تأملات في مفهوم البدعة للشيخ ايهاب صالح


بقلم الشيخ / ايهاب صالح

آليات الفهم والاستنباط

صلاحية الشرع لكل زمان ومكان: الشرع الشريف منهج شامل متكامل، يستوعب حياة البشر وأفعالهم، وما يستجد من الأحداث والنوازل إلى يوم الدين، والإسلام هو المنهج الخاتم، فلا منهج بعده، فكان لا بد أن يستوعب كل حركة الإنسان إلى يوم القيامة، وما يستجد من حوادث ومعاملات.

والبشر لهم ثقافات مختلفة، حضارات وأفكار واحتياجات مختلفة، فكل مجتمع له شخصيته ونمط معيشته، فكيف يناسب الشرع كل البشر؟ وكيف يكون ملبيًا لاحتياجاته؟

هل يصح أن ندعو الناس كلهم للغة واحدة، وملبس واحد، ومأكل واحد؟ هذا لا يعقل بالطبع، ومن ناحية أخرى فتطور الحياة لا ينتهي، فالحوادث والعقود والمعاملات واحتياجات الإنسان تختلف من عصر لآخر، ولكل عصر مستجداته، ومثال ذلك في الوقت الحاضر الثورة المعلوماتية (النت والفيس بوك والتويتر وانستجرام) التي لم تكن موجودة من قبل.

ومعلوم أن القرآن الكريم والسنة هما وحي الله تعالى الذي نحتكم إليه، وأساس المنهج الإسلامي الشامل المتكامل، ولكن نصوص الكتاب محصورة العدد في سور وآيات محددة، وكذلك السُنة المطهرة، أما أفعال البشر فغير محصورة في عدد، فأفعال البشر متنوعة ومتغيرة ومتجددة إلى يوم القيامة، فهل يحدد الإسلام للبشر عدد معين من الأفعال والملبس والمأكل، وما سواه يكون بدعة؟ بالطبع هذا لا يقره عقل.

ونظرًا أن الإسلام هو الدين الخاتم، والشرع الشريف هو الشريعة الخاتمة، الصالحة لكل مكان وزمان، كان لا بد من مجموعة من الآليات لفهم نصوص القرآن والسنة، واستخراج الأحكام منها، فنشأت العلوم الشرعية الكثيرة لفهم شرع الله سبحانه، وبحث العلماء في النصوص، فاستخرجوا منها القواعد الكبرى الحاكمة، التي سمّاها العلماء بقوعد الإلحاق، فلا بد من أصول نُلحِق بها كل فعل لنحدد حكمه شرعًا، هل هو موافق للشرع فنصفه أنه محمود؟ أم مخالف للشرع فنصفه بأنه بدعة؟ قال محمد عبد الله دراز: “الله تعالى أمرنا بالتدبر والاعتبار، ووضع بجانب أكثر الأحكام عللها، لنتخذ منها أصولًا ومقاييس، للتعامل مع الحوادث الجديدة، واستخراج الأحكام بناء عليها”.

الفكر المتطرف: يتسم أصحاب الفكر المتطرف في وقتنا المعاصر باضطراب في فهم الدين، وكيفية التعامل الصحيح مع النصوص، ويتصورون أن التقليد الظاهر فقط هو الشرع، فأخذوا فقط بظاهر النصوص، ولم يفهموا الأصول ولا الدلالات ولا المقاصد ولا العلوم التي أُسست عليها، ولم يدركوا الفرق بين دلالة المنطوق ودلالة المفهوم، ولا مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، وغير ذلك من آليات الاستنباط، وبالتالي اعتبروا في النصوص دلالة المنطوق فقط، فأخذوا النصوص كلها على ظاهرها فقط، وزعموا أن كل فعل إمّا له نص، وإما يكون بدعة، لذلك حكموا على أمور كثيرة بالبدعة ومخالفة الشرع.

والأمثلة عديدة منها: بناء المآذن، واستعمال مكبرات الصوت، والشرائط الأرضية التي توضع في المساجد لتساعد على انتظام الصفوف، والسُبحة، ودعاء المسلمين لبعضهم بعد الصلاة، وقول: (جمعة مباركة)، و(رمضان كريم)، والكثير من الأمور السطحية التي شغلوا المسلمين بها، نتيجة فهمهم القاصر للشرع الشريف، ووقوفهم عند حدود ألفاظ النصوص الشرعية الظاهرية فقط دون مفهومها ومقصودها، فالحكم عندهم دائمًا إمّا يكون منطوقًا في القرآن والسُنة، وإما يكون مخالفًا للشرع الشريف، ومنحرفًا عن السنة المطهرة، بل وصل بهم الأمر إلى إنكار المذاهب الفقهية الأربعة، بحجة أن المسلمين مأمورون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب عدم اتباع أئمة المذاهب، ومن يتبع المذاهب فهو مبتدع ولا يتبع السُنة، وكأنّه يوجد تضاد بين السُنة والمذاهب الفقهية، فأوقعوا المسلمين في ضيق شديد وحرج.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

يليه الجزء الثاني إن شاء الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *