تدبر كلمات القرآن الكريم ( سورة الأحزاب رسالة إلى الأمة في محنتها المعاصرة)

بقلم المستشار الدكتور : محمد فهمي رشاد منصور
مدرس التفسير وأصول الفقه بجامعة القصر الدولية بدولة ليبيا

 

● الآيات[ 1 : 3 / الأحزاب ]

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ ٱتَّقِ ٱللَّهۚ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیما﴾ [الأحزاب ١]

* سُورَةُ الأحْزابِ مَقْصُودُها الحَثُّ عَلى الصِّدْقِ في الإخْلاصِ في التَّوَجُّهِ إلى الخالِقِ مِن [غَيْرِ] مُراعاةٍ بِوَجْهٍ ما لِلْخَلائِقِ، لِأنَّهُ عَلِيمٌ بِما يُصْلِحُهُمْ، حَكِيمٌ فِيما يَفْعَلُهُ فَهو يُعْلِي مَن يَشاءُ وإنْ كانَ ضَعِيفًا، ويُرْدِي مَن يُرِيدُ وإنْ كانَ قَوِيًّا، فَلا يَهْتَمَّنَّ الماضِي لِأمْرِهِ بِرَجاءٍ لِأحَدٍ مِنهم في بِرِّهِ ولا خَوْفٍ مِنهُ في عَظِيمِ شَرِّهِ وخِفِيِّ مَكْرِهِ، واسْمُها واضِحٌ في ذَلِكَ بِتَأمُّلِ القِصَّةِ الَّتِي أشارَ إلَيْها ودَلَّ عَلَيْها بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي مَهْما أرادَ كانَ الرَّحْمَن الَّذِي سَرَتْ رَحْمَتُهُ خِلالَ الوُجُودِ، فَشَمَلَتْ كُلَّ مَوْجُودٍ، بِالكَرَمِ والجُودِ الرَّحِيم لِمَن تَوَكَّلَ عَلَيْهِ بِالعَطْفِ إلَيْهِ.لَمّا خُتِمَتِ الَّتِي قَبْلَها بِالإعْراضِ عَنِ الكافِرِينَ، وانْتِظارِ ما يَحْكُمُ بِهِ فِيهِمْ رَبُّ العالَمِينَ، بَعْدَ تَحْقِيقِ أنَّ تَنْزِيلَ الكِتابِ مِن عِنْدِ المُدَبِّرِ لِهَذا الخَلْقِ كُلِّهِ، والنَّهْيِ عَنِ الشَّكِّ في لِقائِهِ، افْتَتَحَ هَذِهِ بِالأمْرِ بِأساسِ ذَلِكَ، والنَّهْيِ عَنْ طاعَةِ المُخالِفِينَ مُجاهِرِينَ كانُوا أوْ مُتَساتِرِينَ، والأمْرُ بِاتِّباعِ الوَحْيِ الَّذِي أعْظَمُهُ الكِتابُ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الإعْراضَ إنَّما يَكُونُ طاعَةً لِلَّهِ مَعَ مُراعاةِ تَقْواهُ

• فَقالَ: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ﴾ عَبَّرَ بِأداةِ التَّوَسُّطِ إيماءً إلى أنَّ وقْتَ نُزُولِ السُّورَةِ – وهو آخِرُ سَنَةِ خَمْسٍ، غَبَّ وقْعَةِ الأحْزابِ – أوْسَطَ مُدَّةِ ما بَعْدَ الهِجْرَةِ إلاحَةً إلى أنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِن أمَدِ كَمالِ النُّصْرَةِ الَّتِي اقْتَضاها وصْفُ النُّبُوَّةِ الدّالُّ عَلى الرَّفْعَةِ إلّا القَلِيلُ وعَبَّرَ بِهِ لِاقْتِضاءِ مَقْصُودِ السُّورَةِ مَقامَ النُّبُوَّةِ الَّذِي هو بَيْنَ الرَّبِّ وعَبْدِهِ في تَقْرِيبِهِ وإعْلائِهِ إلى جَنابِهِ إذا قُرِئَ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وإنْ قُرِئَ بِهِ كانَ اللَّحْظُ إلى إنْبائِهِ بِالخَفِيِّ وتَفْصِيلِهِ لِلْجَلِيِّ،

وقالَ الحِرالِيُّ في كِتابٍ لَهُ في أُصُولِ الدِّينِ: حَقِيقَةُ النُّبُوَّةِ وُرُودُ غَيْبٍ ظاهِرٍ أيْ مِنَ الحَقِّ بِالوَحْيِ لِخاصٍّ مِنَ الخَلْقِ، خَفِيَ عَنِ العامَّةِ مِنهُمْ، ثُمَّ قَدْ يَخْتَصُّ مَقْصِدُ ذَلِكَ الوارِدِ المُقِيمِ لِذَلِكَ الواحِدِ بِذاتِهِ، فَيَكُونُ نَبِيًّا غَيْرَ رَسُولٍ، وقَدْ يَرِدُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَمامِ أمْرِهِ في ذاتِهِ مَوارِدَ إقامَةِ غَيْرِهِ فَيَصِيرُ رَسُولًا.

والرُّتْبَةُ الأُولى كَثِيرَةُ الوُقُوعِ في الخَلْقِ، وهي النُّبُوَّةُ، والثّانِيَةُ قَلِيلَةُ الوُقُوعِ، فالرُّسُلُ مِعْشارُ مِعْشارِ الأنْبِياءِ،

•ولِلنُّبُوَّةِ اشْتِقاقانِ: أحَدُهُما [مِنَ] النَّبَأِ وهو الخَبَرُ، وذَلِكَ لِمَنِ اصْطُفِيَ مِنَ البَشَرِ لِرُتْبَةِ السَّماعِ والإنْباءِ فَنُبِّئَ ونَبَّأ غَيْرَهُ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ عِنْدَهُ حَقِيقَةُ ما نُبِّئَ بِهِ ولا ما نَبَّأ فَيَكُونُ حامِلَ عِلْمٍ، والِاشْتِقاقُ الثّانِي مِنَ النُّبُوَّةِ وهي الِارْتِفاعُ والعُلُوُّ، وذَلِكَ لِمَن أعْلى عَنْ رُتْبَةِ النَّبَأِ إلى رُتْبَةِ العِلْمِ. فَكانَ مُطَّلِعًا عَلى عِلْمِ ما ورَدَ عَلَيْهِ مِنَ الغَيْبِ عَلى حَقِيقَتِهِ وكَمالِهِ، فَمَن عَلا عَنِ الحَظِّ المُتَنَزِّلِ العَقْلِيِّ إلى رُتْبَةِ سَماعٍ، كانَ نَبِيئًا بِالهَمْزِ، ومَن عَلا عَنْ ذَلِكَ إلى رُتْبَةِ عِلْمٍ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ كانَ نَبِيًّا غَيْرَ مَهْمُوزٍ، فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَثَلًا في عِلْمِ الأسْماءِ نَبِيٌّ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وفي ما وراءَهُ نَبِيءٌ بِهَمْزٍ، [وكَذَلِكَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيما أُرِيَ مِنَ المَلَكُوتِ نَبِيٌّ غَيْرَ مَهْمُوزٍ وفِيما وراءَهُ نَبِيءٌ بِهَمْزٍ]. انْتَهى. ولَمْ يُنادِهِ سُبْحانَهُ بِاسْمِهِ تَشْرِيفًا لِقَدْرِهِ، وإعْلاءً لِمَحَلِّهِ، وحَيْثُ سَمّاهُ بِاسْمِهِ في الأخْبارِ فَلِلتَّشْرِيفِ مِن جِهَةٍ أُخْرى، وهي تَعْيِينُهُ وتَخْصِيصُهُ إزالَةً لِلَّبْسِ عَنْهُ، وقَطْعًا لِشُبَهِ التَّعَنُّتِ.

