خطبة بعنوان (العقول المحمدية ) للشيخ : ياسر عبدالبديع
1 ديسمبر، 2025
خطب منبرية
خطبة بعنوان (العقول المحمدية )
للشيخ : ياسر عبدالبديع
بتاريخ 14 من جمادى الآخرة 1447 ه – 5 من ديسمبر 2025 م
عناصر الخطبة
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: مَكَانَةُ الْعَقْلِ وَعَلَاقَتُهُ بِالْوَحْيِ
العُنْصُرُ الثَّانِي: صِفَاتُ الْعُقُولِ الْمُحَمَّدِيَّةِ
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: خَطُورَةُ تَعْطِيلِ الْعَقْلِ وَأَسْبَابُهُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ
ٱلْعُقُولُ ٱلْمُحَمَّدِيَّةُ
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: مَكَانَةُ الْعَقْلِ وَعَلَاقَتُهُ بِالْوَحْيِ
فَقَدْ كَرَّمَ اللَّهُ الإِنْسَانَ وَفَضَّلَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ، خَلَقَهُ فَأَحْسَنَ خَلْقَهُ، وَكَرَّمَهُ بِالِاسْتِعْدَادَاتِ الَّتِي أَوْدَعَهَا فِطْرَتَهُ، هَيْئَةً وَفِطْرَةً تَجْمَعُ بَيْنَ الطِّينِ وَالنَّفْخَةِ، وَهَيَّأَ لَهُ مِنَ التَّسْخِيرِ مَا يَقُومُ بِهِ فِي وَظِيفَةِ الِاسْتِخْلَافِ وَالتَّعْمِيرِ، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وَإِنَّ مِنْ أَهَمِّ مُهِمَّاتِ الِاسْتِخْلَافِ وَالتَّعْمِيرِ إِصْلَاحَ التَّفْكِيرِ وَاسْتِقَامَتَهُ، وَضَبْطَ مَسَارِهِ فِي كُلِّ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ وَمَيَادِينِهَا، وَمَنْزِلَةُ الإِنْسَانِ وَقُوَّةُ تَفْكِيرِهِ تَظْهَرُ بِقَدْرِ إِعْمَالِهِ فِكْرَهُ، وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِ فِي عَقْلِهِ، وَمَدَى تَحْقِيقِهِ لِمَا يَنْفَعُهُ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.
الْعَقْلُ – حَفِظَكُمُ اللَّهُ – هُوَ أُسُّ الْفَضَائِلِ، وَيَنْبُوعُ الْآدَابِ، هُوَ لِلدِّينِ أَصْلٌ، وَلِلدُّنْيَا عِمَادٌ، وَلَيْسَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَهَبَ اللَّهُ عَبْدَهُ عَقْلًا رَاجِحًا، وَتَفْكِيرًا مُسْتَقِيمًا.
الْعَقْلُ نُورٌ مِنَ اللَّهِ يُمَيِّزُ بِهِ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْخَطَأَ مِنَ الصَّوَابِ، فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ.
وَمِنَ اللَّطِيفِ – مَعَاشِرَ الإِخْوَةِ – أَنَّ لَفْظَ الْعَقْلِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ مُشْتَقَّاتُهُ وَمُرَادِفَاتُهُ، كَقَوْلِهِ – عَزَّ شَأْنُهُ –: {مَا عَقَلُوهُ}، وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ}، وَقَوْلِهِ – عَزَّ شَأْنُهُ –: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}، وَقَوْلِهِ – تَبَارَكَ وَتَعَالَى –: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وَقَوْلِهِ: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، {أَفَلَا يَعْقِلُونَ}.
كَمَا جَاءَ مِنَ الْمُرَادِفَاتِ: {أُولُو الْأَلْبَابِ}، وَأُولُو النُّهَى، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}، {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}، {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}.
عِبَادَ اللَّهِ: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ إِعْمَالَ الْعَقْلِ وَحُسْنَ اسْتِخْدَامِهِ بِيَدِ الْإِنْسَانِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَقَدَّمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتَأَخَّرْ، وَلَا يَكُونُ إِعْمَالُ الْعَقْلِ إِلَّا فِي التَّفْكِيرِ وَالتَّذَكُّرِ، وَالِاعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرِ، وَالنَّظَرِ وَالتَّبَصُّرِ، وَالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَاءَ الْأَمْرُ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ – عَزَّ وَجَلَّ – فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ –: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}، وَقَوْلِهِ – عَزَّ شَأْنُهُ –: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَقْلَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَمَحَلُّ الْفَهْمِ، وَبِهِ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبَيَانُ مُرَادِ الشَّارِعِ، وَبِهِ حُسْنُ التَّصَرُّفِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَالْعَقْلُ مُكَلَّفٌ تَكْلِيفًا صَرِيحًا بِالنَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِدْرَاكِ الْعَلَاقَاتِ أَسْبَابًا وَمُسَبَّبَاتٍ، وَاكْتِسَابِ الْعُلُومِ، وَالنَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنَ التَّسْخِيرِ لِلْقِيَامِ بِمُهِمَّةِ التَّعْمِيرِ.
وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ مَلِيئَانِ بِالدَّلَائِلِ الْبُرْهَانِيَّةِ، وَالْأَقْيِسَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَحُسْنِ الْجِدَالِ، كُلُّ ذَلِكَ حَتَّى يَتَحَرَّرَ الْعَقْلُ مِنْ تَلْبِيسَاتِ الْخُرَافَةِ، وَأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَتَخَرُّصَاتِ الْكَهَنَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ، وَالسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ، وَالطِّيَرَةِ وَالْمُتَشَائِمِينَ، وَالتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى، لِيَنْطَلِقَ إِلَىٰ آفَاقٍ رَحْبَةٍ وَاسِعَةٍ مِنَ الْعَقِيدَةِ الصَّافِيَةِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْعَطَاءِ الْمُنْتِجِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وَقَالَ – عَزَّ شَأْنُهُ –: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}، وَقَالَ – عَزَّ شَأْنُهُ –: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}، وَقَالَ – عَزَّ شَأْنُهُ –: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}.
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَخْزُونِ أُمَّتِنَا الثَّقَافِيِّ، وَقَضَايَاهَا الْعُلْيَا: ارْتِبَاطَ الْعَقْلِ بِالنَّقْلِ، وَتَرْتِيبَ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَإِنَّ فُحُولَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَرَاسِخِيِهَا كُلَّهُمْ قَرَّرُوا وَدَقَّقُوا وَبَرْهَنُوا عَلَى مُوَافَقَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ عَقْلٍ صَرِيحٍ وَنَقْلٍ صَحِيحٍ، فَقَضَايَا الْعَقْلِ الصَّرِيحِ خَلْقُ اللَّهِ، وَمَا جَاءَ فِي النَّقْلِ الصَّحِيحِ شَرْعُ اللَّهِ، فَلَا تَنَاقُضَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ وَشَرْعِ اللَّهِ، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.
إِنَّ الْإِنْسَانَ مَسْؤُولٌ عَنْ حِفْظِ عَقْلِهِ، وَاللَّهُ سَائِلُهُ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ فِي نَظَرِهِ وَفِكْرِهِ، وَحُسْنِ اسْتِخْدَامِهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ النِّعَمِ مِنْ عُمُرٍ وَصِحَّةٍ، وَمَالٍ وَبَنِينَ، وَحِفْظِ حَوَاسٍّ، وَسَلَامَةِ أَجْهِزَةٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
وَمِنْ أَجْلِ هَذَا فَإِنَّ ذَا الْعَقْلِ السَّلِيمِ وَالْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ يَرْبَأُ بِنَفْسِهِ عَنِ الدَّنَايَا، وَيَنْأَى عَنِ الْمُحَقَّرَاتِ، وَلَا يَمِيلُ مَعَ الْهَوَى، وَلَا يَخْضَعُ لِلْعَادَاتِ، وَيَتَجَنَّبُ الْعِنَادَ وَالْمُكَابَرَةَ وَالْمِرَاءَ؛ {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}.
وَمَعَ مَكَانَةِ الْعَقْلِ وَكَرِيمِ مَقَامِهِ، فَإِنَّهُ آلَةٌ وَوَسِيلَةٌ لِلْفَهْمِ، لَهُ حُدُودُهُ الَّتِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ حُدُودِهِ وَقَعَ فِي الضَّلَالِ وَالِانْحِرَافِ، وَدَخَلَ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ – عَزَّ شَأْنُهُ –: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
فَإِنَّ مِنْ أَفْضَلِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ نِعْمَةَ الْعَقْلِ، فَلَوْلَا الْعَقْلُ لَمَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَالنُّبُوَّةَ، وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَالْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، وَالْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾، فَاللَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ بَنِي آدَمَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْجَمَادَاتِ، وَالْحَيَوَانَاتِ، وَالنَّبَاتَاتِ بِهَذَا الْعَقْلِ.
قَالَ تَعَالَى مَادِحًا عِبَادَهُ أَصْحَابَ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ: الْعُقُولُ التَّامَّةُ الزَّكِيَّةُ، الَّتِي تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ بِحَقَائِقِهَا عَلَى جَلِيَّاتِهَا، وَلَيْسُوا كَالصُّمِّ الْبُكْمِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾.
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَصْحَابَ الْعُقُولِ الْغَافِلَةَ عَنْ دِينِهِ؛ فَقَالَ: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾.
فَإِذَا فَقَدَ الْإِنْسَانُ الْعَقْلَ السَّلِيمَ الَّذِي يَقُودُهُ إِلَى الْخَيْرِ، وَيُبْعِدُهُ عَنِ الشَّرِّ، فَقَدْ أَصْبَحَ كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَلَا تَعْقِلُ شَيْئًا؛ بَلْ إِنَّهَا خَيْرٌ مِنْهُ، رَوَى الْحَاكِمُ فِي “الْمُسْتَدْرَكِ”، مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)) أَيْ: دَنِيئَهَا وَخَسِيسَهَا.
الْعَقْلُ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِسُلُوكِ الصَّوَابِ، وَالْعِلْمِ بِاجْتِنَابِ الْخَطَإِ، ﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾: أَيْ تَنَاهَىٰ عَقْلُهُ، وَكَمُلَ فَهْمُهُ وَحِلْمُهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ غَالِبًا عَمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ ابْنُ الْأَرْبَعِينَ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَحَدُّ الْعَقْلِ يَنْطَوِي فِيهِ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَالْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابُ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَىٰ فِي كِتَابِهِ عَلَىٰ أَنَّ مَنْ عَصَاهُ لَا يَعْقِلُ، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، وَحَدُّ الْحُمْقِ: اسْتِعْمَالُ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَهُوَ ضِدُّ الْعَقْلِ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْحُمْقِ وَالْعَقْلِ إِلَّا السُّخْفُ.
قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: غَرِيزَةُ عَقْلٍ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: أَدَبٌ حَسَنٌ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: أَخٌ صَالِحٌ يَسْتَشِيرُهُ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: صَمْتٌ طَوِيلٌ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: مَوْتٌ عَاجِلٌ.
وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الرَّجُلَ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَرُجْحَانِ الْعَقْلِ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا، فَفِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ، مَعَ كَثْرَتِهَا وَتَعَلُّقِ النَّاسِ بِهَا؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ جَمَادَاتٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُودِعُ أَمْوَالَهَا عِنْدَهُ، وَيَسْتَشِيرُونَهُ فِي أُمُورِهِمْ؛ لِرُجْحَانِ عَقْلِهِ، وَسَدَادِ رَأْيِهِ، وَكَانَ يَعْتَزِلُ النَّاسَ، وَيَتَعَبَّدُ فِي غَارِ حِرَاءَ يَسْأَلُ رَبَّهُ الْهِدَايَةَ.
وَفِي “صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ”: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، لَا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ، مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ.
وَحُكِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النَّصَارَىٰ تَحَدَّثُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: مَا أَقَلَّ عُقُولَ الْمُسْلِمِينَ، يَزْعُمُونَ أَنَّ نَبِيَّهُمْ كَانَ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ رَاعِي الْغَنَمِ لِلنُّبُوَّةِ؟! فَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْ بَيْنِهِمْ: أَمَّا هُمْ، فَوَاللَّهِ أَعْقَلُ مِنَّا؛ فَإِنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ يَسْتَرْعِي النَّبِيَّ الْحَيَوَانَ الْبَهِيمَ، فَإِذَا أَحْسَنَ رِعَايَتَهُ وَالْقِيَامَ عَلَيْهِ، نَقَلَهُ مِنْهُ إِلَىٰ رِعَايَةِ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ؛ حِكْمَةً مِنَ اللَّهِ وَتَدْرِيجًا لِعَبْدِهِ، وَلَكِنَّا نَحْنُ جِئْنَا إِلَىٰ مَوْلُودٍ خَرَجَ مِنِ امْرَأَةٍ، يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَبُولُ وَيَبْكِي، فَقُلْنَا: هَذَا إِلَهُنَا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ! فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ عَنْهُ.
فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ ادَّعَى الْعَقْلَ يُعْتَبَرُ عَاقِلًا، فَقَدْ يَدَّعِيهِ مَنْ هُوَ سَفِيهٌ أَوْ أَحْمَقُ، فَالْعَاقِلُ – كَمَا تَقَدَّمَ – مَنْ تَرَفَّعَ عَنِ السَّفَاهَاتِ وَالْمَعَاصِي وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ كُلِّهَا، وَسَمَا بِنَفْسِهِ إِلَى الطَّاعَاتِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا –: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»، فَإِذَا آمَنَ الْقَلْبُ، آمَنَتِ الْجَوَارِحُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ أَمِيرُ الْبَدَنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَىٰ أَنَّ الْقَلْبَ مَا كَانَ كَذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ الْإِدْرَاكُ وَالْفَهْمُ.
