خطبة الجمعةبعنوان ( لله درك يا ابن عباس ) للشيخ ياسر عبدالبديع

خطبة الجمعةبعنوان ( لله درك يا ابن عباس )
للشيخ : ياسر عبدالبديع

بتاريخ / 16 من محرم 1447 هجرية
11 من يوليو 2025 م

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

لله درك يا ابن عباس
العُنْصُرُ الْأَوَّل : عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مِنْ هُوَ ؟

عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، (3 ق ةـ / 618م – 68 ةـ / 687م) صَحَابِيٌّ  جَلِيلٌ وَمُحَدِّثٍ وَفَقِيهٍ وَحَافِظ وَمُفَسِّر، وَهُوَ ابْنُ عَمٍّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَاحِدٌ الْمُكْثِرُون لِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ، حَيْثُ رَوَى 1660 حَدِيثًا عَنْ الرَّسُولِ، وَلَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ 75 حَدِيثًا مُتَّفَقًا عَلَيْهَا.

هُوَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بْنِ قُصَيٍّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ بْنِ لُؤَيٍّ بْنُ غَالِبٍ، بْنِ فِهْرٍ بْنِ مَالِكٍ بْنِ النَّضْرِ وَهُوَ قُرَيْشٌ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ. أَبُوه الْعَبَّاسِ هُوَ عَمُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَلْتَقِيَ فِي نَسَبِهِ مَعَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ فِي عَبْدٍ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِم.

أُمُّهُ: أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ الْمَعْرُوفَةِ بِاسْمِ لُبَابَةُ الْكُبْرَى الْهِلَالِيَّة بْنُ حَزْنٍ بْن الْبُجَيْر بْنِ الْهَزْمِ بْنِ رُوَيْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ بْنِ عَامِرٍ بْنُ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ بْنُ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورٍ بْنُ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسٍ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ، وَهِيَ أُخْتُ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجَة الرَّسُول مُحَمَّد.

كُنْيَتُهُ: أَبُو الْعَبَّاسِ. أُخُوَّتُهُ: لَهُ تِسْعَةٌ أَخُوهُ مِنْ أَبِيهِ حَسَب أَغْلَب الْمَصَادِر، وَهُمْ: الْفَضْل، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَمَعْبَدٍ، وَقُثَمٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَكَثِيرٍ، وَالْحَارِث، وَعَوْن وَتَمَام. وَأَصْغَرُهُمْ تَمَام، وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ الْأَكْبَرُ مِنْ تَمَامِ مُبَاشَرَة. فَكَانَ الْعَبَّاسُ يَقُولَ:

وَلَهُ مِنْ الْأَخَوَاتِ ثَلاَثَةٌ، هُنَّ: صَفِيَّة، أُمَيْمَةُ، أُمَّ كُلْثُومٍ، وَيُقَالُ لَهَا أُمُّ حَبِيب.

بَعْدَمَا هَاجَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَزِمَ النَّبِيَّ مُحَمَّدٌ، وَأَخَذَ عَنْهُ، وَكَانَتْ صُحْبَتِهِ لِلنَّبِيِّ حَوَالَيْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا. وَكَانَ لِقَرَابَتِه لِلنَّبِيّ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ، فَكَانَتْ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَدْخُلُ بَيْتَ النَّبِيِّ، وَيَبِيتَ فِي حِجْرِهِ خَالَتِه أَيَّامًا، وَيَقُوم بِخِدْمَة النَّبِيِّ. وَكَانَ يَصِف لِلصَّحَابَة كُلُّ مَا يَرَاهُ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ وَأَقْوَالِه، وَذَات مَرَّةً كَانَ النَّبِيُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ فَوَضَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُ وَضُوءًا مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ: “وَضَعَ لَكَ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ” فَقَالَ النَّبِيُّ: “اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدَّيْنِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ”. وَضَمِّه النَّبِيُّ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: “اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابِ”.

وَمِنْ فَضْلِهِ وَمَنْزِلَتِه

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اخَرَ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَجَرَّنِي فَجَعَلَنِي حِذَاءَهُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَلَاتِهِ خَنَسْتُ ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِي: ((مَا شَأْنِي أَجْعَلُكَ حِذَائِي فَتَخْنِسُ؟ )) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ حِذَاءَكَ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ؟! قَالَ: فَأَعْجَبَتْهُ، فَدَعَا اللَّهَ لِي أَنْ يَزِيدَنِي عِلْمًا وَفَهْمًا، قَالَ: ثُمَّ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُهُ يَنْفُخُ، ثُمَّ أَتَاهُ بِلَالٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصَّلَاةُ، فَقَامَ فَصَلَّى مَا أَعَادَ وُضُوءًا)) .

تَقْدِيمُ عُمَرَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ وُجِدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لَمْ تَدْخُلْ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟! فَقَالَ عُمَرُ: أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ، فَدَعَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَدْخَلَه مَعَهُمْ، فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاك تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْت: هُوَ أَجَلُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ -وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِك- فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ، إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَقُول) .

ثَنَاء ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى عَبْدٍ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (نَعَمْ تُرْجُمَانُ الْقُرْانِ ابْنُ عَبَّاسٍ!) .
وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: (لَوْ أَدْرَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْنَانَنَا مَا عَاشَرَهُ مِنَّا رَجُلٍ) .
أَيْ: مَا كَانَ أَحَدُ مِنَّا يَصِلُ إلَى مَرْتَبَتِهِ، بَلْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَمْ يَبْلُغْ قَدْرِه أَحَدٌ مِنَّا

العُنْصُرُ الثَّانِي : حِرْصِهِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ كَثِيرٌ.

فَقَالَ: وَاعَجَبًا لَكَ يـ ابْنِ عَبَّاسٍ! أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إلَيْك وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِيهِمْ؟! قَالَ: فَتَرَكْتُ ذَاكَ.

يَعْنِى: لَمْ يَفُتْ فِي عَزْمِهِ وَلَمْ يُبَالِ بِتَثْبِيطِه، فَانْصَرَفَ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، يَقُولُ: فَتَرَكْتُ ذَاكَ، وَأَقْبَلْتُ أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنْ الرَّجُلِ فَاتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ -يَعْنِي: فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَيُكْرَهُ أَنْ يُوقِظَهُ مِنْ الْقَيْلُولَة- فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، فَتَسْف الرِّيحُ عَلَى مَنْ التُّرَابِ، فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمٍّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! مَا جَاءَ بِكَ؟! هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَاتِيَكَ؟! فَأَقُولُ: لَا؛ أَنَا أَحَقُّ أَنْ اتِيك.

فَاسْأَلْهُ عَنْ الْحَدِيث.

فَعَاشَ هَذَا الرَّجُلِ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَانِي وَقَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلِي يَسْأَلُونَنِي، فَيَقُولُ: هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي.

وَلَمَّا فُتِحَتْ الْبِلَادُ أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَجْلِ الْعِلْم ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ فِي دُرُوبِ الْمَدِينَة وَمَسَالِكِهَا عَلَى الظِّلَال الْوَارِفَة فِي بَسَاتِينَ الشَّام وَسَوَادِ الْعِرَاقِ وَشَطْان النَّيْلُ وَدِجْلَة وَالْفُرَاتُ.

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا فُتِحَتْ الْمَدَائِن أَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَقْبَلْتُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

يَعْنِي: كَيْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَيَسْتَفِيدُ مِنْ صُحْبَتِه.

يَقُولُ الشَّاعِرُ: لِكُلِّ بَنِي الدُّنْيَا مُرَادٌ وَمَقْصَدٌ وَإِنَّ مُرَادِي صِحَّةٌ وَفَرَاغُ لِأَبْلُغَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ مَبْلَغًا يَكُونُ بِهِ لِي لِلْجَنان بَلَاغُ وَفِي مِثْلِ هَذَا فَلْيُنَافِسْ أُولُو النُّهَى وَحَسْبِي مِنْ الدُّنْيَا الْغَرُورِ بَلَاغُ فَمَا الْفَوْزُ إلَّا فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ بِهِ الْعَيْشُ رَغْدٌ وَالشَّرَابُ يُسَاغُ وَيَقُولُ -أَيْضًا- ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ دَابَّةٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ: كُنْتُ اتِي بَابَ أَبِي بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَأَقْبَلَ عَلَى بَابِهِ، وَلَوْ عَلِمَ بِمَكَانِي لَأُحِبُّ أَنْ يُوقِظَ لِي لِمَكَانِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَمَلُه.

وَقَالَ -أَيْضًا- ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: كُنْت أَلْزَمُ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَأَسْأَلَهُمْ عَنْ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَزَلَ فِي الْقُرْانِ فِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ لَا اتِي أَحَدًا إلَّا سِرٌّ بِإِتْيَانِي لِقُرْبَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلْتُ أَسْأَل أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَوْمًا -وَكَانَ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ- عَمَّا نَزَلَ مِنْ الْقُرْانِ فِي الْمَدِينَةِ فَقَالَ: نَزَلَ بِهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَة، وَسَائِرُهَا بِمَكَّة.

مِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنْ شَخْصِيَّة كَهَذِه تَوَفُّر لَهَا مِنْ الْمُقَوَّمَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَكُون شَخْصِيَّة عِلْمِيَّة بِكُلّ الْمَقَايِيس، وَيُقَالُ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَبْرُ الْأُمَّةِ بِحَقٍّ وَأَنَّهُ بَحْر

مَكَانَتَهُ فِي الْفِقْهِ

كَانَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فَقِيهًا، بَلْ كَانَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، الَّذِينَ انْتَهَتْ إلَيْهِمْ الْفُتْيَا، بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَدْ جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ، بْنُ مُوسَى، بْنُ يَعْقُوبَ، ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُونِ، فُتْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي عِشْرِينَ كِتَابًا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَرْجِع الصَّحَابَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أُمُورِ الْفِقْه: وَقَالَتْ فِيهِ عَائِشَةُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَشَهِدَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ. قَالَ فِيهِ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَنَا بِمَا مَضَى، وَأَفْقَهُنَا فِيمَا نَزَلَ مِمَّا لَمْ يَأْتِ فِيهِ شَيْء

مَكَانَتَهُ فِي التَّفْسِيرِ:

كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَبْلُغْهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، حَتَّى لَقَّبَ بِتَرْجُمَان الْقُرْانُ، وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ مَعْرِفَتِه بِاللُّغَة، وَعِلْمِه الْجَمّ بِهَا، ثُمَّ مَا فُتِحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ: قَالَ: قُلْتُ لِعَلِىٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْوَحْيِ إلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْانِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَإِلَّا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.

وَقَدْ سَلَكَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّفْسِيرِ مَنْهَجًا سَلِيمًا، فَهُوَ حِينَ يُسْتَعْمَل الْعَقْل يَسْتَعْمِلُه مُسْتَعِينًا بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَهْدَافَهَا، وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْانُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يُكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ يَسْأَلُهُمْ وَكَانَ يَقُولُ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُم أَحْدَث تَقْرَؤُونَه مَحْضًا لَمْ يَنْشَبْ.

مَنْزِلَتَهُ فِي الْحَدِيثِ:

كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ الْبَارِزَيْن عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ الْحَدِيثِ عَنْ الرَّسُولِ، كَمَا كَانَ لَا يُقْبَلُ حَدِيثًا إلَّا بَعْدَ تَثَبُّتِ، وَكَان يَنْهَج فِي هَذَا النَّهْجِ نَهْج عُمَر، وَرَغْم كَرَاهِيَتِه لِلْإِكْثَار مِنْ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ لِلْحَدِيثِ، مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ، وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.

وَقَدْ بَلَغَ مَجْمُوعُ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: 1660 حَدِيثًا، اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى خَمْسَةٍ وَتِسْعِينَ حَدِيثًا، وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا، وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِتِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، وَفِي الرِّيَاضِ المُسْتَطَابَة لِيَحْيَى بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْعَامِرِىّ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَكْثَرَ فَأَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا وَاتَّفَقَا، عَلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ ‏ وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ، بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ، وَمُسْلِم بِتِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَخَرَجَ عَنْهُ أَصْحَابُ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ كُلُّهُمْ

وَمَنْ عَلَّمَهُ نَاظِر الْخَوَارِج

وَهَذَا نَصٌّ الْأَثَرُ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ الْحَرُورِيَّةُ اجْتَمَعُوا فِي دَارِ عَلَى حِدَتِهِمْ وَهُمْ سِتَّةُ الَافٍ وَأَجْمَعُوا أَنَّ يَخْرُجُوا عَلَى عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ، قَالَ: جَعَلَ يَأْتِيهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ الْقَوْمُ خَارِجُونَ عَلَيْكَ”، قَالَ: “دَعْهُمْ حَتَّى يَخْرُجُوا فَإِنِّي لَا أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونِي وَسَوْفَ يَفْعَلُون”. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ قُلْت لِعَلِيٍّ: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَبْرِدْ عَنْ الصَّلَاةِ فَلَا تَفْتِنِّي حَتَّى أَتَى الْقَوْمَ فَأُكَلِّمُهُمْ”، قَالَ: “إِنِّي أَتَخَوَّفُهُمْ عَلَيْكَ”. قُلْتُ: “كَلَّا إِنَّ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكُنْت حُسْنُ الْخُلُقِ لَا أُؤْذِي أَحَدًا”. قَالَ: فَلُبِسَتْ أَحْسَنُ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْيَمَانِيَةِ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: “كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَمِيلًا جَهِيرًا”. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ قَائِلُونَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ أَرَ قَطُّ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا ثَفِن (ثَفِن: مُفْرَدُهَا (ثَفِنَة) بِكَسْرِ الْفَاءِ: وَهِيَ مَا وَلِيَ الْأَرْض مِنْ كُلِّ ذَاتِ أَرْبَعٍ إذَا بَرَكَتْ، كَالرُّكْبَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَيَحْصُلُ فِيهِ غِلَظٌ مِنْ اثَارِ الْبُرُوك، وَتُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى ثَفِنَات؛ النِّهَايَة الْإِبِل، وُجُوهِهِمْ مُعَلِّمِهِ مِنْ اثَارِ السُّجُودِ، عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ، وُجُوهِهِمْ مُسَهَّمَة مِنْ السَّهَرِ. قَالَ: فَدَخَلْتُ. فَقَالُوا: “مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! مَا جَاءَ بِكَ؟ وَمَا هَذِهِ الْحُلَّةَ”، قَالَ: قُلْتُ: “مَا تَعِيبُونَ عَلَىَّ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْحُلَلُ”، وَنَزَلَتْ {قَلَّ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الْأَعْرَافِ مِنْ الْايَةِ:32] قَالُوا: “فَمَا جَاءَ بِكَ؟” قَالَ: “جِئْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ عِنْد صِهْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ نُزُلٌ الْوَحْي، وَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِه، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ”، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: “لَا تَخَاصَمُوا قُرَيْشًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزُّخْرُفِ مِنْ الْايَةِ:58]،” وَقَالَ رَجُلَانِ أَوْ ثَلَاثَةً لَوْ كَلِمَتُهُمْ. قَالَ: قُلْتُ: “أَخْبِرُونِي مَا تَنْقِمُون عَلَى ابْنِ عَمٍّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنِهِ، وَأَوَّلِ مَنْ أمَنَ بِهِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ مَعَهُ؟” قَالُوا: “نَنْقِمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا”. قَالَ: “وَمَا هُنَّ؟” قَالُوا: “أَوَّلُهُنّ أَنَّهُ حَكَمَ الرِّجَالِ فِي دَيْنٍ اللَّهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {أَنَّ الْحُكْمَ إلَّا لِلَّهِ} [يُوسُفَ مِنْ الْايَةِ:40]، فَمَا شَأْنُ الرِّجَالِ وَالْحُكْمُ بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”. قَالَ: قُلْتُ: “وَمَاذَا؟” قَالُوا: “وَقَاتَل وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، لَئِنْ كَانُوا كُفَّارًا لَقَدْ حَلَّتْ لَهُ أَمْوَالَهُمْ وَلَئِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَقَدْ حُرِّمَتِ عَلَيْه دِمَاؤُهُمْ”. قَالَ: قُلْتُ: “وَمَاذَا؟” قَالُوا: “مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ”. قَالَ: قُلْتُ: “أَعِنْدَكُمْ سِوَى هَذَا؟” قَالُوا: “حَسْبُنَا هَذَا”.

قَالَ: “أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتَ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمُحْكَم، وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سَنَةٍ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا تُنْكِرُون (يَنْقُض قَوْلُكُمْ) أَتَرَجِعُون؟”، قَالُوا: “نَعَمْ”. قَالَ: قُلْتُ: “أَمَّا قَوْلُكُمْ: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دَيْنٍ اللَّهِ، فَإِنْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مَنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الْمَائِدَةِ مِنْ الْايَةِ:95]. وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: {وَأَنَّ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النِّسَاءَ مِنْ الْايَةِ:35]. أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ أَحْكُمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، وَفِي بُضْعِ امْرَأَةٍ. وَإِنْ تَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَحَكَمَ وَلَمْ يُصَيِّرْ ذَلِكَ إلَى الرِّجَالِ”. قَالُوا: “اللَّهُمَّ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ”. قَالَ: “أَخْرَجَتْ مِنْ هَذِهِ؟” قَالُوا: “اللَّهُمَّ نَعَمْ”. قَالَ: “وَأَمَّا قَوْلُكُمْ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ، أُمِّ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا، فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَخَرَجْتُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ، أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الْأَحْزَابِ مِنْ الْايَةِ:6]، فَأَنْتُمْ مُتَرَدِّدُون بَيْنَ ضَلاَلَتَيْنِ، فَاخْتَارُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ، أُخْرِجَتْ مِنْ هَذِهِ”؛ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ. قَالُوا: “اللَّهُمَّ نَعَمْ”. قَالَ: “وَأَمَّا قَوْلُكُمْ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا اَتِيكُمْ بِمَا تَرْضَوْن، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا فَكَاتَب سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبَا سُفْيَانَ. فَقَالَ: «اكْتُبْ يَا عَلِيُّ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»، فَقَالُوا: “وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاك عَنْ الْبَيْتِ، وَلَا قَاتَلْنَاك، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ”. فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَإِنَّ كَذَّبْتُمُونِى، اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ»، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَلَى رِضَى اللَّهِ عَنْهُ وَمَا أَخْرَجَهُ مِنْ النُّبُوَّةِ حِينَ مَحَا نَفْسَهُ. أُخْرِجَتْ مِنْ هَذِهِ”؛ قَالُوا: “اللَّهُمَّ نَعَمْ”. فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ الَاف فَقُتِلُوا عَلَى ضَلَالَة.

وَأَيْضًا سُؤَال سَيِّدِنَا عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنَّ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اللَّتَيْنِ قَالَ لَهُمَا ( أَنَّ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) حَتَّى خَرَجَتْ مَعَهُ فَنَزَلَ ذَاتَ يَوْمٍ فَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإِدَاوَةِ فَتَبَرَّزَ ، ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اللَّتَانِ قَالَ: ( إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) فَقَال : وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ هِيَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ

وَبِأَدبه وَعِلْمُهُ رَفَعَ اللَّهُ قَدَّرَهُ وَشَهِدَ لَهُ كِبَارٌ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ

وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: رَكِبَ زَيْدٌ بْنِ ثَابِتٍ، فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا ابْنَ عَمٍّ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا، فَقَبَّلَ زَيْدٌ بْنِ ثَابِتٍ يَدَهُ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتٍ نَبِيِّنَا!!

وَمَا مِنْ شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِ الصَّحَابَةِ إلَّا وَلَهُ شَهَادَةٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَاعْتِرَاف بِفَضْلِه، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ: أَنَّهُ لَغَوَّاص؛ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْانِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَمَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ: سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَقِيَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحَجِّ، وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَذَلِكَ، فَعَنْ عَطَاءً:

مَا رَأَيْت قَطُّ أَكْرَمَ مِنْ مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَكْثَرَ فِقْهًا وَأَعْظَمَ خَشْيَةَ، أَنْ أَصْحَابِ الْفِقْهِ عِنْدَهُ، وَأَصْحَاب الْقُرْانِ عِنْدَهُ، وَأَصْحَابُ الشِّعْرِ عَنْهُ، يَصُورهم كُلُّهُمْ مِنْ وَادٍ وَاسِعٍ.. وَعَنْ طَاوُوس قَالَ:

أَدْرَكْتُ خَمْسِينَ أَوْ سَبْعِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ إذَا سُئِلُوا عَنْ شَيْءٍ فَخَالَفُوا ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَقُومُونَ حَتَّى يَقُولُوا: هُوَ كَمَا قُلْت أَوْ: صَدَقْت.. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ يُسَمَّى الْبَحْرُ لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ.. وَعَنِ الأَعْمَشِ: خَطَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ ـ الْحَجِّ ـ فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَيُفَسَّر فَجَعَلْت أَقُولُ: لَوْ سَمِعْتُهُ فَارِسَ وَالرُّومِ لَأُسْلِمَتْ..

وَنَرَى وَرَع سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ لِمَا سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ (الْأَبِ) فِي قَوْلِهِ وَفَاكِهَةٍ وَأَبًّا مَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَيْ سَمَاءِ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا أَعْلَم.

يَأْتِي عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِعِلْمِه فَيُفَسِّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: “وَفَاكِهَةً وَأَبًّا” هُوَ أَنْ “الْفَاكِهَة” تَشْمَلُ كُلَّ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ ثِمَارِ الْأَشْجَارِ، أَمَّا “الْأَبُ” فَيُشِيرُ إلَى مَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامِ مِنْ عُشْبٍ وَنَبَات، وَهُوَ كُلُّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِمَّا لَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ.

وَكَيْفَ لَا وَهُوَ مِنْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمَةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنَّ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنَّ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ

العُنْصُرُ الثَّالِث : وَفَاةُ سَيِّدِنَا عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّتِهِ

عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قُدْوَة لِلشَّبَاب

مَا أَحْوَجَ شَبَاب الْإِسْلَامِ إلَى اسْتِحْضَارِ سَيْر الْعُظَمَاءِ مِنْ الشَّبَابِ، وَاسْتِبْدَالُهَا بِسَيْر الْعَابِثِين مِنْ الرِّيَاضَيِّين وَالمُمَثَّلِين وَالْمُغَنِّين وَأَضْرَابِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ أَسْبَابِ تَأَخَّر الْمُسْلِمِين إهْدَار طَاقَات الشَّبَاب، وَإِفْسَادِهَا بِالشَّهَوَات، وَإِبْرَاز الْقَدَوَات السَّيِّئَةُ لِلشَّبَاب عَبَّر الْإِعْلَامِ.

وَمَا أَحْوَجَ الْابَاءَ وَالْمَرْبُيْن إلَى إبْرَازِ هَذِهِ النَّمَاذِجِ الْوَضِيئَة مِنْ الشَّبَابِ لِتَكُون قُدْوَة لِشُبْاب الْيَوْم

وَمِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ سِيرَةِ سَيِّدِنَا عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

– صِغَرُ السِّنِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ وَالْمُنَافَسَة فِيه

– أَهَمِّيَّة مَرْحَلَةُ الشَّبَابِ فِي تَحْصِيلِ مَا يَنْفَعُ فِي الدَّيْنِ وَالدُّنْيَا

– ضَرُورَة مُصَاحَبَة الصَّالِحِينَ لِمَا لَهَا مِنْ الْأَثَرِ الْكَبِيرِ فِي صَلَاحِ الْإِنْسَانِ

– عَدَمُ الْإِصْغَاءِ لِكَلَامِ الْمُثَبِّطِين وَالْمُخَذِّلين

– احْتِرَامُ الْكَبِير وَتَوْقِيرُه

– الْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ لَا تُنَالُ إلَّا بِالتَّعَب وَبَذْلِ الْجُهْدِ
أَلَا لَيْتَ شَبَابِنَا يُعْلَم اغْتِنَام الْوَقْت وَالسَّعْي كَمَا أَوْصَى النَّبِيُّ
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسَ: شَبَابَك قَبْلَ هَرَمِك، وَصِحَّتَك قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِك، وَحَيَاتَك قَبْلَ مَوْتِك)).

وَفِي التَّأْكِيدِ عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ مِنْ الْعُمْرِ بَيْنَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ الْإِنْسَان سَيَسْأَل أَمَامَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ خَاصَّةً، مَعَ سُؤَالِهِ عَنْ عَمْرَةَ عَامَّة، رَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ ادَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عَمْرَةَ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالَهُ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ)).

وَرُوِيَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِى صَحِيحَيْهِمَا، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سَبْعَةَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ)) وَذَكَرَ مِنْ بَيْنِهِمْ ((وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةٍ اللَّهُ)).

وَأَنَّ الْمُتَأَمِّلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَمَا جَاءَ فِي سِيَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَجِدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّهُمْ بِالنُّبُوَّة وَهُمْ فِي مَرْحَلَةٍ الشَّبَاب؛ لِمَا فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ مِنْ وُجُودِ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا شَابًّا، وَلَا أُوتِيَ الْعِلْم عَالِمَ إلَّا شَابًّا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْايَةِ فِي حَقِّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقُولُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبْرَاهِيمُ ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: 60]، وَقَالَ اللَّهُ فِي حَقِّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿ يَأَيُّحيي خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ [مَرْيَمَ: 12]، وَقَالَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الْقَصَص: 14]، وَقَالَ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يُوسُف: 22].

وَلَقَدْ أُوحِيَ اللَّهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سِنِّ الْأَرْبَعِينَ وَهُوَ سِنُّ اكْتِمَال الشَّبَابِ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدٌ الْحُفَاؤُه بِالشَّبَاب، شَدِيدُ الْحَبِّ لَهُمْ، شَدِيد الْعِنَايَة بِهِمْ، فَالشَّبَاب بِلَا نِزَاعٍ هُمْ مُسْتَقْبِل الْأَمَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ، الشَّبَاب هُمْ أَمَل الْأَمَةِ بَعْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَالشَّمْس لَا تَمْلَأُ النَّهَارِ فِي اخِرِهِ كَمَا تَمْلَأ النَّهَارِ فِي وَسَطِهِ وَأَوَّلُه، تِلْكَ هِيَ مَرْحَلَةُ الشَّبَابِ، وَمَرْحَلَة الطَّاقَة، وَمَرْحَلَة الْفُتُوَّة، وَمَرْحَلَة الْعَمَل، وَمَرْحَلَة الْإِرَادَة.

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، أَنْ قَضِيَّة التَّرْبِيَة الصَّالِحَة الصَّحِيحَةَ، قَدْ شُغِلْت الْابَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَالْمَرْبُيْن وَالْمُرَبِّيَات، كُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ جِيلًا قَوِيًّا، جِيلًا يَكُون شَامَةَ فِي جَبِينِ التَّارِيخَ، يُعِيدُ لِلْأَمَة أَمَجَادِهَا، وَيَحْيَى لَهَا ذِكْرُهَا، وَمِنْ أَهَمِّ وَسَائِلُ التَّرْبِيَةِ الصَّحِيحَة: التَّرْبِيَة بِالْقُدْوَة؛ فَإِنْ لِلْأَفْعَال تَأْثِيرًا لَا يَقُلْ أَثَرَهُ عَنْ الْأَقْوَالِ وَالتَّوْجِيهَات، وَالنَّاسُ -كَمَا يَقُولُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يَتَعَلَّمُونَ بِاذَانِهِمْ؛ بَلْ بِعُيُونِهِمْ.
وَتَأْتِي مَحَطَّة النِّهَايَةِ إلَّا وَهِيَ وَفَاة حَبْرُ الْأُمَّةِ وَبَحْر عُلُومِهَا فَقَدْ
رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَشَهِدَتْ جِنَازَتِه، فَجَاءَ طَيْرٌ لَمْ يَرَ عَلَى خِلْقَتِهِ وَدَخَلَ فِي نَعْشِهِ، فَنَظَرْنَا وَتَأَمَّلْنَا هَلْ يَخْرُجُ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ نَعْشِه، فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الْايَةِ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، وَلَا يَدْرِي مِنْ تَلَاهَا: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكَ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَتْ ﴾ [الْفَجْر: 27 -30]؛ (مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ، جـ 3، صـ 543).

أُصِيبَ اِبْنُ عَبَّاسٍ بِالْعَمَى فِي أَوَاخِرِ حَيَاتِهِ، وَمَاتَ عَامَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ عَامًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْحَنَفِيَّة؛
رَحِمَ اللَّهُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ وَاسِعَة، وَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ الْجَزَاء، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنَّ يَجْمَعُنا بِهِ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنْ الْجَنَّةِ

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ

وَأَقُمْ الصَّلَاةُ