ولَمّا ناداهُ سُبْحانَهُ بِهَذا الِاسْمِ الشَّرِيفِ المُقْتَضِي لِلِانْبِساطِ، أمَرَهُ بِالخَوْفِ

•فَقالَ: ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ أيْ زِدْ مِنَ التَّقْوى يا أعْلى الخَلائِقِ بِمِقْدارِ ما تَقْدِرُ عَلَيْهِ لِذِي الجَلالِ كُلِّهِ والإكْرامِ، لِئَلّا تَلْتَفِتَ إلى شَيْءٍ سِواهُ، فَإنَّهُ أهْلٌ لِأنْ يُرْهَبَ لِما لَهُ مِن خِلالِ الجَلالِ، والعَظَمَةِ والكَمالِ.ولَمّا وجَّهَ إلَيْهِ الأمْرَ بِخَشْيَةِ الوَلِيِّ الوَدُودِ، أتْبَعَهُ النَّهْيَ عَنِ الِالتِفاتِ نَحْوَ العَدُوِّ والحَسُودِ.

* فَقالَ: ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ﴾ أيِ المُمانِعِينَ ﴿والمُنافِقِينَ﴾ أيِ المُصانِعَيْنِ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ لَمْ يَتَقَدَّمْ إلَيْكَ الخالِقُ فِيهِ بِأمْرٍ وإنْ لاحَ لائِحُ خَوْفٍ أوْ بَرَقَ بارِقُ رَجاءٍ، ولا سِيَّما سُؤالُنا في شَيْءٍ مِمّا يَقْتَرِحُونَهُ رَجاءَ إيمانِهِمْ مِثْلَ أنْ تُعَيِّنَ لَهم وقْتَ السّاعَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيها الفَتْحُ، فَإنَّهم إنَّما يَطْلُبُونَ ذَلِكَ اسْتِهْزاءً، قالَ أبُو حَيّانَ: وسَبَبُ نُزُولِها أنَّهُ رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا قَدِمَ المَدِينَةَ كانَ يُحِبُّ إسْلامَ اليَهُودِ، فَتابَعَهُ ناسٌ مِنهم عَلى النِّفاقِ، وكانَ يُلِينُ لَهم جانِبَهُ، وكانُوا يُظْهِرُونَ النَّصائِحَ مِن طُرُقِ المُخادَعَةِ، فَنَزَلَتْ تَحْذِيرًا لَهُ مِنهُمْ،» وتَنْبِيهًا عَلى عَداوَتِهِمْ – انْتَهى ثُمَّ عَلَّلَ الأمْرَ والنَّهْيَ بِما يُزِيلُ الهُمُومَ ويُوجِبُ الإقْبالَ عَلَيْهِما واللُّزُومَ، فَقالَ مُلَوِّحًا إلى أنْ لَهم أغْوارًا في مَكْرِهِمْ رُبَّما خَفِيَتْ عَلَيْهِ ﷺ، وأكَّدَ تَرْغِيبًا في الإقْبالِ عَلى مَعْلُولِهِ بِغايَةِ الِاهْتِمامِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيْ بِعَظِيمِ كَمالِهِ وعِزِّ جَلالِهِ ﴿كانَ﴾ أزَلًا وأبَدًا ﴿عَلِيمًا﴾ شامِلَ العِلْمِ ﴿حَكِيمًا﴾ بالِغَ الحِكْمَةِ فَهو لَمْ يَأْمُرْكَ بِأمْرٍ إلّا وقَدْ عَلِمَ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وأحْكَمَ إصْلاحَ الحالِ فِيهِ

* وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ في بُرْهانِهِ: افْتَتَحَها سُبْحانَهُ بِأمْرِ نَبِيِّهِ بِاتِّقائِهِ، ونَهْيِهِ عَنِ الصَّغْوِ إلى الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ، واتِّباعِهِ ما يُوحِي إلَيْهِ، تَنْزِيهًا لِقَدْرِهِ عَنْ مِحْنَةِ مَن سَبَقَ لَهُ الِامْتِحانُ مِمَّنْ قَدَّمَ ذِكْرَهُ في سُورَةِ السَّجْدَةِ، وأمْرًا لَهُ بِالتَّسْلِيمِ لِخالِقِهِ والتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ﴿واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: ٤] ولَمّا تَحَصَّلَ مِنَ السُّورَتَيْنِ مِنَ الإشارَةِ إلى السَّوابِقِ ﴿ولَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها﴾ [السجدة: ١٣] كانَ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِتَأْنِيسِ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ وصالِحِي أتْباعِهِ، ولِهَذا أعْقَبَ سُورَةَ السَّجْدَةِ بِهَذِهِ السُّورَةِ المُضَمَّنَةِ مِنَ التَّأْنِيسِ والبِشارَةِ ما يَجْرِي عَلى المَعْهُودِ مِن لُطْفِهِ تَعالى وسَعَةِ رَحْمَتِهِ، فافْتَتَحَ سُبْحانَهُ السُّورَةَ بِخِطابِ نَبِيِّهِ ﷺ بِالتَّقْوى، وإعْلامِهِ بِما [قَدْ] أعْطاهُ قَبْلُ مِن سُلُوكِ سَبِيلِ النَّجاةِ وإنْ ورَدَ عَلى طَرِيقَةِ الأمْرِ لِيُشْعِرَهُ بِاسْتِقامَةِ سَبِيلِهِ، وإيضاحِ دَلِيلِهِ، وخاطَبَهُ بِلَفْظِ النُّبُوَّةِ لِأنَّهُ أمْرٌ عَقِبَ تَخْوِيفٍ وإنْذارٍ وإنْ كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ نَزَّهَ اللَّهَ قَدْرَهُ عَلى أنْ يَكُونَ مِنهُ خِلافُ التَّقْوى، وعَصَمَهُ مِن كُلِّ ما يُنافِرُ نَزاهَةَ حالِهِ وعَلَيِّ مَنصِبِهِ، ولَكِنْ طَرِيقَةُ خَطابِهِ تَعالى لِلْعِبادِ أنَّهُ تَعالى مَتى جُرِّدَ ذِكْرُهم لِلْمَدْحِ مِن غَيْرِ أمْرٍ ولا نَهْيٍ فَهُوَ مَوْضِعُ ذِكْرِهِمْ بِالأخَصِّ الأمْدَحِ عَنْ مَحْمُودِ صِفاتِهِمْ، ومِنهُ ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: ٢٩] الآياتُ، فَذُكِرَ ﷺ بِاسْمِ الرِّسالَةِ، ومَهْما كانَ الأمْرُ والنَّهْيُ، عَدَلَ في الغالِبِ إلى الأعَمِّ، ومِنهُ ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلى القِتالِ﴾ [الأنفال: ٦٥] ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ [الطلاق: ١] ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١] ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ﴾ [التحريم: ٩] ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا جاءَكَ المُؤْمِناتُ﴾ [الممتحنة: ١٢]

وقَدْ تَبَيَّنَ في غَيْرِ هَذا، وأنَّ ما ورَدَ عَلى خِلافِ هَذا القانُونِ فَلِسَبَبٍ خاصٍّ اسْتَدْعى العُدُولَ عَنِ المُطَّرِدِ كَقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْـزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ [المائدة: ٦٧] فَوَجْهُ هَذا أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ ﴿وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧] مَوْقَعُهُ شَدِيدٌ، فَعُودِلَ بِذِكْرِهِ ﷺ بِاسْمِ الرِّسالَةِ لِضَرْبٍ مِنَ التَّلَطُّفِ، فَهو مِن بابِ ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] وفِيهِ بَعْضُ غُمُوضٍ، وأيْضًا فَإنَّهُ لَمّا قِيلَ لَهُ ”بَلِّغْ“ طابَقَ هَذا ذِكْرَهُ بِالرِّسالَةِ، فَإنَّ المُبَلِّغَ رَسُولٌ، والرَّسُولُ مُبَلِّغٌ، ولا يَلْزَمُ النَّبِيَّ أنْ يُبَلِّغَ إلّا أنْ يُرْسَلَ،

وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾ [المائدة: ٤١] فَأمْرُهُ وإنْ كانَ نَهْيًا أوْضَحُ مِنَ الأوَّلِ، لِأنَّهُ تَسْلِيَةٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وتَأْنِيسٌ وأمْرٌ بِالصَّبْرِ والرِّفْقِ بِنَفْسِهِ، فَبابُهُ راجِعٌ إلى ما يَرِدُ مَدْحًا مُجَرَّدًا عَنِ الطَّلَبِ، وعَلى ما أُشِيرَ إلَيْهِ يَخْرُجُ [ما ورَدَ مِن هَذا. ولَمّا افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِما حاصِلُهُ ما قَدَّمْناهُ] مِن إعْلامِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن هَذا الأمْرِ بِعَلِيِّ حالِهِ ومَزِيَّةِ قَدْرِهِ، ناسَبَ ذَلِكَ ما احْتَوَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِن بابِ التَّنْزِيهِ في مَواضِعَ مِنها إعْلامُهُ تَعالى بِأنَّ أزْواجَ نَبِيِّهِ ﷺ أُمَّهاتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَنُزِّهْنَ عَنْ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُنَّ حُكْمَ غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّساءِ مَزِيَّةً لَهُنَّ وتَخْصِيصًا وإجْلالًا لِنَبِيِّهِ ﷺ،

ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَمّا رَأى المُؤْمِنُونَ الأحْزابَ﴾ [الأحزاب: ٢٢] – الآيَةُ، فَنَزَّهَهم عَنْ تَطَرُّقِ سُوءٍ أوْ دُخُولِ ارْتِيابٍ عَلى مَصُونِ مُعْتَقَداتِهِمْ وجَلِيلِ إيمانِهِمْ ﴿قالُوا هَذا ما وعَدَنا اللَّهُ ورَسُولُهُ وصَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ وما زادَهم إلا إيمانًا وتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٢٢] والآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا﴾ [الأحزاب: ٢٣] – الآيَةُ،
ومِنها ﴿يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٢]

فَنَزَّهَهُنَّ سُبْحانَهُ وبَيَّنَ شَرَفَهُنَّ عَلى مَن عَداهُنَّ،

ومِنها تَنْزِيهُ أهْلِ البَيْتِ وتَكْرِمَتُهم ﴿إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ﴾ [الأحزاب: ٣٣] الآيَةُ، ومِنها الأمْرُ بِالحِجابِ ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأزْواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٩] فَنَزَّهَ المُؤْمِناتِ عَنْ حالَةِ الجاهِلِيَّةِ مِنَ التَّبَرُّجِ وعَدَمِ الحِجابِ، وصانَهُنَّ عَنِ التَّبَذُّلِ والِامْتِهانِ، ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسى﴾ [الأحزاب: ٦٩] فَوَصّاهم جَلَّ وتَعالى ونَزَّهَهم بِما نَهاهم عَنْهُ أنْ يَتَشَبَّهُوا بِمَنِ اسْتَحَقَّ اللَّعْنَ والغَضَبَ في سُوءِ أدَبِهِمْ وعَظِيمِ مُرْتَكَبِهِمْ، إلى ما تَضَمَّنَتِ السُّورَةُ مِن هَذا القَبِيلِ، ثُمَّ أتْبَعَ سُبْحانَهُ ما تَقَدَّمَ بِالبِشارَةِ العامَّةِ واللُّطْفِ الشّامِلِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٥] ﴿وداعِيًا إلى اللَّهِ بِإذْنِهِ وسِراجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٦] ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ لَهم مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٧] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤١] – إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أجْرًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب: ٤٤] وقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ﴾ [الأحزاب: ٣٥] – إلى قَوْلِهِ: ﴿وأجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٣٥] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ٧٠] – إلى قَوْلِهِ: ﴿عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧١] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَتُوبَ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [الأحزاب: ٧٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٣] وقَوْلِهِ تَعالى مُثْنِيًا عَلى المُؤْمِنِينَ بِوَفائِهِمْ وصِدْقِهِمْ ﴿ولَمّا رَأى المُؤْمِنُونَ الأحْزابَ قالُوا هَذا ما وعَدَنا اللَّهُ ورَسُولُهُ وصَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ﴾ [الأحزاب: ٢٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿وما بَدَّلُوا تَبْدِيلا﴾ [الأحزاب: ٢٣] [وقَوْلِهِ] سُبْحانَهُ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ نَبِيِّهِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: ٥٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿وإثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: ٥٨]