العُنْصُرُ الثَّانِي: صِفَاتُ الْعُقُولِ الْمُحَمَّدِيَّةِ
فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِ الْعُقُولِ الْمُحَمَّدِيَّةِ: مَنْ يَهْتَدِي بِالْقُرْآنِ، وَيَقْتَدِي بِرَسُولِ اللَّهِ، وَمِنْهَا التَّثَبُّتُ وَعَدَمُ الِانْسِيَاقِ وَرَاءَ الشَّائِعَاتِ.
فَإِنَّ مِنْ أَخْطَرِ الْآفَاتِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحَذَرُ مِنْهَا: الْعَجَلَةَ فِي إِشَاعَةِ وَنَشْرِ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ، وَعَدَمَ التَّثَبُّتِ؛ حَتَّى صَارَتْ وَسَائِلُ الْإِعْلَامِ تَتَسَابَقُ لِلْحُصُولِ عَلَى السَّبْقِ كَمَا يَقُولُونَ، وَتَسْمَعُ دَائِمًا عِبَارَاتِ: (نَبَأٌ عَاجِلٌ، انْفِرَادٌ، سَبْقٌ صَحَفِيٌّ..) وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَنَاوِينِ، وَكُلُّهَا مِنْ أَجْلِ جَذْبِ أَسْمَاعِ وَأَبْصَارِ النَّاسِ لِتَلَقِّي وَقَبُولِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ، وَالتَّرْوِيجِ لَهَا.
وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ تَأَدَّبُوا بِآدَابِ الْقُرْآنِ، لَوَجَدُوا هَذَا الْإِرْشَادَ الْقُرْآنِيَّ الْبَلِيغَ بِضَرُورَةِ التَّثَبُّتِ مِنْ نَشْرِ وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْلُومَاتِ الَّتِي يَسْمَعُونَهَا؛ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ –: مِنَ الْآدَابِ الَّتِي عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ التَّأَدُّبُ بِهَا وَاسْتِعْمَالُهَا: أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَهُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ؛ أَيْ: خَبَرٍ، أَنْ يَتَثَبَّتُوا فِي خَبَرِهِ، وَلَا يَأْخُذُوهُ مُجَرَّدًا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خَطَرًا كَبِيرًا، وَوُقُوعًا فِي الْإِثْمِ.
جَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ لِيَأْتِيَ بِزَكَاةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ خَافَ وَرَجَعَ، وَقَدْ خَرَجُوا لَهُ لِاسْتِقْبَالِهِ وَمَعَهُمُ الزَّكَاةُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّهُمْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِغَزْوِهِمْ، فَجَاؤُوا إِلَيْهِ وَأَخْبَرُوهُ بِالْحَادِثَةِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةَ تَرْسِمُ لَنَا مَنْهَجًا رَبَّانِيًّا عَظِيمًا فِي شَأْنِ تَلَقِّي الْأَخْبَارِ، فَمَا أَحْوَجَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَهُ، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي نَرَى فِيهِ التَّسَابُقَ عَلَى أَشُدِّهِ لِنَقْلِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْدَاثِ سَاعَةً بِسَاعَةٍ؛ بَلْ لَحْظَةً بِلَحْظَةٍ، وَالْكُلُّ يُنَافِسُ وَيُسَابِقُ لِيَنَالَ السَّبْقَ أَوِ الِانْفِرَادَ كَمَا يَقُولُونَ، وَمَا هِيَ إِلَّا دَقَائِقُ مَعْدُودَةٌ فِي زَمَانِ الْفَضَائِيَّاتِ وَوَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ حَتَّى تَكُونَ قَدِ انْتَشَرَتْ هَذِهِ الشَّائِعَةُ أَوِ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا.
إِنَّ التَّثَبُّتَ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ لَهُوَ مِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْحَكِيمَةِ الرَّزِينَةِ، بِخِلَافِ الْعَجَلَةِ فَإِنَّهَا مِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الرُّعُونَةِ وَالطَّيْشِ وَالتَّسَرُّعِ.
