه في هذه الحالةِ، فقالَ: «أفَلا جعلتَه فوقَ الطَّعامِ» بأن تُخرِجَ الحَبَّ المُبتلَّ من أسفَلَ إلى أعلى؛ حتَّى يَراه النَّاسُ المُشترُونَ، ويَكونُوا على بَيِّنةٍ ويَعلموا بحالِه وما فيه مِنَ العَطَبِ، وقد كانوا يَتبايَعون بالصُّبرةِ كاملةً دونَ النَّظرِ إلى ما فيها، وقد عدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَمَلَ هذا التَّاجِرِ غِشًّا، فقالَ: «مَن غشَّ فليْس مِنِّي»، أي: مَن خَدَعَ النَّاسَ بأيِّ صُورةٍ فليس على هَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسُنَّتِه وطَريقتِه، وهذا زَجرٌ شَديدٌ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه تَهديدٌ لمَن تَمادى في الغِشِّ بأن يَخرُجَ عن طَريقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولا شك أن ‌الغش حرام وبعض العلماء مثل الذهبي عدوه كبيرة من كبائر الذنوب ومن صور الغش في البيوع: بخس الكيل والميزان. قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين:1-3]. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا -يعني أهل المدينة- فأنزل الله -عز وجل- (ويلٌ للمطفِّفين) فأحسَنوا المكيال بعد ذلك. صحيح ابن ماجه..
وفي الحديثِ: الزَّجرُ والنَّهيُ عنِ الغِشِّ في كلِّ الأمورِ، وفي المُعامَلاتِ خاصَّةً.

وفيه: ضَرورةُ تَبيينِ عيبِ السِّلعةِ للمُشتَري.

وفيه: أنَّ الحاكِمَ يَستظهرُ أحوالَ النَّاسِ ويَنصَحُ مَن يَحتاجُ للنَّصيحةِ.
وفيه: حِرصُ الشَّريعةِ على إبعادِ كلِّ ما يَحصُلُ به الضَّررُ للمُسلِمِ

هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *