التصوف الأصيل.. سمو الروح وتهذيب السلوك
						
	
		
	3 نوفمبر، 2025	
	قالوا عن التصوف
	
	
			
				
					
					
					
بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حسين حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
مقدمة
كثيرٌ من الناس يظنون أن التصوف خروجٌ عن الدين أو انحرافٌ عن المنهج، وأن المتصوف الحق هو من يطير في الهواء أو يمشي على الماء، وهذا ظنٌّ باطلٌ لا أصل له في كتابٍ ولا سنةٍ ولا في منهج السلف الصالح.
فالتصوف الحقيقي ليس مظهرًا خارجيًّا، ولا حالًا من الخوارق والكرامات، بل هو صفاءُ قلبٍ، ونقاءُ سريرةٍ، وصدقُ معاملةٍ مع الله تعالى.
في زمنٍ كثر فيه الغلوّ في الدين، والانحراف عن مقاصده السامية، يبرز التصوف الأصيل كواحةٍ من الطهر والسكينة، يعيد للإنسان صفاء قلبه، وللعبادة روحها، وللمجتمع توازنه بين المادة والروح.
فالتصوف ليس بدعةً ولا خروجًا عن الشريعة، بل هو الجانب الإحساني من الإسلام، كما عبّر عنه النبي ﷺ بقوله في حديث جبريل: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(رواه مسلم)
فهو تربيةٌ للنفس على الإخلاص، ومجاهدةٌ للهوى، وسيرٌ إلى الله تعالى على بصيرة.
جوهر التصوف
التصوف في حقيقته رجوعٌ إلى صفاء الدين، إلى الأصل الذي نزل به القرآن، وعاش به النبي ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم.
هو تربيةٌ للنفس على الإخلاص، وتزكيةٌ للقلب من الكبر والرياء، وتطهيرٌ للسلوك من الحقد والحسد.
قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10]
فالتصوف بهذا المعنى هو مدرسة التزكية التي تهتم بتطهير الباطن كما يهتم الفقه بتقويم الظاهر.
وقال الإمام الذهبي في “سير أعلام النبلاء”: «كان الجنيد سيد الطائفة، إمامًا عارفًا، صاحب أحوالٍ صحيحةٍ، وكلامٍ موزونٍ، لا يخرج عن الكتاب والسنة».
التصوف في حقيقته — كما قال العلماء — هو العمل بالعلم، والإخلاص في العبادة، والصدق في التوجّه إلى الله.
قال الإمام الجنيد البغدادي (ت 297هـ): «طريقنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في طريقنا».
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه:«حبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث: ترك التكلف، وعشرة الخلق بالمعروف، والاقتداء بطريق أهل التصوف، فإنهم زادوا علينا بالعلم، وسبقونا بالإخلاص».
وهكذا يظهر أن التصوف لم يكن غريبًا عن الإسلام، بل هو روح الدين التي تسري في سلوك المؤمنين الصادقين.
وقال الإمام ابن تيمية — وهو من كبار المحققين — في “مجموع الفتاوى” (11/18): «كلمة الصوفية فيها إجمال، فمَن كان منهم متبعًا للكتاب والسنة، فهو من أولياء الله المتقين، ومَن خالف الكتاب والسنة كان من أهل الضلال المبين».
وقال الإمام الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”: «لم أرَ في طريق القوم إلا صدقًا في التوجه، وعلوًا في الهمة، وزهدًا في الدنيا، وإقبالًا على الله».
فهؤلاء الأئمة من المحدثين والفقهاء والمجتهدين — على اختلاف مذاهبهم — أجمعوا على أن التصوف الأصيل جزء من الدين، لا يقوم الإسلام الكامل إلا به.
لم يكن أهل التصوف الحقيقيون يعبدون الله خوفًا من نارٍ أو طمعًا في جنةٍ، بل عبدوه حبًّا فيه ومعرفةً له.
قال الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: “اللهم اجعلنا من الذين عبدوك حبًا فيك، لا خوفًا منك، ولا طمعًا في ثوابك.”
فهم قومٌ ذاقوا حلاوة القرب، فعشقوا الطاعة لا لأنها تكليف، بل لأنها وصالٌ مع الحبيب سبحانه.
قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]
وهذا هو مقام الإحسان الذي حدده النبي ﷺ بقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.” (رواه مسلم)
سلوك على الأرض بقلبٍ في السماء
المتصوف الحقيقي لا يعيش في الخيال، ولا ينفصل عن الواقع، بل يعيش بين الناس بروحٍ نقيةٍ وقلبٍ سليم، يرحم الضعيف، ويواسي الفقير، ويعامل الخلق بحسن الخلق.
فقد قال النبي ﷺ:”أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا.”
(رواه الترمذي)
إنه يمشي على الأرض بقلبٍ معلقٍ بالسماء، يعيش في الدنيا ولكن قلبه عند الله.
أهداف التصوف
1. تزكية النفس من أمراض الكبر والرياء والحسد.
قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9]
2. إحياء القلب بذكر الله وحضور معانيه.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 28]
3. تحقيق الإخلاص في العبادة والمعاملة.
قال النبي ﷺ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
(رواه مسلم)
4. الوصول إلى مقام الإحسان، وهو الغاية الكبرى من التصوف.
ثمار التصوف في الواقع
♦يزرع في النفس السكينة والتواضع، ويعلّمها كيف تكون لله لا للهوى.
♦يربي الإنسان على الرحمة والتسامح، فلا يرى في الناس إلا إخوةً في الإنسانية.
♦يجعل القلب حاضرًا مع الله، واليد عاملة في عمارة الأرض.
♦يدفع المجتمع إلى الوسطية والاعتدال، وينزع من القلوب روح العنف والتكفير.
ولهذا قال الشيخ عبد الحليم محمود — شيخ الأزهر الأسبق — في كتابه قضية التصوف: «التصوف الأصيل هو الإسلام في أرقى مراتبه، هو التخلق بأخلاق النبي ﷺ، والسير على نهجه في السلوك والعبادة».
التصوف الأزهري.. طريق الوسطية
التصوف الأزهري هو الامتداد الطبيعي للتصوف الصحيح الذي جمع بين الشريعة والحقيقة، بين العلم والعمل، بين العقل والذوق.
فهو لا ينعزل عن المجتمع، بل ينهض به، ولا يخاصم العلم، بل يتزود منه، ولا يدّعي الولاية، بل يعمل في صمتٍ وصدق.
قال الإمام الجنيد رضي الله عنه: “طريقنا هذا مقيدٌ بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في طريقنا.”
خاتمة
التصوف ليس لباسًا ولا طقسًا، بل حياةٌ نقيةٌ من الكذب والكبر والنفاق.
هو أن تكون مع الله بلا غفلة، ومع الناس بلا قسوة.
هو أن ترى في كل مخلوقٍ أثر الخالق، وفي كل نعمةٍ وجه المنعم.
فمن ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ومن اغترف أنصف، ومن أنصف أنصفه الله.