وَتَأَمَّلْ مَعِيَ الْقِصَصَ الْقُرْآنِيَّ وَالْمَنْهَجَ الرَّبَّانِيَّ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْأَخْبَارِ؛ فَهَذَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُعَلِّمُنَا هَذَا الْأَدَبَ الْعَظِيمَ فِي قِصَّتِهِ مَعَ الْهُدْهُدِ عِنْدَمَا جَاءَهُ بِخَبَرِ مَلِكَةِ سَبَإٍ:
﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النَّمْل: 22–24]،
فَكَانَ الرَّدُّ مِنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [النَّمْل: 27]؛ أَيْ: سَنَبْحَثُ فِي الْأَمْرِ؛ لَعَلَّكَ كَذَبْتَ، أَوْ أَخْطَأْتَ، أَوْ وَهَمْتَ، لَعَلَّ فِي الْأَمْرِ الْتِبَاسًا وَغُمُوضًا.
وَأَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِاتِّصَافِهِ بِهَذَا الْأَدَبِ؛ وَذَلِكَ عِنْدَمَا تَبَرَّأَ مِنْ وَالِدِهِ الْكَافِرِ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ لَهُ كُفْرُهُ وَعِنَادُهُ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ وَالْبَيِّنَةَ، قَالَ تَعَالَى:
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التَّوْبَة: 114].
وَتَأَمَّلْ مَعِي أَيْضًا مَنْهَجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْأَخْبَارِ وَالشَّائِعَاتِ؛ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْفَاحِشَةِ، فَتَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَسْأَلُ عَنْهُ أَصْحَابَهُ، يَقُولُ لَهُمْ: «أَتَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا؟ تَنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا؟» فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ إِلَّا وَفِيَّ الْعَقْلِ، مِنْ صَالِحِينَا فِيمَا نَرَى، حَتَّى أَمَرَ بِهِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ فَرُجِمَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبِهِ جُنُونٌ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: أَشَرِبَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَزَنَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ».
فَهَذَا دَرْسٌ لَنَا فِي وُجُوبِ التَّثَبُّتِ وَالتَّبَيُّنِ قَبْلَ اتِّخَاذِ أَيِّ قَرَارٍ، قَدْ يَعُودُ عَلَى الْمَرْءِ بِالنَّدَامَةِ نَتِيجَةَ تَهَوُّرِهِ وَعَجَلَتِهِ.
وَأَلَّا يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ، وَلَا يَنْشُرَهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْكَذِبِ؛ فَالَّذِي لَا يَتَثَبَّتُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ فِي الْكَذِبِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»؛ أَيْ: قَوْلُهُ: زَعَمُوا كَذَا، أَوْ قَالُوا كَذَا؛ فَإِذَا سَأَلْتَهُ: هَلْ سَمِعْتَهُ مِنْهُ؟ هَلْ رَأَيْتَهُ يَفْعَلُهُ؟ قَالَ: لَا؛ وَلَكِنْ قَالُوا.
وَمِنْ صِفَاتِ الْعُقُولِ الْمُحَمَّدِيَّةِ: الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِّ فِي زَمَنِ الْفِتَنِ.
وَهَذَا حَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَأَهْلِ الْأُخْدُودِ وَنَحْوِهِمْ، وَكَسَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ، حَتَّى كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لَا تَغْبِطُوا أَحَدًا لَمْ يُصَبْهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَلَاءٌ.
يَقُولُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَ الْمُؤْمِنَ، فَإِنْ صَبَرَ رَفَعَ دَرَجَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿الٓمٓ * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوت: 1–3].
وَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السَّجْدَة: 24].
وَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [سُورَةُ الْعَصْر].
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِتَنَ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ؛ فَهُنَاكَ فِتَنُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَفِتْنَةُ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَفِتْنَةُ الشُّهْرَةِ.
وَلِأَنَّ الْقُلُوبَ تَتَقَلَّبُ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ رَبَّهُ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ:
«يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ».
وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ عَوَامِلَ وَأَسْبَابًا لِلثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ، نَذْكُرُ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِشَارَةِ مَا يَلِي:
أاللُّجُوءُ إِلَى اللَّهِ وَإِعْلَانُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ وَدُعَاؤُهُ
فَلَيْسَ بِالْعَبْدِ غِنًى عَنْ رَبِّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَإِنْ لَمْ يُثَبِّتْهُ رَبُّهُ ضَلَّ وَهَلَكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾.
وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو رَبَّهُ أَنْ يُثَبِّتَ قَلْبَهُ عَلَى دِينِهِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقْسِمُ فَيَقُولُ: «لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ».
إِنَّ اسْتِشْعَارَ الْعَبْدِ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ يَجْعَلُهُ دَائِمَ الِارْتِبَاطِ بِهِ، دَائِمَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، فَيَتَوَلَّاهُ رَبُّهُ وَيَصْرِفُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ وَالْفِتَنَ.
تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَمُدَارَسَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾،
وَقَالَ:
﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾.
وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾.
كَمَا أَنَّ مُدَارَسَتَهُ وَسَمَاعَهُ تَزِيدُ الْإِيمَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التَّوْبَة: 124].
وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ:
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾.
وَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِأَمْرَاضِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾،
وَقَالَ:
﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾.
فَإِذَا سَلِمَ الْقَلْبُ وَالْعَقْلُ مِنْ أَمْرَاضِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، كَانَ أَقْوَى عَلَى مُوَاجَهَةِ الْفِتَنِ، وَأَكْثَرَ ثَبَاتًا عَلَى الْحَقِّ.
وَأَيْضًا: الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالْكَفُّ عَنْ مَعَاصِيهِ
فَالطَّاعَاتُ أَغْذِيَةٌ لِلْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ، كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ سُمُومٌ تُصِيبُ الْقَلْبَ وَالْعَقْلَ فِي مَقْتَلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾،
وَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾.
فَمَهْمَا أَطَاعَ الْعَبْدُ رَبَّهُ، وَالْتَزَمَ أَوَامِرَهُ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ؛ كَانَ قَوِيًّا فِي مُوَاجَهَةِ الْفِتَنِ، وَمَهْمَا كَانَ مُفَرِّطًا فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، مُقْبِلًا عَلَى الْمَعَاصِي؛ كَانَ ضَعِيفًا أَمَامَ الْفِتَنِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُـمِيتُ الْقُلُوبَ
وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ
وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
وَأَيْضًا: كَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
فَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الْأَحْزَاب: 41–43].
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
أَلَمْ تَرَ أَيُّهَا الْحَبِيبُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرْسَلَ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ أَوْصَاهُمَا بِالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ:
﴿وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾.
وَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْكُفَّارِ بِأَنْ يُكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ فَقَالَ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
فَكَثْرَةُ الذِّكْرِ تُقَوِّي الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ، وَيُسْتَعَانُ بِالذِّكْرِ فِي مُوَاجَهَةِ الْفِتَنِ وَالِابْتِلَاءَاتِ وَعِنْدَ مُلَاقَاةِ الْأَعْدَاءِ.
وَأَيْضًا: الْقُرْبُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ
فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِأَيْدِي أَتْبَاعِهِمْ إِلَى اللَّهِ، قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا نَفَضْنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِي حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا.
كَيْفَ لَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَقِّ رَسُولِهِ مَعَ أُمَّتِهِ:
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آلِ عِمْرَان: 164].
وَمِنْ صِفَاتِ الْعُقُولِ الْمُحَمَّدِيَّةِ التَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِالْقُرْآنِ وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجَا وَفَلَحَ وَهُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الزخرف: 43].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف].
وَجَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَلَا تَفْرِقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ”.
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: الاعتصامُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ نَجَاةٌ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ، وَجَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَمْسَكَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ النَّاجِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْعَرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: “صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُودَّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟! فَقَالَ: “أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبْشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ”.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَهَمِّيَّةَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ مَا حَصَلَ لِلصَّحَابَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَمَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْكَرْبُ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَمَا رَأَوْا مِنْ غَضَاضَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُمْ امْتَثَلُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا.
وَخُلُصَةُ ذَلِكَ أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَزَلْ مُشْرِكًا وَقْتَهَا، بَلْ كَانَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِي حِينِهِ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَمَا كَتَبَ: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: اُكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهم”، فَوَافَقَ مَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُوَافِقْ سُهَيْل عَلَى كِتَابَةِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَتَنَازَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ: مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَنَعَ سُهَيْل فِي الصُّلْحِ أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ فِي هَذَا الْعَامِ، وَإِنَّمَا فِي الْعَامِ الْقَادِمِ، وَفِي الصُّلْحِ أَنْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُرَدُّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَا يُرَدُّ.
أَوَّلُ مَنْ نُفِّذَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ أَبُو جُنْدَل بْنُ سُهَيْل بْنِ عَمْرٍو، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مُحَاوَرَةٍ عَظِيمَةٍ، وَحِينَئِذٍ غَضِبَ الصَّحَابَةُ لِذَلِكَ حَتَّى قَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟! قَالَ: “بَلَى”، قَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوِّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟! قَالَ: “بَلَى”، قَالَ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِلَّا؟! قَالَ: “إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي”، قَالَ عُمَر: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا، فَحَصَلَ بِهَذَا الصُّلْحِ مِنَ الْمَصَالِحِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، وَدَخَلَ فِي السَّنَّةِ السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ مَا كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ، ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا بَعْدَ الْفَتْحِ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ.