وفي هَذِهِ الآياتِ مِن تَأْنِيسِ المُؤْمِنِينَ وبِشارَتِهِمْ وتَعْظِيمِ حُرْمَتِهِمْ ما يَكْسِرُ سَوْرَةَ الخَوْفِ الحاصِلِ مِن سُورَتَيْ لُقْمانَ والسَّجْدَةِ ويَسْكُنُ رَوْعُهم تَأْنِيسًا لا رَفْعًا ومِن هَذا القَبِيلِ أيْضًا ما تَضَمَّنَتِ السُّورَةُ مِن تَعْدادِ نِعَمِهِ تَعالى عَلَيْهِمْ وتَحْسِينِ خَلاصِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ جاءَتْكم جُنُودٌ فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب: ٩] – إلى قَوْلِهِ: ﴿هُنالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وزُلْزِلُوا زِلْزالا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ١١] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ورَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا وكَفى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ﴾ [الأحزاب: ٢٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢٧] وخَتَمَ السُّورَةَ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ والمَغْفِرَةِ أوْضَحَ شاهِدٍ لِما تَمَهَّدَ مِن دَلِيلِ قَصْدِها وبَيانِها عَلى ما وضَّحَ الحَمْدُ لِلَّهِ ولَمّا كانَ حاصِلُها رَحْمَةً ولُطْفًا ونِعْمَةً، لا يَقْدِرُ عَظِيمَ قَدْرِها، ويَنْقَطِعُ العالَمُ دُونَ الوَفاءِ بِشُكْرِها، أعْقَبَ بِما يَنْبَغِي مِنَ الحَمْدِ يَعْنِي أوَّلَ سَبَأٍ. انْتَهى.

* قوله تعالى:﴿وَٱتَّبِعۡ مَا یُوحَىٰۤ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا﴾ [الأحزاب ٢]

ولَمّا كانَ ذَلِكَ مُفْهِمًا لِمُخالَفَةِ كُلِّ ما يَدْعُو إلَيْهِ كافِرٌ. وكانَ [الكافِرُ] رُبَّما دَعا إلى شَيْءٍ مِن مَكارِمِ الأخْلاقِ، قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿واتَّبِعْ﴾ أيْ بِغايَةِ جُهْدِكَ.ولَمّا اشْتَدَّتِ العِنايَةُ هُنا بِالوَحْيِ، وكانَ المُوحِي مَعْلُومًا مِن آياتٍ كَثِيرَةٍ، بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ قَوْلُهُ: ﴿ما يُوحى﴾ أيْ يُلْقى إلْقاءً خَفِيًّا كَما يَفْعَلُ المُحِبُّ مَعَ حَبِيبِهِ ﴿إلَيْكَ﴾ وأتى مَوْضِعَ الضَّمِيرِ بِظاهِرٍ يَدُلُّ عَلى الإحْسانِ فِي التَّرْبِيَةِ لِيَقْوى عَلى امْتِثالِ ما أمَرَتْ بِهِ الآيَةُ السّالِفَةُ فَقالَ: ﴿مِن رَبِّكَ﴾ أيِ المُحْسِنِ إلَيْكَ بِصَلاحِ جَمِيعِ أمْرِكَ، فَمَهْما أمَرَكَ بِهِ فافْعَلْهُ لِرَبِّكَ لا لَهُمْ، ومَهْما نَهاكَ عَنْهُ فَكَذَلِكَ، سَواءٌ كانَ إقْبالًا عَلَيْهِمْ أوْ إعْراضًا عَنْهم أوْ غَيْرِ ذَلِكَ.ولَمّا أمَرَهُ بِاتِّباعِ الوَحْيِ، رَغْبَةً فِيهِ بِالتَّعْلِيلِ بِأوْضَحَ مِنَ التَّعْلِيلِ الأوَّلِ في أنَّ مَكْرَهم خَفِيٌّ، فَقالَ مُذَكِّرًا بِالِاسْمِ الأعْظَمِ بِجَمِيعِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الأسْماءِ الحُسْنى زِيادَةً في التَّقْوِيَةِ عَلى الِامْتِثالِ، مُؤَكِّدًا لِلتَّرْغِيبِ كَما تَقَدَّمَ، وإشارَةً إلى أنَّهُ مِمّا يَسْتَبْعِدُهُ بَعْضُ المُخاطَبِينَ في قِراءَةِ الخِطابِ [لِغَيْرِ أبِي عَمْرٍو:] ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ [أيْ] بِعَظَمَتِهِ وكَمالِهِ ﴿كانَ﴾ دائِمًا ﴿بِما تَعْمَلُونَ﴾ أيِ الفَرِيقانِ مِنَ المَكايِدِ وإنَّ دَقَّ ﴿خَبِيرًا﴾ فَلا تَهْتَمَّ بِشَأْنِهِمْ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ كافِيكَهُ وإنْ تَعاظَمَ، وعَلى قِراءَةِ أبِي عَمْرٍو بِالغَيْبِ يَكُونُ هَذا التَّعْلِيلُ حَثًّا عَلى الإخْلاصِ، وتَحْقِيقًا لِأنَّهُ قادِرٌ عَلى الإصْلاحِ وإنْ أعْيى الخَلاصُ، ونَفْيًا لِما قَدْ يَعْتَرِي النُّفُوسَ مِنَ الزِّلْزالِ، في أوْقاتِ الِاخْتِلالِ.

* قوله تعالى:﴿وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلا﴾ [الأحزاب ٣]

ولَمّا كانَ الآدَمِيُّ مَوْضِعَ الحاجَةِ إلى تَعْظِيمِ التَّرْجِيَةِ قالَ: ﴿وتَوَكَّلْ﴾ أيْ دَعِ الِاعْتِمادَ عَلى التَّدْبِيرِ في أُمُورِكَ واعْتَمِدْ فِيها ﴿عَلى اللَّهِ﴾ المُحِيطِ عِلْمًا وقُدْرَةً، ولِتَكْرِيرِ هَذا الِاسْمِ [الأعْظَمِ] الجامِعِ لِجَمِيعِ مَعانِي الأسْماءِ في هَذا المَقامِ شَأْنٌ لا يَخْفى كَما أُشِيرَ إلَيْهِ.ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَإنَّهُ يَكْفِيكَ في جَمِيعِ ذَلِكَ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وكَفى بِاللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ عَلى الإطْلاقِ ﴿وكِيلا﴾ أيْ إنَّهُ لا أكَفى مِنهُ لِكُلِّ مَن وكَّلَهُ في أمْرِهِ، فَلا تَلْتَفِتْ في شَيْءٍ مِن أمْرِكَ إلى شَيْءٍ [غَيْرِهِ] لِأنَّهُ لَيْسَ لَكَ قَلْبانِ تُصَرِّفُ كُلًّا مِنهُما إلى واحِدٍ.

والحديث موصول إن شاء الله تعالى..

* اللهم انصر المظلومين في كل مكان
وانصر المسلمين أجمعين يارب العالمين
* وفرج كرب أهل غزة وعن المسلمين أجمعين يارب العالمين
* واحفظ مصر العامرة وانصر جيشها يارب العالمين.
* وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
* وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *