خطبة بعنوان ( العلم نور الحياة وسبب رفعتها ) لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف

خطبة بعنوان ( العلم نور الحياة وسبب رفعتها )
لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف

لتحميل الخطبة pdf اضغط على الرابط  أدناه
magales alelm kohef

الحمد لله أحاط بعلمه جميع الكائنات، وحوى سلطانه الأرض والسماوات، يحيي القلوب بنور العلم كما يحي الأرض بالمطر بعد الموات..

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم الخفيات ، وبارئ البريات ، المطلع على السرائر والنيات ..

وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه
وبعد: فقد اهتم دين الإسلام بالعلم اهتماما كبيرا ، وأولاه عناية عظمى لم يهتم بها دين سابق ، وأكد على أن العلم نور للقلب والعقل والحياة بأسرها ، وفي الآخرة يكون تمام النور والفرحة والسرور ، خاصة إذا أضيف إلى نور العلم نور الإيمان والعمل الصالح..

وقد نقل عن الإمام الشافعي نصيحة معلمه وكيع بن الجراح الإمام والفقيه والمحدث العراقي قوله :
شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي
فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ
وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي ..

إن طلب العلم والتفقه في الدين من أسباب صلاح القلوب ؛ وذلك لأن العلم يعصم صاحبه بعد توفيق الله من الزيغ والانحراف ، كما أن العلم يضيء في قلب صاحبه وينير طريقه وبصيرته، ويحميه من العمى، قال -تعالى-: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج: 46]..

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “وأما العلماء بالله وأمره فهم حياة الوجود وروحه، لا يستغنى عنهم طرفة عين.. فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات. فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، وكنسبة سمع الأذن وكنسبة كلام اللسان إليه، فإذا عدمه كان كالعين العمياء، والأذن الصماء، واللسان الأخرس؛ ولهذا يصف الله أهل الجهل بالعمي والصم والبكم، وذلك صفة قلوبهم حيث فقدت العلم النافع فبقيت على عماها وصممها وبكمها (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الإسراء: 72] والمراد عمى القلب في الدنيا”..

ومن هنا فالعلم بالدين بصفة خاصة سبب لحياة العقول والقلوب وصلاحهما ؛ لأنه علم مرتبط بالله وأسمائه وصفاته، وبالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبمنهجه وسيرته، وأحكام الدين وتشريعاته، وبالعلماء والمحدثين والدعاة والوعاظ، قال لقمان لأبنه: “يا بنيّ! جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإنّ الله يحي القلوب الميتة بالحكمة كما يحي الأرض الميتة بمطر السّماء”.

العنصر الأول : دعوة الإسلام إلى إنارة القلب والعقل بنور العلم ..
لقد دعا الاسلام إلى إنارة القلب والعقل بنور العلم ، كما رغب في طلب العلم، وحث علي الاجتهاد والتفوق العلمي، ولا أدل علي ذلك من أن أول قضية تناولها القرآن الكريم هي قضية العلم، وأول أمر سماوي نزل به الوحي هو الأمر بالقراءة التي هي مفتاح العلم ، وأهم أدواته ..
قال تعالى:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ كما سميت سورة كاملة في القرآن الكريم باسم “القلم”،
فأقسم الله تعالى بالقلم وهو من أدوات العلم ، والسطور والكتاب ، والصحف ، وذلك لبيانِ فضلِهِ وعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وبدأها الحق بقوله : ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم:1]..
وأهل العلم هم أهل البصائر أنار الله بصيرتهم فهم يرون ما لا يراه الناس..
قال تعالى ﴿ قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ يوسف /١٠٨..
قل هذه سبيلي ابتداء وخبر : أي قل يا محمد هذه طريقي وسنتي ومنهاجي ; قاله ابن زيد . وقال الربيع : دعوتي ، مقاتل : ديني ، والمعنى واحد : أي الذي أنا عليه وأدعو إليه يؤدي إلى الجنة .
” على بصيرة ” أي على يقين وحق : ومنه : فلان مستبصر بهذا . ” أنا ” توكيد . ” ومن اتبعني ” عطف على المضمر .

وسبحان الله أي قل يا محمد : وسبحان الله .

وما أنا من المشركين الذين يتخذون من دون الله أندادا(تفسير القرطبي) ..

فالبصيرة تعني : الحق واليقين المؤسسان على نور العلم الذي يضيء القلب وينير العقل على منهاج الله ورسوله ﷺ..

وقد قال أهل العلم في زمان قارون: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80].

وأهل العلم أيضا هم أهل الخشية من الله تعالى قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ (فاطر: 28)، وهم كذلك أهل الشهادة مع مولاهم والملائكة الكرام، قال الله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران:18].
ومن فضائلِ العلمِ وبركاتِهِ أنه لا مقارنة بين أهل العلم وفاقديه ..
قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]،

وأخبرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ اللهَ إذَا أرادَ بعبدٍ خيراً رزقَهُ العلم النَّافعَ، في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قالَ النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وإنما أنَا قاسِمٌ واللهُ يُعْطِي، ولن تزالَ هذه الأمةُ قائمةً على أمرِ اللهِ لا يَضُرُّهم مَن خالفهم، حتى يأتيَ أمرُ اللهِ” (صحيح البخاري )..

قال الإمام أبو حامد الغزالي (رحمه الله): عن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:

“إنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَمَى ، وَنُورُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ ، وَقُوَّةُ الأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ ، يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ مَنَازِلَ الأَبْرَارِ ، وَمَجَالِسَ الْمُلُوكِ ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَالْفِكْرَةُ فِيهِ تُعْدَلُ بِالصِّيَامِ ، وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ ، وَبِهِ يُطَاعُ وَيُعْبَدُ ، ويوحد ويمجد ، وَبِهِ يُعْمَلُ وَيُحْفَدُ ، وَبِهِ يُتَوَرَّعُ وَيُؤْجَرُ ، وَبِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ ، وَيُعْرَفُ الْحَلالُ مِنَ الْحَرَامِ ، العلم إِمَامُ الْعَمَلِ ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ ، وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ ” . إحياء علوم الدين .
العِلْمُ يَجْلُو الْعَمَى عَنْ قَلْبِ صَاحِبِهِ * كَمَا يُجلِّي سوادَ الظُّلْمَةِ القَمَرُ
فَلولا العِلْمُ ما سَعِدَتْ نُفُوسٌ * ولا عُرِفَ الحَلالُ ولا الحَرامُ..

ويكفي العلم شرفـًا أن الله عزّ وجل لم يؤمر نبيه ﷺ بطلب الاستزادة من شيءٍ سِوى العلم، فقد قال -عزّ من قائل-: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ طه /١١٤.

علي أننا نؤكد أن التفوق العلمي الذي رغب فيه الإسلام ليس مقتصرًا على التفوق في ميدان العلم الشرعي فحسب، وإنما يشمل كل علم ينتفع الناس في شئون دينهم، وشئون دنياهم؛ ولذلك فقد جاء قول الله تعالى : ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ في معرض الحديث عن العلوم التجريبية التي تخدم الأغراض الدنيوية ، كالعلوم الكونية، والإنسانية ، والكيميائية ، والبيولوجية ، والجلوجية، والفسيولجية ، والسكيولجية .. ؛ حيث يقول سبحانه ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾.

منذ اليوم الأول لوجود الإنسان وعلى مرّ الأزمان، تفرع العلم وتشعب وانقسم وتعدد، إلا أنه يمكن إدراج العلم تحت قسمين رئيسين هما: علم الشريعة والدين، وعلم الطبيعة والتجريب، وتجاذَب هذين العلمين البشرُ على مر العصور، فيأخذون من هذا ويأخذون من ذاك، ويشتغلون بهما أو بأحدهما، وفي العصور الماضيات كانت علوم الشرائع والأديان هي المقدمات لدى الأمم، وأهلها من الأحبار والعلماء هم خواص الملوك وجلساؤهم، وهم أهل الرأي والمشورة فيهم، وبقدر قرب الولاة والعلماء يكون قرب الأمة من شريعتها، وبقدر تباعدهم يكون بعد الأمة عن شريعتها، وقد تجلّى هذا التقارب والتمازج في القرون الأولى من عمر أمة الإسلام، فهديت ورشدت وتبعت تلك النهضة الدينية نهضة دنيوية، تطورت على إثر ذلك علوم تجريبية كثيرة، ويكاد يكون هذا الأمر مضطردًا؛ إذ كل نهضة دينية راشدة في تاريخ الإسلام تعقبها نهضة دنيوية..

وطريق طلاب العلم هو طريق الجنة ونعيمها في الدنيا والآخرة ، ومع ذلك فإن مجالس العلم مظان السكينة والرحمة ونزول الملائكه ..
قال ﷺ: ” مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طريقًا إلى الجنَّةِ، وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ، يَتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويَتدارسونَهُ بينَهُم، إلَّا حفَّتهمُ الملائِكَةُ، ونزَلت عليهمُ السَّكينةُ، وغشيتهمُ الرَّحمةُ، وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فيمن عندَهُ، ومن أبطأَ بِهِ عملُهُ لم يُسرِعْ بِهِ نسبُهُ ” (أخرجه ابن ماجه بسندٍ صحيحٍ)..
وأي دواء أصلح وأنجع للقلوب والعقول من التعلق بالآخرة وبجنة الله ورضوانه، فتستقيم في هذه الحياة، وطالب العلم إذا سلك طريق العلم فإن الله يسهل له به طريقا إلى الجنة؛ وذلك أن طريق الجنة يكون بصحة الاعتقاد والعمل، وصحة الاعتقاد لا تكون إلا بعلم، وصحة العمل لا تكون إلا بعلم..

العنصر الثاني : تقدير الإسلام لأهل العلم والعلماء..
إن للعلماء في الإسلام مكانة عليا ، ومنزلة سميا، والعلماء شامة في جبين الدهر ، ودرة على وجه التاريخ ..

قال تعالى:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾المجادلة /١١. والعلماء في الإسلام كمثل المصابيح التي يُهتدى بها في ظلام الدجى، ومثل الناس في هذه الدنيا ومثل العالم الذي يبيِّن للناس طريق الله -تعالى- وطريق النجاة، كمثل أناس كانوا يسيرون في ليلة شديدة الظلام في وادٍ فيه سباع وهوام، فلا يدري الواحد منهم من أين يؤتى؟ ثم جاءهم من يحمل مصباحًا أضاء لهم الطريق فاتبعوه حتى أخرجهم من هذا الوادي.(ملتقى الخطباء).
ويقول النبي ﷺ: “الدُّنيا مَلعونةٌ، مَلعونٌ ما فيها ؛ إلَّا ذِكْرُ اللهِ و ما والاهُ، و عالِمًا و مُتعلِّمًا” (أخرجه المنذري بصيغة التصحيح)..

وقد بين نبينا ﷺ أن أهل العلم هو ميراث الأنبياء في إرشاد الناس، وهدايتهم، والأخذ بناصيتهم إلى طريق الحق والنور، والتقدم والرقي،
وَالْمَالُ مِيرَاثُ الْمُلُوكِ وَالأَغْنِيَاءِ..
قال ﷺ : (إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ) ..

وعن صفوان بن عسالٍ رضي الله تعالى عنه قال: ” أتيتُ النبيَّ و هو في المسجدِ مُتَّكيءٌ على بُرْدٍ له أحمرَ، فقلتُ له: يا رسولَ اللهِ ! إني جئتُ أَطلبُ العلمَ، فقال: مرحبًا بطالبِ العلمِ، إنَّ طالبَ العلمِ تحفُّه الملائكةُ وتُظلُّه بأجنحَتِها، ثم يركبُ بعضُهم بعضًا حتى يبلغوا السماءَ الدُّنيا”.(أخرجه المنذري بصيغة التصحيح).

وَعَنْ عَلَيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: “كَفَى بِالْعِلْمِ شَرَفًا أَنْ يَدَّعِيَهِ مَنْ لا يُحْسِنُهُ، وَيَفْرَحُ إِذَا نُسِبَ إِلَيْه، وَكَفَى بِالْجَهْلِ ذَمًّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَنْ هُوَ فِيهِ”.
وعنه رضي الله تعالى عنه قال :
ما الفضل إلا لأهل العلم أنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وضد كل امرئ ما كان يجهله
والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
ففز بعلمٍ تعش حيَّاً به أبداً
الناس موتى وأهل العلم أحياءُ

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: “يوزن مداد العلماء بدم الشهداء يوم القيامة، فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء”.
وعن الدرداء رضي الله عنه قال:”كن عالماً أو متعلماً، ولا تكن الثالثة فتهلك”..

إخوة الإسلام بالعلماء صلاح الدنيا؛ لأنه لا انفصال بين الدين والدنيا.. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- : «الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس».

وعنه رضي الله عنه قال: “لا شَيْءَ يَعْدِلُ الْعِلْمَ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَصِحُّ نِيَّتُهُ؟! قَالَ: أَنْ يَنْوِيَ بِهِ رَفْعَ الْجَهْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَرَفْعَ الْجَهْلِ عَنْ غَيْرِه”..
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ” لَمَوْتُ أَلْفِ عَابِدٍ قَائِمٍ اللَّيْلَ صَائِمٍ النَّهَارَ أَهْوَنُ مِنْ مَوْتِ الْعَاقِلِ الْبَصِيرِ بِحَلالِ اللَّهِ وَحَرَامِهِ”

وقال كميل بن زيادٍ:« أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالكوفة ..
وقال يا كميل إن هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها للعلم احفظ عني ما أقول ، الناسُ أصناف ثلاثةٌ: عالمٌ رَبَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ نجاةٍ، وهمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ
يا كميل العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، المال ينقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق .. العلم حاكم والمال محكوم عليه ،
بيا كميل مات خزان المال والعلماء أحياء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة »(تاريخ دمشق لابن عساكر)..
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ” خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها “.

والأرض تحيا إذا مـا عاش عالمهـا * متى يمت عالم منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها * وإن أبى عاد في أكنافها التلف ..

لقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يجوبون الأرض شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا لطلب العلم ، ويضحون في سبيل ذلك بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ..
أورد الإمام الذهبي عن هشام بن عمار قال : “باع أبي بيتا له بعشرين دينارا، وجهزني للحج. فلما صرت إلى المدينة، أتيت مجلس مالك، ومعي مسائل أريد أن أسأله عنها. فأتيته، وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمان قيام، والناس يسألونه، وهو يجيبهم. فلما انقضى المجلس، قال لي بعض أصحاب الحديث: سل عن ما معك؟ فقلت له: يا أبا عبد الله، ما تقول في كذا وكذا؟ فقال: حصلنا على الصبيان، يا غلام احمله. فحملني كما يحمل الصبي وأنا يومئذ غلام مدرك فضربني بدرة مثل درة المعلمين ..

وعن صالح بن محمد الحافظ: سمعت هشام بن عمار، يقول: دخلت على مالك، فقلت له: حدثني، فقال: اقرأ، فقلت: لا. بل حدثني، فقال: اقرأ، فلما أكثرت عليه، قال: يا غلام، تعال اذهب بهذا، فاضربه خمسة عشر، فذهب بي فضربني خمس عشرة درة، ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته، فقلت له: لم ظلمتني؟ ضربتني خمس عشرة درة بغير ذنب ولا جرم، لا أجعلك في حل، فقال مالك: فما كفارته؟ قلت: كفارته أن تحدثني بخمسة عشر حديثا قال: فحدثني بخمسة عشر حديثا. فقلت له: زد من الضرب، وزد في الحديث، فضحك مالك رضي الله عنه” ( سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي)..

العنصر الثالث : ضرورة العلم لتقدم الأمم وعمران الحياة .

لا شك أن العلم أهم سبيل لتقدم الأمم ورفعتها ونهضتها، فبالعلم تبنى الأمم، وتستصلح الأراضي، وتعمر الحياة ، وتعظم السلالات، وتدار التجارات، وتطور الصناعات، وتعالج الآفات، وتستخرج المعادن، والأمة العظيمة هي التي تبهر العالم بما تنتجه من علم ومعرفة، وما تتقنه من زراعة، وصناعة، وتجارة، وثقافة، وما تخرجه من الأطباء البارعين والمهندسين المتقنين، والصناع الحرفيين الماهرين .

فمنذ اليوم الأول لوجود الإنسان وعلى مرّ الأزمان، تفرع العلم وتشعب وانقسم وتعدد، إلا أنه يمكن إدراج العلم تحت قسمين رئيسين هما: علم الشريعة والدين، وعلم الطبيعة والتجريب، وتجاذَب هذين العلمين البشرُ على مر العصور، فيأخذون من هذا ويأخذون من ذاك، ويشتغلون بهما أو بأحدهما، وفي العصور الماضيات كانت علوم الشرائع والأديان هي المقدمات لدى الأمم، وأهلها من الأحبار والعلماء هم خواص الملوك وجلساؤهم، وهم أهل الرأي والمشورة فيهم، وبقدر قرب الولاة والعلماء يكون قرب الأمة من شريعتها، وبقدر تباعدهم يكون بعد الأمة عن شريعتها، وقد تجلّى هذا التقارب والتمازج في القرون الأولى من عمر أمة الإسلام، فهديت ورشدت وتبعت تلك النهضة الدينية نهضة دنيوية، تطورت على إثر ذلك علوم تجريبية كثيرة، ويكاد يكون هذا الأمر مضطردًا؛ إذ كل نهضة دينية راشدة في تاريخ الإسلام تعقبها نهضة دنيوية.

لقد صاح المنصفون من جهة الغرب: قدمنا لكم الصناعات والمخترعات، فقدموا ما لديكم من نور الإيمان، حيث شقوا بهذه الحضارة، ثم أصبح العالم وقد انهارت نظم الرأس المالية وقبلها الشيوعية، فصاح المنصفون مرة أخرى بأهل الإسلام: قدموا ما لديكم من نظم تستمد نورها من السماء، فهل يقدر على ذلك غير العلماء المؤصلين، وهل تقوى أمة الإسلام على تقديم مشروع اقتصادي إسلامي عالمي إلا إذا كان لها مراكز البحث العلمي المتخصص، والجامعات العريقة المتخصصة، والباحثون المتخصصون في كل المجالات النافعة في الحياة..

إن كل ميدان من ميادين الحياة له ارتباط وثيق بالدين، ولا انفصال بين الدين والحياة، وإننا في حياتنا نحتاج إلى التاجر والمزارع والطبيب والمهندس والمدير والحاكم، وكل هؤلاء يحتاجون إلى العلم والعلماء، وإن الناس إذا استغنوا عن العلماء ورثة الأنبياء أو خرجوا عن طاعتهم، لم يفسد دينهم فحسب، بل يفسد دينهم ودنياهم على حد سواء..


العنصر الرابع : النمور الآسيوية نموذج يحتذى..
قصة واحدة من أكبر التجارب الاقتصادية الناجحة في التاريخ..
لقد قامت دولٌ من عثرتها على أعمدة العلم والتخطيط، ورصد الميزانيات الكبيرة لنهضة التعليم ؛ فكان لها الشأن الأكبر بين دول العالم، ومن هذه النماذج المبهجة اقتصاديا وعلميا ما يطلق عليه النمور الآسيوية الأربعة’ مصطلح اقتصادي أطلق على اقتصادات كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ.. شهدت اقتصادات تلك الدول في الفترة ما بين أوائل الستينيات والتسعينيات، قفزة اقتصادية وعمليات تصنيع سريعة وحققت معدلات نمو عالية بشكل استثنائي تجاوزت 7% سنويا.

مع حلول أوائل القرن الحادي والعشرين، خرجت تلك الاقتصادات من حيز الدول النامية إلى الدول المتقدمة ذات الاقتصادات عالية الدخل، وتخصصوا في مجالات تنافسية. فأصبحت هونغ كونغ وسنغافورة من المراكز المالية الرائدة في العالم، في حين أصبحت كوريا الجنوبية وتايوان من رواد تصنيع المكونات والأجهزة الإلكترونية. لذلك تعد تجربتهم الاقتصادية الناجحة بمثابة نماذج يحتذى بها للعديد من دول أشبال النمور، وهم إندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند.

وتعتبر هذه البلاد من بين البلدان الأكثر ربحية والأكثر إنتاجية في العالم…
ولاحقاً بدأت هذه البلدان بتصدير كل شيء تقريباً، بما في ذلك المنسوجات ولعب الأطفال، والمنتجات البلاستيكية، والتكنولوجيا الشخصية.
واليوم أصبحت الدولتان الصغيرتان جداً من حيث المساحة اثنين من المراكز المالية الأكثر نفوذاً في العالم..(ويكيبيديا).

بينما هناك دولٌ كاملة ولديها وفرةٌ متكاثرةٌ في المال ، ولكنها فقدت بريقها العالمي ؛ بسبب الإهمال للتعليم والانجراف نحو مجالاتٍ أخرى..
ما أحوجنا إلي أن نأخذ بأسباب التفوق العلمي في مختلف المجالات؛ فإننا إذا تفوقنا في أمور دنيانا احترم الناس ديننا ودنيانا، وعلى كل منا أن يسعي لأعلي درجات التفوق في مجاله عالمـًا، أو باحثـًا، أو صانعـًا، أو حرفيـًا، حتي يسهم في تقدم وطنه ورقيه، وعلى طلاب العلم أن ينفروا فيما ينفع البلاد والعباد، فتنفر فرقة لدراسة الطب، وأخرى لدراسة الهندسة أو العلوم ، وثالثة للعمل بالزراعة، ورابعة للعمل في الصناعة، وخامسة للاشتغال بالتجارة، وهكذا في سائر الفنون والحرف والصناعات..

وختاماً:
إن حاجة الناس إلى العلماء وإلى علم الشريعة كحاجة الظمآن إلى الماء، والغريق إلى الهواء، خاصة في زمن اضطراب الأهواء، فما أحوجنا إلي أن نأخذ بأسباب التفوق العلمي في مختلف المجالات؛ فإننا إذا تفوقنا في أمور دنيانا احترم الناس ديننا ودنيانا، وعلى كل منا أن يسعي لأعلي درجات التفوق في مجاله عالمـًا، أو باحثـًا، أو صانعـًا، أو حرفيـًا، حتي يسهم في تقدم وطنه ورقيه، حيث يقول الحق سبحانه وتعالي ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، فإذا كان المطلوب هو أن تنفر طائفة من كل فرقة ليتفقهوا في علوم الدين، فإن علي الباقين أن ينفروا فيما ينفع البلاد والعباد، فتنفر فرقة لطلب الطب، وأخري لطلب الهندسة، وثالثة للعمل بالزراعة، ورابعة للعمل في الصناعة، وخامسة للاشتغال بالتجارة، وهكذا في سائر الفنون والحرف والصناعات..

بهذا الفهم تقدم المسلمون الأوائل في شتى العلوم والمعارف النافعة للناس، وظلت الحضارة الإسلامية سيدة الحضارات أكثر من ألف عام عشرة قرون من الزمان ، فأسسوا أول مدرسة لتعليم للطب في بلاد الأندلس ، وأسسوا أول مرصد فلكي في أشبيلية، وأول من صنعوا ساعة لمقياس الزمن ..

ولمع في سماء العلم أسماء عمالقة عظام أمثال ابن سينا ، والفاربي وجابر بن حيان ،والرازي، وغيرهم ..

وتفوقوا في علوم الطب ، والرياضيات ، والهندسة ، والجبر ، والفيزياء ، والكيمياء ، وأسس الأوروبيون نهضتهم الحديثة على أساس من هذه العلوم ..
مما جعل علماء الغرب المنصفين يعترف بهذا الفضل ، فيقولُ: ليوبولد وايس: لسنَا نبالغُ إذ قلنَا إنّ العصرَ العلميَّ الحديثَ الذي نعيشُ فيهِ، لم يُدشّنْ في مدنِ أوربة، ولكن في المراكزِ الإسلاميةِ في دمشقٍ وبغدادٍ والقاهرةِ وقرطبة، نحن مدينونَ للمسلمينَ بكلِّ محامدِ حضارتِنَا في العلمِ والفنِّ والصناعةِ، وحسبِ المسلمينَ أنّهُم كانُوا مثالًا للكمالِ البشرِي، بينمَا كنَّا مثالًا للهمجيةِ.

هذا قليلٌ مِن كثيرٍ مِن نماذجِ العلماءِ الباحثينَ الإسلاميينَ، وكذلك شهاداتِ الغربيينَ المنصفةِ في هذا الشأنِ.(موسوعة الحضارة الإسلامية)..

اللهم حبب إلينا إلايمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، واللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما نَافِعًا، وَعَمَلًا صَالِحًا، اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَنَا لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَأَعِنَّا عَلَيْهِ.. وانصر المستضعفين في كل مكان واحقن دماء المسلمين واحفظنا واحفظ مصرنا وسائر بلاد المسلمين ..

اترك تعليقاً