وَهَذَا بِبَرَكَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ: “اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جُنْدَلَ لَوْ أَسْتَطِيعُ أَرُدُّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَدَدْتُهُ”.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَكَانَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَتَحْكِيمِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ مَا حَصَلَ.
العُنْصُرُ الثّالِثُ: خُطُورَةُ تَعْطِيلِ الْعَقْلِ وَأَسْبَابُهُ
وَمُهِمَّةُ الْعَقْلِ أَنْ يَعْمَلَ – ضِمْنَ حُدُودِهِ – فِي حُرِّيَّةٍ وَانْطِلاَقٍ، بَعِيدًا عَنِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَالْعَوَامِلِ الَّتِي قَدْ تَتَعَاظَمُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ حَتَّى تُؤَدِّيَ إِلَى تَعْطِيلِهِ عَنِ الْعَمَلِ كُلِّيًا. وَهَذِهِ الْعَوَامِلُ هِيَ مِنْ صُنْعِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ عُقُولَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَالْأَنْعَامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، لأَنَّ الْأَنْعَامَ لَمْ تُعْطَ الْعَقْلَ، وَأُعْطِيَهُ الْإِنْسَانُ فَعَطَّلَهُ.
وَالْعَقْلُ إِنَّمَا يَعْمَلُ عَنْ طَرِيقِ الْحَوَاسِّ الَّتِي تَصِلُهُ بِالْعَالَمِ الْخَارِجِيِّ، فَهِيَ النَّوَافِذُ الَّتِي يَطِلُّ مِنْهَا عَلَى الْحَيَاةِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ تَبَلَّدَ حِسُّهُمْ بِسَبَبِ سُوءِ طَوْيَتِهِمْ، فَأَغْلَقُوا تِلْكَ النَّوَافِذَ.. وَتَعَطَّلَ الْفِكْرُ عَنِ الْإِدْرَاكِ.. فَهُمْ لَا يَتَعَظَّوْنَ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يَتَعَظُّ بِهِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُعْتَبَرُ بِهِ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ مَا يَسْمَعُونَ.. أُولَئِكَ الَّذِينَ تَحَدَّثَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ:
﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾
﴿… أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾
إِنَّهُ الْإِصْرَارُ عَلَى تَعْطِيلِ الْعَقْلِ، الَّذِي جَعَلَهُمْ فِي مُصَافِّ الْحَيَوَانِ فِي الدُّنْيَا.. وَآلَ بِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ فِي الْآخِرَةِ.
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾
وَالْمَنْهَجُ الْإِسْلَامِيُّ – فِي سَبِيلِ أَنْ يَقُومَ الْعَقْلُ بِمُهِمَّتِهِ – بَيَّنَ لَنَا الْأَسْبَابَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِهِ، حَتَّى يَحْذَرَهَا النَّاسُ، وَجَعَلَهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كَيْ يَبْتَعِدُوا عَنْهَا.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ – الْمُعَطِّلَةُ – مِنْهَا مَا حِسِّيّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْنَوِيّ:
أَمَّا الْحِسِّيُّ: فَهُوَ كُلُّ تِلْكَ الْمَشْرُوبَاتِ الَّتِي تَذْهَبُ بِالْعَقْلِ مِنْ خُمُورٍ وَمُخَدِّرَاتٍ.. وَمَا شَبَهَ ذَلِكَ.. وَقَدْ حَرَّمَ الْإِسْلَامُ كُلَّ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ: وَهُوَ الْأَكْثَرُ خُطْرًا، وَالْأَبْعَدُ أَثَرًا، فَإِنَّا نَقِفُ عِنْدَهُ لِنَتَنَاوَلَهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ. فَمِنْ ذَلِكَ:
التَّأَثُّرُ بِالآبَاءِ وَالأَجْدَادِ:
لَا شَكَّ أَنَّ لِلْبِيئَةِ أَثَرَهَا فِي بِنْيَانِ الشَّخْصِيَّةِ الإِنسَانِيَّةِ، وَلَكِنَّ الأَمْرَ الَّذِي رَفَضَهُ الإِسْلَامُ أَنْ يَصِلَ هَذَا التَّأَثُّرُ بِهَا إِلَى دَرَجَةِ إِلْغَاءِ دَوْرِ الْعَقْلِ كُلِّيَّةً، وَتَعْطِيلِهِ عَنِ مُمارَسَةِ مُهِمَّتِهِ.
وَمَا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا النَّمُوذَجُ لِلْأَقْوَامِ الْمُتَتَابِعَةِ، فَقَدْ جَاءَ مِنْ خَبَرِهِمْ:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ…﴾
وَتَحَدَّثَ الْقُرْآنُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾
إِنَّهُ الْمَسْلَكُ الَّذِي يُلْغِي الْعَقْلَ، وَمَعَ وُضُوحِ فَسَادِهِ، فَقَدْ كَانَ هُوَ السَّبِيلُ الَّذِي تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الأُمَمُ، وَقَدْ سَجَّلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ الْمُتَكَرِّرَةَ بِقَوْلِهِ:
﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ…﴾
إِنَّهُ لِكَيْ يَقُومَ الْعَقْلُ بِدَوْرِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحَذَّرَ هَذَا الْمَسْلَكُ.
التَّكَبُّرُ:
الْكِبْرُ عَامِلٌ نَفْسِيٌّ شَدِيدُ الشِّرَاسَةِ، وَعِنْدَمَا يَسْتَقِرُّ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّهُ لَا يُلْغِي عَمَلَ الْعَقْلِ فَحَسْبُ، بَلْ يُلْغِي كُلَّ فَضِيلَةٍ فِي هَذَا الْإِنْسَانِ.
إِنَّهُ إِصْرَارٌ عَلَى الْبَاطِلِ، وَغَمْطٌ لِلْحَقِّ، وَانْتِفَاخٌ خَبِيثٌ.. وَقَدْ وَضَّحَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مَسْلَكَ الْمُتَكَبِّرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
﴿… وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
وَالْكِبْرُ مَرَضٌ جَعَلَ اللَّهُ عَدَمَ الاهْتِدَاءِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ لَازِمَاتِهِ، وَهِيَ عُقُوبَةٌ تَتَنَاسَبُ مَعَ هَذَا الذَّنْبِ. قَالَ تَعَالَى:
﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾
وَحَتَّى يَعْمَلَ الْعَقْلُ إِذًا، فَلَا بُدَّ مِنْ عِلَاجِ هَذَا الْمَرَضِ.
الضَّعْفُ:
وَالضَّعْفُ هُنَا لَيْسَ ضَعْفَ الْجِسْمِ بَلْ ضَعْفَ النَّفْسِ، حَيْثُ يَسْلِسُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قِيَادَهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَيُوَكِّلُوا إِلَيْهِمْ مُهِمَّةَ التَّفْكِيرِ عَنْهُمْ.. ثُمَّ هُمْ يُصْدِرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَّا يُقَالُ لَهُمْ.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِضَعْفٍ قَائِمٍ فِي ذَاتِهِمْ.. وَقَدْ يَكُونُ أَمَلًا فِيمَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ دُنْيَا.. وَأَيًّا كَانَ السَّبَبُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ لَمْ يُعْذِرْهُمْ، ذَلِكَ أَنَّ تَعْطِيلَ الْفِكْرِ يَعْنِي التَّنَازُلَ عَنِ الإِنْسَانِيَّةِ فِي شَخْصِ هَذَا الْمَخْلُوقِ.. وَبَعْدَ ذَلِكَ لَنْ يَبْقَى لَهُ إِلَّا الْحَيَوَانِيَّةُ فِي ذَلِكَ الْكِيانِ.
وَقَدْ أَرَدَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مَشَاهِدَ كَثِيرَةً مِنْ مَوَاقِفِ «التَّبَع» مَعَ «السَّادَةِ» تُبَيِّنُ فَدَاحَةَ الْخَسَارَةِ فِي مَوْقِفِهِمْ..
﴿… وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ…﴾
وَهَذَا الصَّنْفُ مِنَ النَّاسِ هُمُ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِمَّعَةً» وَنَهَى عَنْ مَسْلَكِهِمْ. فَقَالَ:
«لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا»
إِنَّ «الإِمَّعَةَ» إِنْسَانٌ عَطَلَ عَقْلَهُ وَأَلْسَلَ قِيَادَهُ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَا رَأْيَ لَهُ..
تِلْكَ هِيَ أَهَمُّ عَوَامِلِ تَعْطِيلِ الْعَقْلِ، وَحَتَّى يَنْهَضَ لأَدَاءِ مُهِمَّتِهِ، كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّحَرُّرِ مِنْهَا حَتَّى يَبْدَأَ الْعَمَلُ.
الدُّعَاءِ
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ
وَأَقُمْ الصَّلَاةُ![]()